هل الوعي مادة؟
علي محمد اليوسف
2020-08-26 03:15
هل الوعي يمتلك خواص المادة مثل الحركة والامتداد والابعاد؟ وهل تمتلك المادة خاصية التفكير الواعي منفردة على خلاف خاصية تفكير الوعي في تعبير اللغة عن مدركات العقل المادية؟ هل المادة عقل مفكر ذاتيا يعي تفكيره؟ وهل الفكر جوهر مادي مستقل عن منظومة العقل المتعالقة بادرك الموجودات؟ وبأي وسيلة تعبير تمتلك المادة الافصاح الاستدلالي عن وجودها الانطولوجي دونما ادراك الوعي العقلي لها في غيردلالة اللغة؟. نقصد بالمادة هنا كل موجود غير عاقل يمتلك صفات وماهية المادة كمتعين انطولوجيا يدركه العقل ولا يدرك هو العقل.
لقد "وضع هوبز النزعة الآلية في الامتداد، واضاف جوهرا آخر للمادة هو التفكير لكي يفسح في المجال لوعي الانسان الذاتي، وجعل من هذين الجوهرين – يقصد المادة والوعي – يعتمدان على الله".
هذا الاجتزاء الذي اوردناه يحيلنا الى عديد من التساؤلات المتناقضة:
– الوعي ليس مادة بالمعنى الحسي المتعين انطولوجيا، وصفات الامتداد والحركة الآلية في المادة لا غبار عليها، والوعي لا يمتلك خواص المادة ولا صفاتها باستقلالية عن منظومة العقل الادراكية من ضمنها اللغة، ولكي يكون الوعي متعينا مدركا أنما يكون في امتلاكه قابلية التحول من موضوع لا فيزيائي الى لغة تعبير فيزيائي في التفكير بشيء مادي أو بموضوع خيالي. والا اصبح الوعي من افصاحات النفس تجريدا التي هي ليست موضوعا مدركا باستقلالية عن العقل. بل مفهوما بتعبير العقل لغة عنه.
بمعنى لكي يكون الوعي موضوعا مدركا عقليا علينا ربطه باللغة في موضعتهما الاشياء التي يعبرّان عنها. وبغير تلازم الوعي مع لغة التعبير لا يبقى وجود له في عالم الموجودات الخارجية في التعبير اللغوي المتموضع معه الوعي في كل شيء يدركه العقل بوعيه فيه وتعبير اللغة عنه. وبغير هذا التلازم بين الوعي واللغة وبين الوعي والعقل يكون الوعي صمتا تفكيريا بالذهن داخليا فقط.
بعبارة ثانية الوعي هو تموضع لغوي صامت في التعبير خارجيا عن مدركات العقل، واللغة تموضع افصاحي عن مواضيع ادراك الوعي لها. الوعي حلقة ضرورية داخل منظومة الادراك العقلي لا يمتاز بخصائص المادة ولا يمتلك خاصية أن يكون موضوعا تجريديا يدركه العقل.
– الوعي حلقة تجريد يمتاز بها العقل ويمارسها وسيلة معرفية شأنه شأن اللغة، وليس الوعي جوهرا ماديا مستقلا ذاتيا ايضا. فكلاهما الوعي واللغة حلقتان تجريديتان في منظومة العقل الادراكية. وكما لا يستطيع العقل جعل اللغة موضوعا مستقلا في ادراكه لها، كذلك يعجز العقل أن يجعل من الوعي موضوعا يدركه باستقلالية لوحده خارج منظومة الادراك.
ولا يكون الوعي موضوعا مستقلا لادراك العقل له، فالوعي شأنه شأن الزمن ليس موضوعا لادراك العقل بل وسيلة ادراكه لمواضيعه، كذلك اللغة هي تجريد تعبيري للعقل لكنها ليست موضوعا مستقلا في امكانية ادراكه لها، وعندما نفكر بشيء ما أو موضوع ما فنحن نفكر به لغويا تجريديا – وتموضعيا ماديا، أي بمقدار ما تكون اللغة تجريدا في تعبيرها الفكري عن الاشياء بمقدار ما تكون جزءا متموضعا ماديا في التعبير عن تلك الاشياء كموجودات تحمل لغة افصاحاتها معها…. اللغة ليست خاصية الفكر التجريدي في التعبير بل هي لغة تمثل جزءا متموضعا في كل شيء يدركه العقل. اللغة ليست ادراكا تجريديا فقط وانما هي صفة ملازمة للاشياء التي يدركها العقل ليس بلغته بل في اكتشافه تموضع اللغة بها ويقرأها العقل وعيا تجريديا لغويا.(لنا موضوع قادم يبين توضيح موضعة اللغة).
وحينما يدرك الوعي المادة كتجريد لغوي فهو يكتسب خصائص الموضوع المادي المدرك المنفرد بلغة الذهن الصامت. بمعنى الوعي لا يكون ماديا حسّيا في تعبيره اللغوي عن الاشياء وأنما يبقى الوعي تجسيدا لغويا تجريديا في التعبير عن مدركات العقل. الوعي أكثر تجريدا صامتا من تجريد اللغة الصامتة والافصاحية معا، كون الوعي فهم معرفي صامت وليس تعبيرا ادراكيا تصوريا مثل اللغة يمكن معرفته من خلال تعبيره عن موضوعه الذي يجري التفكير فيه ويعيه العقل.
وحينما يعي الوعي ذاته بمعنى حينما يعي الانسان وعيه لذاته فهذا لا يخرج عن اصل التعبير في معنى مرادف هو ادراك العقل لذاته كموضوع الذي هو ماهية الانسان الفردية التي لايدركها سوى صاحبها، في مطابقة الوعي المجرد مع كينونة العقل الفيزيائية التجريدية لغويا في تعبيره عن مدركاته وفي تعبيره الواعي عن كينونته الذاتية.
وفي كلتا الحالتين لا يكون الوعي موضوعا منفصلا لادراك العقل بل وسيلة استدلالية له في معرفته الاشياء. الوعي لغة عقلية صامتة واللغة وعي ناطق في تعبيرات العقل عن مدركاته.
– ليس هناك من علاقة ادراكية حسية ولا حتى علاقة تخييلية ميتافيزيقية، ترتبط بهما (المادة والوعي) في أمتلاكهما خاصية الحركة والامتداد والابعاد. فالمادة والوعي جوهرين متكاملين في وظيفة الادراك العقلي لكنهما جوهرين منفصلين كموضوعين في ادراك العقل لهما. ولا يمتلكان (المادة والوعي) الاستقلالية التأهيلية الانفصالية أحدهما عن الاخر ليدخلا في علاقة معرفية وادراكية مع الله كما ذهب له هوبز. اختلاف المادة عن الوعي انها تمتلك صفاتها الانطولوجية كمتعين مادي يدركه العقل، وهذا ما لا ينطبق على الوعي كونه غير مادة لذا فهو ليس موضوعا مستقلا في إدراك العقل له.
فأينما وجدت المادة وجد الوعي الملازم لها في أمكانية ادراكها. وهناك فرق جوهري كبير بينهما سبق لنا ذكره هو أن المادة تكون موضوعا للعقل بينما لا يكون الوعي موضوعا مدركا للعقل، لذا فالحركة والامتداد والابعاد هي صفات للمادة فقط ولا تكون صفات ماهوية أو خصائصية للوعي الذي هو تجريد لا مادي حاله حال اللغة والزمن.
– التفكير ليس آلية خاصية تمتلكها المادة أية مادة، فالمادة لا تفكر نتيجة الوعي الادراكي العقلي لها الذي هو جوهر لغوي تجريدي لا مادي، بل الوعي ينوب عن لغة تفكيرالعقل في موضعته الاشياء المادية ويبقى ادراك اللغة المتموضعة بالشيء تجريدا تفكيريا للعقل وتبقى المادة وجودا انطولوجيا في ذلك الادراك مستقلة وجودا. بمعنى لا توجد خصائص معينة تجمع المادة بالوعي على أنهما جوهرين منفصلين وليسا جوهرين متداخلين داخل منظومة العقل الادراكية الواحدة.
– صفتا الحركة والامتداد اللتان تمتلكهما المادة كجوهر، لا يمتلكهما الوعي كتفكير مجرد في تعبير اللغة عن مدركات العقل الا فقط بارتباط الوعي بموضوعه المادي ويكتسب منه الحركة والامتداد بتجريد منفصل عنه.. وهنا يكون الوعي الملازم لادراك الشيئ في مجمل تحولاته وتغييراته هو (زمن) ادراكي ملازم للشيء بفارق أن الوعي زمن مفارق لموضوعه بعد الادراك العقلي له بخلاف الزمن الذي يلازم الموجودات ولا ينفصل عنها الا بوسيلة واحدة حينما يكف العقل عن ادراك شيء يكون استغنائه عن زمن ادراك ذلك الشيء قائما بالانفصال عن العقل وليس بالانفصال الزمني عن الموجودات المادية، الزمن ملازم دائم للاشياء فكل مدرك مكانا هو مدرك زمانا وبغير هذا التعالق الزمكاني لا يقوم العقل بوظيفة ادراكه الاشياء، ولا يكون الزمن ملازما العقل الا وقت حاجته ادراك الاشياء، لذا فالانسان يكون متحررا من سطوة الزمن الادراكي عليه في حالة اللاشعور وفي اثناء النوم.
وعندما نؤشر على وجود شيء أنما يكون تاشيرنا مرادفا متعالقا مع زمن ادراكه، في حضور الوعي معه زمنيا ادراكيا. الوعي بالشيء مرتهن بملازمة زمن الادراك لذلك الشيء، والزمن يلازم العقل في حضوره الادراكي فقط ويلازم الشيء مكانا في كل الحالات وجميع الانتقالات والسيرورة والحركات. وجود الشيء هو زمن وجوده الانطولوجي، بينما وجود الوعي تعبير لغوي صامت لا علاقة مركزية دائمية تربطه بالتبعية بالشيء المدرك خارج تبعيته منظومة العقل الادراكية.
أما أن يكون الوعي منفردا باستقلالية كجوهر ميزته حركة أمتدادية في الاشياء فهذا ما لا يقبله علم وظائف وفسلجة الاعضاء كون الوعي هو حلقة غير منظورة ولا محسوسة ولا تمتلك استقلالية تفكيرية دونما ارتباطها بمنظومة العقل الادراكية في معرفة الاشياء والتعبير لغويا تجريديا عنها.. فالوعي يبقى حلقة تجريدية تفكيرية لا مادية يتوسط الحواس والذهن ولا يمتلك الاستقلالية ولا قابلية أن يكون موضوعا مدركا انطولوجيا متعينا بابعاد مثل الحجم والكتلة والارتفاع والطول والعرض الصلابة وحالات السيولة والغازية وغيرها من خصائص مادية ممكن ادراكها بالحواس.
– والوعي الذاتي هو وعي العقل لكينونته البشرية المرتبطة بفيزياء الجسم وليس الوعي المرتبط بموضوعه المادي خارجيا في تجريده اللغوي الذي هو خاصية الوعي المجرد وليس خاصية المادة كموجود انطولوجي شيئي. وعي الذات يختلف جوهريا عن وعي الاشياء والموجودات الخارجية والمحيط.
– الوعي الذاتي هو جزء ادراكي في لغة تفكير العقل فهو يعي ذاته والمواضيع الخارجية لكنه لا يكون موضوعا لذاته الذي هو تفكير العقل، أي لا يكون الوعي موضوعا مستقلا لتفكير العقل به، الا في ارتباطه كحلقة في منظومة الادراك العقلي، أي الوعي جوهر مجرد لامادي ويكتسب ماديته الخصائصية غير الجوهرية من المادة التي يعيها في تعبير اللغة عنها… فالوعي جوهر تفكيري صامت ويكون فكرا لغويا تعبيريا عن ذاتيته وعن مدركات العقل المادية بتعبير اللغة عن الاشياء خارجيا. الوعي هو تفكير العقل اللغوي الصامت.
– قام سبينوزا كي ينسجم مع فلسفته في وحدة الوجود بشخصنة ذات الخالق ماهية وصفات بوحدة موجوداته الموزعة على الطبيعة والانسان والكائنات وكل ما يقع تحت طائلة الادراك العقلي، معتبرا كل هذه الاشياء تفقد فرادتها “كونها تمثل جوهرا واحدا هو الله. الذي يكون الفكر والامتداد مجرد صفتين له.”
في تعبير سبينوزا السابق نجده يشخصن الله ماديا طبيعيا في وحدة موجوداته الموزعة في الطبيعة والانسان والكائنات وكل الموجودات التي يطالها العقل بالادراك، وهذه الشخصنة عند سبينوزا مادية وليست روحانية كما نجده عند الصوفية الدينية شخصنتها الذات الالهية روحانيا ميتافيزيقيا على عكس من شخصنة سبينوزا الذات الالهية ماديا طبيعيا، وبذلك جعل الله يتحكم في موجوداته المخلوقة بقوانين الطبيعة التي ندركها نحن ولا يمتلك هو- الله – قوانينه الخاصة به في قدرته تجاوز كل قوانين الطبيعة وكل معجزات الانبياء وهذا خطأ مريع في أن يكون ما هو خارج قوانين الطبيعة لا يمثّل القدرة الالهية المعجزة في أعتبار قوانين الطبيعة والموجودات ومعجزات الانبياء لا تقف عند حدود الاعجاز الالهي مثلما يقف امامها عجز الادراك الانساني لها.
ولم يكن سبينوزا موفقا في تعبيراته شخصنة ذات الخالق في امتلاكه صفتين هما (الفكر والامتداد) اللتين هما صفتين ماديتين تحكم الموجودات الطبيعية في قابلية الحركة باستثناء الانسان الذي يمتلك الفكر الذي لا تمتلكه بقية الكائنات.
من الخطأ تصنيف مذهب وحدة الوجود عند سبينوزا في تشييئه الذات الالهية يلتقي الصوفية الدينية التي تقوم ايضا على تذويت الذات الالهية وشخصنتها باستقلالية عابرة للطبيعة وقوانينها الثابتة المحكومة بها من ضمنها الانسان.
سبينوزا فيلسوف ليس صوفيا ماديا ولا صوفيا دينيا ميتافيزيقيا. ومذهب وحدة الوجود لا يبيح للصوفية الدينية تذويت الخالق بمخلوقاته في الطبيعة . سبينوزا في مذهب وحدة الوجود اراد تخليص اللاهوت المسيحي واليهودي على السواء من تذويت الخالق ميتافيزيقيا غيبيا بالانصراف الى تذويته ماديا من خلال الاحساس المباشر بأعجاز مخلوقاته في الطبيعة وهذا ما لا تقر به الصوفية الدينية التي لا تعمل بمذهب وحدة الوجود من منطلق تذويت الذات الالهية من خلال الماديات والاشياء والظواهر الموزعة بالطبيعة. بل من خلال تذويت الذات الالهية بروحانية نورانية لا علاقة لأي شيء مادي محسوس بها.
بمعنى لا تمتلك المادة خاصية الفكر باستثناء أمتلاك عقل الانسان قابلية التفكير اذا ما أعتبرنا العقل تكوينا فيزيائيا يرتبط في جسم الانسان جزءا عضويا منه ويمتلك ملكة التعبير اللغوي تجريديا عن مدركات العقل.. الفكر ملكة خاصيتها تعبير اللغة وبغير هذا التعبير يفقد الفكر حضوره الادراكي. ولا نجد في ربط خاصيتي المادة في الفكر والامتداد موفقا مقبولا، فالامتداد صفة حركية للمادة انطولوجيا بخلاف الفكر الذي هو ليس مادة مستقلة كجوهر انطولوجي قائم بذاته فكيف يتسم بصفة الامتداد والحركة المادية وهو ليس مادة؟ نجد عند عديد الفلاسفة الغربيين عندما يريدون التوفيق تلفيقيا بين المتضادات يستعينون بمرجعية الخالق التي تتوازى ميتافيزيقا الطرح الفلسفي مع منطق العقل ماديا ولا يلتقيان في تمرير تلك المتناقضات بمنطق التلفيق الافتعالي للخروج من المازق أو المعضلة التي وصلت الطريق المسدود فلسفيا.