مواهب على طريق الإبداع
علي حسين عبيد
2016-05-04 05:31
في عام 2005، التحقتُ بكادر اذاعي جيد في اذاعة تم فتحها حديثا في مدينتي، معظم الكادر كان من الاصدقاء الادباء والكتاب والاعلاميين الذين عملت معهم سابقا، بدأت بعملي في هذه الاذاعة الفتية التي سرعان ما حققت حضورا واسعا في المدينة، وصار لها جمهور كبير ومتنوع، ركزت في عملي الاذاعي على البحث عن المواهب في جميع المجالات، وخاصة الأدبية والفنية منها، كنت أظن أننا نعاني من قلة المواهب بسبب طبيعة المجتمع المحافظة، ولكنني عندما بدأت في بث بعض البرامج الأدبية التي تهتم بالشعر، استطعت أن أكسب عددا من الكتاب والكاتبات الشباب، ثم سرعان ما التحق قسم منهم الى العمل معنا وأبدعوا أيما إبداع، في مجال اعداد البرامج بمضامين مختلفة، مع تقديمها بأصوات رائعة متميز.
فيما دخل قسم آخر منهم في مجالات العمل الاذاعي الفني، كالمونتاج، والاخراج، وما شابه، والواقع بعد أن بدأ كادر الاذاعة بعدد قليل لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة، تكاثر الكادر الى اضعاف مضاعفة، وتعددت أقسام الاذاعة وفتحت معهدا للتدريب الاذاعي والاعلامي، وراح عدد من الاساتذة المختصين يدربون أعدادا لا بأس بها من الطالبات والطلاب الذين تدربوا نظريا وعمليا على فنون العمل الاذاعي فضلا عن بعض الفنون الاخرى كالخطابة والإلقاء والكتابة مختلف انواعها.
اليوم وأنا ألقي نظرة على المؤسسات والمنظمات الاعلامية ومنظمات المجتمع المدني وسواها، أجد حشودا من الشباب الذين يعملون بها وقسم منهم درسوا في اذاعة كربلاء، ثم اصبحوا اليوم رؤساء ومدراء ومعلمين للشباب، وهذا أمر رائع يدل على أن الجهد الذي قدمناه قبل اكثر من عشر سنوات انا وعدد من اساتذة المدينة من كتاب وادباء والاعلاميين وفنانين، قد حقق الغرض منه، وانتج مواهب تؤثث اليوم المشهد الاعلامي والفني والاذاعي والتلفازي في المدينة.
إن الموهبة من وجهة نظري، عبارة عن (بذرة إبداع) موجودة في داخل كل انسان، هناك من يتنبّه لها ويرعاها بصورة جيدة، فتنمو وتدفع بصاحبها نحو عوالم الابداع المختلفة، وهناك من يهملها، وينشغل بالتفاصيل اليومية الصغيرة، ويأخذه هذا الانشغال الى شواطئ أخرى بعيدة عن مجالات الإبداع، وهناك من يتكاسل ويُصاب بالخمول، وتشغله الرغبات الآنية ذات الطابع الغريزي، فيهمل موهبته، يهمل تلك البذرة الصغير التي تكون في حاجة ماسة للرعاية والاهتمام، ولكنه قد يدفع بها الى الموت، بسبب عدم الاهتمام بها، وهكذا يتحول الى انسان عادي، لا يترك بصمة خاصة للآخرين، بعد رحيله من عالمنا.
أسباب وراء قلة المواهب
كما ذكرنا توجد لدى كل انسان موهبة، اذا لماذا تقل المواهب، ولماذا نجد كثيرا من الشباب بعيدين عن الابداع؟ أين المشكلة بالضبط ومن يقف وراءها، نعم عندما نتابع الحياة في مدينتنا على الأقل كوننا نعيش فيها، سوف نلاحظ أعدادا كبيرة من الشباب الموهوبين وهم يعانون من الفراغ، أو أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون؟؟، وأين يذهبون بقدراتهم الادبية والفنية والاعلامية والعلمية، أين يعملون ومن يمد لهم يد العون، مئات إن لم نقل آلاف من الشباب يلتهمهم الفراغ والمقاهي، يدخنون الأرجيلة بيأس ومنهم من ينحرف مع مجاميع منحرفة، فيفقد موهبته، ليس هذا فحسب بل يصبح عالة على أهله وعلى المجتمع.
لماذا يتم إهمال الشباب، توجد لدينا مؤسسات تعلن أنها اعلامية، او ثقافية او ابداعية فضلا عن المؤسسات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني، لماذا لم تعتني هذه المؤسسات بالشباب، لماذا لم تأخذ بأيديهم، أليس من واجب هذه المؤسسات والمنظمات أن تمد يدها الى هؤلاء الشباب، تحتضنهم وتقدم لهم المشورة والتدريب، وتساعدهم كي يتقنوا العمل في مجالات الصحافة والاعلام وفنون الكتابة والمسرح والتمثيل والعمل التلفزي والاذاعي وفن التصوير والاخراج والتصميم وكل الفنون التي يمكن أن تستوعب مواهب الشباب؟.
لماذا لم تبادر هذه المؤسسات لمساعدة الشباب (ذكورا وإناث) لاسيما الخريجين منهم، فبعد مسيرة حافلة بالعلم تمتد قرابة عقدين يقطعها الطالب والطالبة حتى ينتهي من مرحلة الجامعة، ليجد نفسه وجها لوجه أمام الضياع والمجهول والبطالة والفراغ الذي يعبث بحياته، هل درس كل تلك السنوات وتعب هو وعائلته وبذل الجهد والمال والصبر... ليصل الى هذه النتيجة القاسية؟؟، نتيجة البطالة والفراغ وضياع الموهبة، حتى الذين يحصلون منهم على مكان للعمل بشق الأنفس يجدون أنفسهم في مجالات عمل لا تناسب ولا توافق طبيعة تحصيلهم العلمي، فالمهندس يعمل في بنك، أي يكون محاسب أو اداري، وخريج المحاسبة يعمل في الصحافة، والاعلامي يعمل مراقب عمل، وهكذا تضيع سنوات الدراسة هباءا.
من هو المتسبب في هذه الأوضاع المؤسفة، لماذا يتم وأد المواهب بهذه الطريقة المؤسفة، لماذا لا نجتهد نحن المسؤولين عن هؤلاء الشباب لكي نضع أقدامهم على السكة الصحيحة، ولا تندثر مواهبهم وتضيع سدى؟؟، هل هناك فرصة كي نقوم بعملنا الصحيح ونحتضن الشباب؟؟ بطبيعة الحال نعم لدينا اكثر من فرصة كي نساعد الشباب للاحتفاظ بمواهبهم واستثمارها لصالح المجتمع والدولة ولصالحهم، وإليكم هذه التجربة العملية.
تجربة عملية في مساندة الشباب
انا شخصيا أعمل في مؤسستين، استمر عملي فيهما ما يقرب من عشر سنوات، مهنتي هي الكتابة، في السابق كنت مختص في الكتابة الابداعية فقط (قصة، شعر، نقد)، ثم اصبحت الكتابة الصحفية مهنتي ومصدر رزقي، لم أتخيل يوما، أنني وعائلتي سوف نعيش على الكلمات، ولكن هذا الذي حدث ولا يزال يحدث، هاتان المؤسستان أتاحتا لي فرصة الاهتمام بالشباب(ذكور وأناث)، وساعدتني كي أقد بعض ما أمتلك من خبرات في مجالات الكاتبة وفنونها، لعدد من الطلاب في دورتين متعاقبتين.
الدورة الأولى تكونت من عدد من الطالبات، لهنّ رغبة في الكتابة، بدأنا نحضر معا مرة كل اسبوع، محاضرتان طول المحاضرة ساعة ونصف، نلتقي بشكل دوري مرة واحدة في الاسبوع، ثلاث ساعات فقط، ثم نتواصل عن طريق وسائل الاتصال المتوافرة، الفيس بوك والإيميل وما شابه، بدأت أنقل خبراتي في الكتابة، واكتشف مواهب الطالبات، ورحنا نواصل التدريب والعمل بجد ونقاش وكانت الرغبة في النجاح تجمعنا، في غضون أشهر بدأت النتائج تظهر على السطح، صار بإمكان بعض الطالبات أن يكتبن القصة الخرية، والخبر الصحفي، والتحقيق الصحفي، مع التعاون المتبادل والمراقبة والتصحيح وتقديم الملاحظات حول أهمية المران والتمرس والقراءة والدخول في الميدان الجديد لعملنا بقوة.
انتهت الدورة الاولى لنحصل على ست او سبع كاتبات تقريبا، دخلن عالم الاحتراف وبدأن يكتبن المقالات والتحقيقات والقصص الخبرية وينشرن ذلك في المواقع الالكترونية والصحف بعضها راسخة، وبعض الكاتبات حصلن على فرص عمل في هذا المكان او ذاك، وبدأنا مع دورة اخرى، استقطبنا فيها أعدادا اخرى ممن يرغب في اكتشاف موهبته ورعايتها، هاتان المؤسستان قدمتا كل هذه الخدمات مجانا، وهذا هو واجب المؤسسات المعنية بالشباب وتطوير المجتمع، حيث بدأنا في صقل مواهب جديدة نعمل بجد ومثابرة من اجل وضعها على طريق الابداع الصحيح.
الخلاصة يوجد لدينا الكثير من الشباب الذي يبحث عن نافذة أمل كي يجد نفسه من خلالها ويحقق ذاته، يحتاج هؤلاء الشباب الى مساندة كي يحققوا حضورهم الجيد في المجتمع، وهذه المساندة يمكن أن تقدمها المؤسسات المذكورة، على أن تقدم تلك المساندة بصورة جادة، نظرية عملية، وليست شكلية من اجل تحقيق بعض الأهداف الآنية، لأن مهمة هذه المؤسسات الأولى تتركز في مجال تطوير المجتمع، والشباب منه على وجه الخصوص.