قلم باركر
مذكرات قابلة للنسيان (12)
علي حسين عبيد
2023-12-06 07:56
تكرّر ذهابي إلى مركز المدينة في هذه الأيام، فقد طلب الخياط أن أزوره أكثر من مرة لغرض ضبط قياسات بدلتي التي باشر بخياطتها، وحين أذهب لمركز المدينة، كنت لا أركب في سيارة الأجرة حتى أتحاشى دفع المبلغ المطلوب، وإنْ كان قليلا، وحين أسير فوق رصيف الشارع، كان بصري ينشغل بشيئين متناقضين هما الأرض والسماء.
وأنا أحثُّ الخطى نحو مركز المدينة كنتُ أمشط الأشياء المرمية على الأرض ببصري، ألتقطها شيئا بعد آخر، حتى لا يفلت أحد الأشياء من بصري، نعم كنت أرى كل شيء يقع أمامي أثناء مسيري، كأنْ يكون علبة سجائر فارغة على قلّتها، لأن معظم المدخنين كانوا يلّفون سجائرهم بأيديهم، وكانت تسمى (سجائر لف)، وقد أرى كيسا فارغا، أو ورقة رسم سقطت من طفل في الابتدائية، أو قطعة قماش بالية، أو (قبق) غطاء قنينة شراب سفن آب أو مشن أو ببسي.
وهكذا أستمر بالانشغال بأشياء الأرض وكان هدفي العثور على شيء مفيد، قطعة نقود مثلا أو أي شيء من هذا القبيل، وبعد أن يدبّ اليأس في نفسي من موجودات الأرض التي أمسحها كلها ببصري، أرفع رأسي نحو السماء، فأرى نتف الغيوم البيضاء تتوزع هنا وهناك، وكانت المساحات السماوية تبدو صافية إلى حد عجيب، كأنها مياه زرقاء تتكدس في أعالي السماء.
ذلك الصفاء كان يدفعني للتمني كثيرا، أغيب عن الواقع، وأدخل في مساحات الحلم، كنتُ أحلم أثناء المشي، وكنت أطلبُ من الله هدية ما، هدية جيدة، تساعدني وتسعدني وسط هذا الجدب المادي المستفحل الذي يحيط بحياتي، وكثيرا ما كنت أقع تحت ضغط التفكير بثمن القاط الانكليزي الذي اشتراه لي أبي ولم يدفع بعد فلسا واحدا من ثمنه.
كنتُ أرغب بمبلغ من المال يبعثه الله لي حتى أسدّد به ثمن القاط، كنتُ صادقا في هذه الرغبة رغم صغر سني (طالب في المتوسطة)، وكنتُ أتوقع حقا أنني سأحصل عل مثل هذه الهدية من الله.
لا زلت أتذكر حالة الشعور بالذنب التي تصيبني كلما تذكرت مبلغ البدلة الانكليزية وثقل ثمنها على أبي، وكثيرا ما قلتُ لنفسي، كان عليك أن ترفض البدلة، لأنك تعرف أن أباك سوف يتعرض لضغط مالي كبير، لكنك فرحت، ولزمت الصمت، واستجبت للخياط حين بدأ يأخذ مقاسات جسمك طولا وعرضا، وشعرت بالسعادة في وقتها، ولكن كيف تُسعَد وأنت تعرف قيمة القاط التي تعادل أكثر من راتب أبيك؟
حين نظرت إلى السماء، طلبتُ من الله هدية مجزية، وفي نفس لحظة الدعاء كنتُ أتوقّع بأنَّ أقدامي سوف تتعثَّر بشيء ما، قد يكون حقيبة منتفخة بالدنانير، أو بقطعة ذهب ثمينة، أو بشيء من هذا القبيل، وأحيانا رحتُ أتخيَّل حبلا ينزل من قلب السماء تتدلى منه حقيبة فيها أموال مهداة لي، ولكن لا السماء ترسل الفلوس بهذه الطريقة، ولا الأرض تضع بين قدميك حقائب مليئة بالدنانير، لأن الفقر كان يسحق الجميع باستثناء القلة.
لم يبقَ الكثير وأصل مركز المدينة، إلى محل الخياط، اليوم هو موعد استلام القاط، وصلتُ المحل قبل حلول العصر بقليل، كنتُ في لهفة وفرح شديد كي أرى القاط وأتلمّسه، حين وصلت كان محل الخياط مقفلا، شعرتُ بالانكسار، طار السرور من قلبي، لا السماء ولا الأرض ولا الخياط يلبّون ما أحتاجه، عندها قررتُ العودة إلى البيت محبطا.
ما أن استدرت كي أعود من حيث أتيت، باغتني وجه الخياط ضاحكا، سلّم عليّ وربتَ على كتفي، وقال بصوت واثق، لقد جئت في وقتك اليوم ظهرا أكملت بدلتك، وأصبحت جاهزة، دقائق وتكون بين يديك، هل تود أن ترتديها هنا في المحل للمرة الأخيرة قبل استلامها، لم ينتظر إجابتي، أنزل القاط من الرف الخشب، ووضعه على ماكنة الخياطة وقال هيا البسْهُ.....
توقَّف الزمن، ومعهُ أنفاسي، وشرعتُ أرتدي البنطلون الذي جاء مقياسه دقيقا على أرجلي، ثم لبستُ الجاكيت، فكانت هي الأخرى دقيقة المقاس، قال الخياط: انظر في المرآة، ما رأيك؟
في الحقيقة لم أعرف نفسي، الغريب أن ذلك السمار الشديد في وجهي بدأ يتحول إلى لون حنطي، بل صرتُ أرى البياض يصبغ بشرتي، ملامح العافية والإشراق ظهرت في عيوني وفي وجنتيّ، بل في جسدي كله.
ليس هذا فحسب، فمن يقول إن المظهر لا يمثل قيمة الإنسان هو خاطئ حتما، لقد شعرتُ بالاحترام لنفسي، وشعرتُ في داخلي بثقة عظيمة، أيُ سحرٍ هذا الذي أضفاهُ القاط الانكليزي على نفسي وروحي وجسمي، لا أكذب عليكم بدأت أرى نفسي مختلفا، فقبل قليل كنت إنسانا نحيفا خفيفا لا أكاد أشعر بوزني ولا قيمتي، أما الآن مع ارتداء البدلة الغامقة أصبح الأمر مختلفا، القاط غيّر شيئا ما في نفسيتي وفي شكلي، شكرتُ الخياط وعدت للبيت كالعائد لأهله بصيدٍ ثمين.
حين دخلتُ صفّي (الثاني متوسط) مرتديا القاط الانكليزي، تحوّلت الأنظار كلها إليَّ، أنظار طلاب الصف، الغريب أنهم أصيبوا بالصمت، كأنّ داء الخرس خيَّم عليهم جميعا، أما (ماهر الدهّان) هذا الطالب البرجوازي بملابسه وشكله، بعيونه الزرق وشعرهِ الكستنائي الناعم، فظننت أنه سوف يتجاهلني، ماهر هذا كان لا ينظر إليّ سابقا، ولا يكلمني، وحين كنت أسلّم عليه، كان لا يرد سلامي إلا نادرا، أما الآن وأنا أرتدي القاط الانكليزي نظرَ إلي بعمق، تبسَّم في وجهي، وهو الذي بدأ السلام بصوت عال، فأجبتُ على سلامه بنبرة واثقة وليست عالية.
مع هذا التصرف الجديد للطلبة تجاهي، تضاعفت ثقتي بنفسي، نعم كانت ثقتي جيدة سابقا، لكنها أصبحت أقوى بكثير بالقاط الجديد، ليس الطلبة وحدهم بل حتى المدرّسين وهم يدخلون الصف، باتوا ينظرون لي بنظرة مختلفة، هكذا كنتُ أشعر، ففي ذلك الوقت لم تكن حياتنا كما هي الآن، كانت الأشياء نادرة ولها قيمتها.
في الدرس الثالث دخل علينا المدير وقرأ علينا ورقة تقول، على جميع الطلاب المشاركة بهذا اليانصيب بشكل إجباري، مبلغ الورقة (درهم واحد)، في كل ورقة رقم مخصص لها، بعد أسبوع يتم إعلان الفائز وهناك جائزة ثمينة له، لم أكن أحمل المبلغ المطلوب فاعتذرت للمدير لكنه رفض الاعتذار، سلمني الورقة بالقسر وقال غدا اجلب لي درهما من أبيك.
محال أن أحصل على هذا المبلغ من أبي، فهو لا يعترف باليانصيب ولا يصدّق بهذه الترّهات، ثم أنه لا يملك فائضا حتى يصرفه على قضايا من هذا النوع، لم أفاتح أبي، لأنني اعرف النتيجة مسبقا، وحين أخبرت أمي بحاجتي لدرهم، كأنني صفعتها بقوة، ثم استدركتْ وقالت (الله كريم يمَّه).
كنتُ مهموما أفكر بالدرهم، كيف أحصل عليه، وفكرت أن أغيب عن الدوام في اليوم التالي، ثم خطر في بالي الطالب البرجوازي (ماهر الدهان) سوف أطلب منه ثمن ورقة اليانصيب وأعيده له لاحقا، جبل من الهموم يجثم فوق صدري، لم أستطع النوم، وفي لحظات الغفوة الأولى شعرت بأصابع تمتد إلى شعر رأسي، أنامل حنونة دافئة، أشعرتني بالأمان، وما أن لا مست شعر رأسي حتى تلاشت همومي كلها، فتحتُ عيوني، رأيت كف أمي تمتد لي، قالت بحنان الأمهات العظيمات: خذ هذا الدرهم، إنه من أبيك.
مضت الأيام متسارعة خلف بعضها، نسينا اليانصيب، وبعد أسبوع دخل مدير المدرسة صفّنا، وقال على وجه السرعة، أقرأ عليكم نتائج اليانصيب، الرقم الفائز بالجائزة هو (28)، قفزتُ من مكاني، كأن جمرة لسعتني فجأة، ثم لزمت الصمت، سأل المدير بصوت عالٍ، هل يوجد هذا الرقم عند أحدكم، وقفتُ بكامل قامتي، مرتديا قاطي الانكليزي وقلتُ للمدير: نعم أستاذ بطاقتي تحمل الرقم (28)....
تقرّب المدير مني، تفحّص البطاقة جيدا، فجأة، طلب من طلاب الصف أن يصفقوا لي جميعا وفعلوا، نظر لي ماهر البرجوازي بعيون حاسدة، وهناك آخرون معه نظروا لي بنفس الطريقة، (قاط جديد وجوائز وأحوال) هكذا أخذوا يتقوّلون فيما بينهم، أهملتُ نظراتهم وكلماتهم وأنا أعيش سعادة الجائزة الغامرة، دعاني المدير أن أرافقه، خرجنا من الصف إلى غرفة الإدارة.
عدد من المدرّسين كانوا متواجدين في الغرفة، هنَّأوني بالفوز، وسلمني المدير جائزتي وهي (قلم حبر باركر طراز 21)، موضوع في علبة ذهبية جميلة وثمينة، القلم نفسه ثمين أيضا، وضعتُ القلم الباركر بين يدي وبدأت أتلفت في غرفة المدير لا أعرف ماذا أفعل بهذه الجائزة أو الهدية، وتذكرتُ جوائز السماء التي فكرتُ بها قبل أيام، وتذكرتُ أيضا الهدية التي طلبتها من الله، كنتُ أقبض على علبة القلم بقوة غريبة كأنه يريد أن يفرّ من كفّي.
رأى المدير حيرةً تطفو فوق ملامح وجهي، كنتُ مرتبكا، مشاعر كثيرة تختلط في وجهي وتظهر في نبرة صوتي، شعرتُ بالفرح، بالحزن، بالثقة، بالقلق، تذكرتُ الخياط الذي يطلب أبي ثمن خياطة بدلتي الانكليزية، هكذا خطر في بالي بغتةً، نظرتُ إلى قلم الباركر، نظرت إلى وجه المدير، عيناه كانتا تنظران إلى علبة القلم وهي في كفي وبين أصابعي، كأنَّ القلم يريد أن يهرب من يدي....
سألني المدير: ماذا ستفعل بهذا القلم يا بني؟
أجبته سريعا بلا تردد: سوف أبيعه.
فقال: لماذا تبيعه؟
لم أستطع الاجابة، كنتُ أفكر بتسديد جزء من ثمن خياطة القاط، أريد أخفّف ثقل الدَيْن عن كاهل أبي، لكنني تلعثمت، ولذتُ بالصمت، وقبل أن أجيب المدير قال:
- أنا أشتريه منك.
سلمتُ العلبة إلى المدير، وسلمني ثلاثة دنانير*، وخرجتُ من غرفة الإدارة بسرعة قبل أن اختنق، لا أعرف لماذا شعرت بالاختناق، هربتُ سريعا خارج الغرفة، بل فررْتُ خارج المدرسة كلَّها، وفي وقت ليس طويلا وصلتُ إلى مركز المدينة، وها أنا أقفُ عند محلّ الخياط المغلق بانتظار أن أسدّد له ثلاثة دنانير من ثمن خياطة بدلتي الانكليزية.
*هامش: الدينار العراقي الواحد يساوي 20 درهما، والدرهم عملة فضية لم يعد لها وجود ولا تعامل في العراق الآن.