العلاقة الجدلية بين المسرح والحياة
علي حسين عبيد
2015-12-29 08:10
المسرح له قدرة على تثقيف الناس عندما يعرض لهم تاريخهم المشرق وتجاربهم الخلاقة، الناس ترغب ان ترى حياتها وتاريخها على المسرح، وتجربة الكاتب الاديب رضا الخفاجي غنية في هذا المجال، فقد كتب سلسلة من المسرحيات التي تدخل في اطار ما أطلق عليه بالمسرح الحسيني، ومن خلال اطلاعي على مضامين تلك المسرحيات، رأيت قدرة للخفاجي على ضخ الافكار والمضامين التي تهدف الى توعية الانسان وتثقيفه، وتطوير قدراته لصناعة واقع أجمل وأفضل.
عالمنا يشكو من فقدان العدالة، هذه الجملة من أوائل الأفكار التي صدمتني عندما دخلت عالم القراءة، فقلما وجدت مفكرا او داعية أو فيلسوفا راضيا عمّا يحدث بين بني الانسان، بشقّيهم الحاكم والمحكوم، كلاهما يشكو من الآخر، وثنائية الحاكم والمحكوم تجر خلفها ثنائيات كثيرة وكبيرة، من قبيل، القوي والضعيف، الغني والفقير، العادل والظالم وسواها من الثنائيات المتضادة، فمثلا قبل 1400 انبثقت واقعة الطف وحفرت احداثها (الأبدية) في ذاكرة الزمن.
مبعث هذا الانبثاق ذلك الصراع المستمر بين العدل ونقيضه وهو عدم الإنصاف والظلم، واستمر المنهج الحسيني بالحضور والتفاعل والتأثير على نحو متصاعد، حتى في المفاصل او العهود السلطوية التي يخبو فيها هذا الصراع، فإن ذلك يحدث من باب الهدنة المؤقتة وليس المهادنة، فالحق لا يهادن الباطل، وربما يصمت الحق فترة معينة لأسباب قهرية، ولكن سرعان ما تتقد جذوة العدالة، وتبدأ جولات جديدة من الصراع بين طرفي المعادلة.
يتضح هذا الجانب في المحور الفني الذي تم وفقه، تشييد هيكل النص المسرحي (رماد الخلود) المنشور في مجلة (المسرح الحسيني/ عدد شعبان 1436هـ/ أيار2015م) للشاعر والكاتب المسرحي رضا الخفاجي، (وهو شاعر مخضرم، مضت على حضوره في المشهدين الادبي والفكري العراقي والعربي، عقود متتابعة، تمخّضت عن عشرات الكتب والمقالات النقدية في الشعر والمسرح، مع كتابات في القصيدة الحسينية والاهازيج الشعبية في مواكب العزاء، مستمدا ذلك من جذوره العميقة، في المكان والخلق)، وقد سعى الشاعر الى توظيف الصراع بين العدالة ونقيضها، معتمدا على (الوقفة البطولية الخالدة لزيد بن علي عليهما السلام)، والتي لم تجد العناية التي تيتحقها من الكتاب والأدباء، على الرغم من أن وقائعها تطاول أعظم الوقفات الانسانية البطولية عبر التاريخ الانساني كله.
إننا في هذه المسرحية سوف نلاحظ اصرار (زيد ع) على خوض المنازلة الكفاحية الشرسة التي قرر الاستمرار بها ضد السلطة الخارجة على الدستور الاسلامي والاعراف والقيم والاخلاق المتعارف عليها عبر الأزمان، ويجيء اصرار (زيد بن علي)، بل يزداد رسوخا، على الرغم من معرفته أن الاستشهاد والموت هو امر واقع في نهاية المطاف، وليس هناك أمل بعودة الطغاة عن قراراتهم وأساليبهم القمعية في ادارة السلطة والتعامل مع الأمة بجحود واستخفاف لا حدود لهما، وقد اتضحت تفاصيل هذا الصراع من خلال الشخصيات الرئيسية والثانوية التي تصدت لمضامين هذا العمل المسرحي، فضلا عن المجاميع التي تم توظيفها بنجاح، اضافة الى الملاحظات الفنية الدقيقة التي يقترحها المؤلف على الاخراج، فيما يخص الانارة والمؤثرات الصوتية والديكور وسينوغرافيا العرض المسرحي.
فلدينا شخصية (زيد ع) وهو لا يزال على قيد الحياة ثم شهيدا ومصلوبا على جذع نخلة لمدة اربع سنوات!، وشخصية والي السلطة الاموية في الكوفة (يوسف بن عمر)، كذلك لدينا الشخصية التي شكّلت تحديا للنص وكاتبه، مثلما شكلت تحديا للناس الذين جعلهم الخوف يفقدون شعورهم الانساني على نحو شبه تام، إنهم كما يصفهم هذا النص المسرحي المؤثر، باتوا يمرون على نحو يومي، بالقرب من جثة (زيد) المصلوبة على جذع النخلة، وهم ينظرون اليها بلا اكتراث ولا ألم ولا استغراب ولا شعور بالندم او الخذلان، مع حالة لازمتهم تتمثل بفقدان المشاعر الانسانية كافة، فضلا عن فقدانهم الأمل بالوقوف ضد الظلم الاموي.
أساليب القتل والتعذيب
الى أن يزج لنا المؤلف بشخصية الرجل الغريب، الذي دخل على مشهد او حالة الخنوع والخوف والتردد، مستهجنا موقف الناس غير المكترث بمشهد صلب جثة الشهيد لعدة سنوات، من دون ان يثير فيهم هذا المشهد تفكيرا بالثورة، مع تحريك الجانب الانساني لديهم، والعمل على تكريم الميت كما امر الله تعالى بذلك من خلال دفنه، ولكن الخوف من السلطة الاموية وبشاعة اساليبها في القتل والتعذيب وما شابه، جعل من حالة الخنوع والتردد منهج حياة للأمة، فيما يظل الرجل الغريب مصابا بصدمة رؤية الجثة المصلوبة وهو يستمع الى تحذير مبعثه جوقة تواصل كلامها بصوت عال:
(لا يا انسان، احذر أن تتقدم اكثر!!
لا تنظر للجسد المصلوب
فالمشهد يدعو للأحزان
إن كنت غريبا عن هذا المصر
او كنت بعيدا عن هذا العصر
الجوهر لا يتغير أبدا
مهما امتزجت في الألوان).
لكن مع حضور شخصية الغريب تبدأ جذوة العدالة تتعاظم، ويبدأ الناس يتساءلون لماذا لم نقم بواجبنا الانساني ازاء (زيد بن علي)، ونكرمه على الاقل بالدفن، وتحدي السلطة من خلال انهاء صلب الجثة، ويحدث هذا بالفعل، في تغيير دراماتيكي مؤثر، نجح من خلاله الخفاجي في تعميق حالة الثورة والرفض للسلطة الاموية، مع اظهار بعض حالات التردد والخوف التي لم تصمد امام اندفاع الناس نحو مقارعة السلطة.
وكان مشهد الدفن مؤثرا كونه أنهى اربع سنوات من الصلب، ولكن الاكثر إثارة واشمئزازا، اصرار (أحدهم/ خراش بن حوشب) على نبش قبر (زيد بن علي) واخراج جثته من القبر، وصلبها مرة اخرى على جذع النخل، في تحدي مثير للغرابة والازدراء، فضلا عن الهدف الاساس الذي يقف وراءه، والذي اعلنه الفاعل جهارا نهارا، عندما اعاد صلب الجثة معلنا للوالي انه قام بهذا الفعل، لكي تصل رسالتنا بوضوح الى الشعب، وهي ان مصير كل من يقف ضد السلطة الاموية لا يقل عما حصل لزيد بن علي من تعذيب وصلب.
انتصار ثورة العدل
ولعله من أهم حسنات هذا النص المسرحي المؤثر، أنه أنهى نتيجة هذا الصراع لصالح كفة الثورة العادلة، ولصالح المبادئ الانسانية السامية، أي انه قدم رؤية انسانية فنية تقف الى جانب الكفاح الانساني في صراعه الازلي ضد السلطة الباغية، والأهم من ذلك أن هذه الرؤية جاءت متناغمة مع الاحداث التاريخية لهذه الواقعة.
كذلك في الخلاصة نستطيع أن نصل الى بعض النتائج الفنية والفكرية التي انعكست عن هذا النص المسرحي، الذي يدخل في اطار تجربة رضا الخفاجي مع (المسرح الحسيني)، هذه الرحلة التي تكللت بالنجاح في ولادة عدد مهم من الاصدارات المسرحية المتسلسلة، فضلا عن تقديم الآراء النقدية المهمة في هذا المجال، عبر كتب تم ترجمتها الى لغات عالمية حية، وهو امر بالغ الأهمية يدعو للاعجاب في سعي الكاتب والاصرار على توصيل الفكر الحسيني عبر الاستخدام الفني والادبي، فقد مزج بين الشعر والمسرح والتمثيل، حتى يعرض مبادئ الفكر الحسيني، والملاحم المتفرعة عنه، كملحمة (زيد بن علي) ووقفته الكفاحية التي تدعو للرهبة والاعجاب، إن رضا الخفاجي وهو يحث الخطى الى أمام في مجال المسرح الحسيني منذ سنوات طويلة، يجعلنا ننظر بعين الغبطة الى أعماله الموسومة بالتميز والتأكيد على مضاعفة جهوده الفنية والادبية في هذا المضمار.
وخير دليل على ذلك تميزه في اصدار كتب ونصوص مسرحية حققت نجاحا راسخا، كما نلاحظ ذلك في نجاحه فنيا وفكريا في هذا النص المسرحي (رماد الخلود)، ملقيا الضوء على واقعة ربما لم تحصل على ما يوازيها من بطولة وتفرد، مستخدما طرائق فنية تعتمد تأجيج الصراع بين الثبات على المبدأ، والخنوع من جهة، وبين مواصلة الكفاح الانساني ضد السلطة الغاشمة، والرضوخ لها خوفا او رغبة بالمنافع المادية الزائلة.
وفي العموم نحن نقف أما نص مسرحي، مزج بين النثر والشعر الممسرح، وقدم هيكلا فنيا ومعمارا متضافرا، تصارعت فيه اتجاهات فكرية ومبدئية عديدة، كان الهدف منها، أن الانسان مهما تضاءلت ارادته وضعفت عزيمته، سيبقى بانتظار الفرصة الملائمة للعودة الى جادة الحق والصواب، وتأجيج جذوة الكفاح ضد السلطة الظالمة، شريطة أن يكون الايمان بالعدالة محرك ووقود للكفاح الانساني على نحو دائم.