البراغماتية ومنهج التعاون الفطري
علي حسين عبيد
2017-02-05 08:59
كثيرا من قدّم الشكر لربّه لأنه فُطِرَ هكذا على التعاون مع الناس في كل شيء، أبوه وأمه ينتميان للطبقة الكادحة، جذورهما فلاحية، فزرعا في روحه وأعماقه وقلبه وعقله نوعا من الطيبة الفطرية اذا صحّ القول، تدفعه لمساعدة أي إنسان يحتاج المساعدة، فهو لا يفكر هل يستحق هذا الإنسان المساعدة أملا، ولا يعبأ بانتمائه العرقي، ولا الديني، ولا المناطقي، ففي نظره أن الإنسان يستحق المساعدة والتعاون لمجرد انتمائه لبني آدم.
ولم يفكر في يوم ما، هل تفكيره هذا سليم أم مجافي للسلامة، وهل من الأفضل أن تساعد المحتاج من دون أن تعرف مدى حاجته لصحة الاحتياج، أبوه وأمه علّماه أن يقدم ما يتمكن عليه للناس بغض النظر عن معرفة مدى حاجة الإنسان الفعلية لتعاونه، لم يخطر في باله أن بعض الناس ربما لا يستحقون التعاون معهم، فكل من يطلب العون في رأيه، يستحق ذلك، فيندفع لمؤزرته بكل ما يستطيع ويمتلك، ولم يفكر في لحظة ما، هل هو يقوم بعمل صحيح أم خاطئ، إنه يؤدي هذا العمل مثلما يتنفس الهواء أو يشرب الماء، إنه يحتاج الى أن يتعاون ويساعد من يحتاج المساعد مثل حاجته للطعام أو الكلام.
فأين الخطأ في أن تساعد المحتاج؟ هكذا سأل نفسه وهو يستعيد حالة الأذى المرير التي عاشها بسبب العقوق الذي تعرض له من أقرب الناس إليه، إنه ذو صلة دم معه، تعب من أجله كثيرا، صرف عليه دم قلبه، وأمواله وجهوده، فعل ذلك عندما كان أخوه ضعيفا في كل شيء، ضعيفا في قواه الجسدية والمادية والتعليمية، فأخوه لا يمتلك المال، ولا العمل، لذلك تبّناه كم لو أنه ابنه، فبعد أن تخلى عنهم الأب، بادر الأخ الأكبر لتحمل المسؤولية، شمّر عن سواعده وراح يكدح ليلا ونهارا، حتى يؤدي واجبه إزاء عائلته وأخيه.
كل ما كان يتمناه أن يكون قادرا على ملأ حياة عائلته وأخيه بالسعادة، فسعى بكل جهوده الى تقديم كل ما يحتاجه أخوه من مأكل وملبس وسكن ومصاريف دراسة وترفيه، لم يتركه بحاجة لشيء ، وكان يسأله على مدار الساعة اذا كان هناك نقص ما يعاني منه، كان همه الأول أن يقوم بعمل الخير، وأن يحتضن أخاه كما لو أنه أبوه بالضبط، وكان يقول للقريبين منه، أنا لا أعمل ذلك لأنه أخي ابن أمي وأبي، بل أفعل ذلك لسبب آخر، فأنا أحب الإنسان، ولن أتخلى يوما عن مساعدة أي شخص يحتاج الى مساعدتي، مدفوعا بقول للإمام علي (ع): (لكلّ شيء ثمرة وثمرة المعروف تعجيله).
لماذا نساعد الآخرين؟؟
هل ذلك الأخ يستحق الرعاية، وهل يمكن أن تنتظر منه مقابل؟ إزاء مساعدتك واحتضانك له، بالطبع ينبغي أن لا تنتظر شيئا مقابل ما قدمته، هكذا يقول الحكماء، لذا فإن السؤال الذي يرد في العنوان الفرعي أعلاه ربما يثير أسئلة لا حصر لها، وقد يثير بعض الاستغراب أيضا، وربما ينطوي على شيء من التبسيط أو السذاجة، إذ هل يصح أن نسأل لماذا نساعد من يحتاج مساعدتنا، ثم هل ينبغي أن نساعد من هو بحاجة لنا أم نتخلى عنه؟؟، إن هذا النوع من الأسئلة لا ينبغي أن يخطر في بال من يريد أن يتعاون مع أبناء جلدته، فالمساعدة والتعاون شيء غير قابل للتساؤلات، إلا لدى الأشخاص الذين يضعون المصلحة الفردية قبل كل شيء، أي هناك بشر لا يمد يده بالعون لأحد إلا مقابل فائدة يخطط ويرسم لها.
بعضهم يقول هذه سياسة فردية وجماعية، وقد تكون دولية، أي تجري بين بعض الدول وفق (البراغماتية) الغربية، فهناك في الغرب من قال (ليست هناك صداقات دائمة بل هنالك مصالح دائمة)، وإذا حاولنا العثور على صحة هذه الفلسفة فإننا في الحقيقة قد نجد ظروف معينة أحاطت بها وحولتها من أفكار فلسفية مجردة، الى تطبيق فعلي، والسبب أن حياة الناس بصورة عامة أخذت تميل الى المادية أكثر من سواها.
لهذا تدهورت القيم، وقلَّ عمل الخير المجاني، وانحسرت الفائدة التي يمكن أن يقدمها الناس الى غيرهم (لوجه الله)، بل لابد أن تكون هناك مصلحة مقابلة لفعل المساعدة لكي يقوم بعضهم بالتعاون مع الآخرين، هل مثل هذا السلوك رائج على نحو واسع في وقتنا الحالي؟، الجواب نعم هناك بشر لا يمكن أن يفكر بمساعدة شخص ما إلا إذا وضع تلك المساعدة في إطار المصلحة، ولكن في السابق أي في زمن آبائنا وأجدادنا الذين تربّوا في ظروف أصعب من ظروفنا (من الناحية المالية على الأقل)، لكنهم كانوا أكثر رحمة ورأفة تجاه بعضهم البعض.
وكان الرجل أو الإنسان الذي يسعى الى مساعدة الآخرين بلا مقابل، محترما عند الجميع وكان مقبولا عند العقلاء، وكانت مكانته كبيرة بين الجميع، أما اليوم فيُقال على مثل هكذا شخصيات بأنه (من المبذرين) أو أنه غير حريص على أمواله ومصالح عائلته، وسوى ذلك من الكلام الذي لا يمكن أن يعبّر عن الحقيقة الأخلاقية بصورة صحيحة، فمثل هؤلاء الناس الكبار في عطائهم وتعاونهم مع الآخرين، هم المثال الأروع للتعاون الإنساني بلا أي مقابل، فالمساعدة لديهم غير مقرونة بالمصلحة، ولا ينتظرون أية منفعة ممن يقدمون لهم المساعدة.
إنما هم يقدمون على مساعدة من يحتاجهم كونهم يؤمنون بهذا السلوك، تطبيقا لقول الإمام علي عليه السلام: (اصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، واستشعروا الحمد يأنس بكم العقلاء).
ترسيخ مبدأ المساعدة
في ظل التحولات السريعة للتفكير البشري، خاصة في المجتمعات التي باتت مهددة بالمنهج المادي وانتشاره في جميع التعاملات اليومية بين الأفراد والجماعات والدول، هل يصح التبادل بالمثل في قضايا التعاون والاحتياج، وهل يعني هذا أن الإنسان الذي لا يمتلك شيئا لسبب ما، أو انه في حالة فقر مدقع، وهذا ينطبق على الجماعات والشعوب والدول، هل يعني هذا أن الناس القادرين عن إبداء المساعدة أن يكفوا عن هذا الفعل إلا في حالة تلقي ما يقابل مساعداتهم بالمثل؟.
بالطبع لا يمكن أن يُشاع مثل هذا الأفكار أو القيم، لا على مستوى العلاقات الفردية في المحيط الواحد، ولا على مستوى الجماعات والدول، فالصحيح دائما هو مد يد العون لمن يقدر على ذلك، ولمن يحتاج المساعدة، أما ما الذي يدفع الناس الى مثل هذا السلوك، فإن إنسانيتهم وحدها تكفي للمبادرة بذلك، فضلا عن أن الأديان والأخلاق والإنسانية تدعو الجميع الى مساعدة من يستحق المساعدة.
أما إذا ربطنا أية مساعدة بالحصول على مقابل يضاهيها، فإن الفقير أو الجائع سوف ينتهي نهاية مروّعة، وهناك فقراء ومحتاجون من دون أن تكون لهم حالة قصور في تعرضهم للفقر، نعم هناك فقير وُلد في حاضنة فقيرة ودولة فقيرة ومجتمع فقير، فلماذا يكف القادرون الأغنياء عن مساعدتهم؟ ولماذا يربطون هذه المساعدة بالمصلحة المقابلة، علما أن الفقراء تعرضوا الى أبشع الانتهاكات التاريخية عندما قامت الدول الاستعمارية بغزو بلدانهم وأراضيهم، وسابوا ونهبوا ثرواتهم وخيراتهم، وتاجروا حتى بالبشر في موجات الرق المعروفة التي تعرض لها الأفارقة وغيرهم.
واليوم يقولون عنهم فقراء لا يمتلكون الذكاء الكافي، أو يجدون تبريرات واهية للتخلي عن مسؤولياتهم ازاء المجاعات التي تضرب شعوبا كاملة، إن العلاج الصحيح هو تحمل الدول الكبرى والمجتمعات التي تقول بأنها متقدمة وإنسانية، عليها أن تقوم بمسؤولياتها في معالجة الفقر وتمد يد العون والمساعدة للشعوب المحتاجة، أما البراغماتية فهي قد تصح في ظروف معينة، لكنها لا تنطبق على الفقراء أصلا وهم غير مسولين عن فقرهم.