العراق: من الديمقراطية اللفظية إلى الفعلية

علي حسين عبيد

2020-08-19 08:16

محاورة جرت بين شخصين في مقهى مكتظ بالعشرات، رجّح فيها أحدهما الفعل على اللفظ في نقل التجربة من شخص إلى آخر، وأكد مرارا بأنه كان يسمع بالأخلاق منذ نعومة أظفاره، وكان الجميع يتحدث بألفاظ راقية عن التعامل الإنساني القائم على القيم الجيدة، لكنه كما قال تعلّم الأخلاق من الأفعال التي رآها من أبيه وأمه، وأكد قائلا: إنني تعلمت الأخلاق من أبي ليس باللفظ وحده، وإنما مما كنت أراه من أفعاله الإنسانية العالية.

لذلك يذهب علماء الاجتماع إلى أن الإنسان أسرع استجابة للعمل منه للقول فيما يخص نقل التجارب وتطوير المهارات، بمعنى أنه يستجيب للوسائل العملية أسرع من اللفظ أو الكلام المسموع الذي ينقل له التجربة نفسها، وتبدأ علاقة الإنسان بتحصيل الخبرات والمهارات منذ نعومة أظفاره، فلوحظ أنه يستوعبها بصورة أسرع وأدق فيما لو تعلّمها بصورة عملية.

ينطبق هذا على التجارب الأخرى كالديمقراطية، فهي مفهوم سياسي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ومما لوحظ أن السياسيين في العراق يتحدثون كثيرا عن الديمقراطية كمنهج لإدارة العلاقة بين الشعب والسلطة، ويَظهرون في وسائل الإعلام المختلفة في تصريحات وحوارات ومؤتمرات، ونسمع منهم كلاما مشجعا على الديمقراطية وأفضليتها في صنع الأنظمة السياسية.

لكننا حين نأتي إلى واقع الحال سوف نلاحظ أن تصريحات وألفاظ الساسة المنسقة والجيدة لا ترقى إلى الفعل أو التطبيق في الواقع، لأن التنظير عن هذه التجربة أو تلك، سوف يبقي على التجربة في حيّز القول أو اللفظ المجرد، أي تنحصر الفائدة في الجانب اللفظي، لذا ينصح المعنيون بأهمية الإسراع في نقل التجربة من القول إلى العمل.

الحرية هي القاعدة الأساسية للدستور

بخصوص الديمقراطية كمصطلح، هناك مجلدات كبيرة وكثيرة كُتبت عنه، فقد كتب أرسطو عن الديمقراطية، كما ورد في كتابه الذي يحمل عنوان (السياسة)، حيث فضل الحكم الديمقراطي على سواه قبل ما يقرب من 2500 سنة، قائلا لجمهور القراء، في الوسطين السياسي والعام أن الحرية هي القاعدة الأساسية للدستور الديمقراطي.

جاراه في هذا المسار الكثير من الفلاسفة والمفكرين والمعنيين بعلم السياسة، فقد دوّنوا مئات الكتب والمجلدات عن الديمقراطية وأهميتها وخصائصها وسماتها، وما يتمخض عنها فيما لو كانت هي الطريق إلى إدارة شؤون الدولة سياسيا، ولكن يبقى الفعل الديمقراطي المرئي والملموس هو الأهم، لكي تقطف الشعوب ثمار الحكم السياسي الجيد.

نحن ندعو ونرغب أن تتحول الديمقراطية في العراق من كينونتها النظرية التي اطّلعنا عليها بما يفوق المطلوب، إلى تأثيرها الفعلي، ونقلها من حالتها اللفظية الفكرية المجردة إلى فعل يلمسه الناس في حياتهم من خلال تطوير النظام السياسي وعمل الحكومة بما ينعكس إيجايا على حياة الناس وجعلها أكثر تطورا وتنظيما ورفاهية.

في العراق مضت سنوات طويلة ونحن نتحدث عن الديمقراطية ونكتب عنها، وأعني بـ نحن: السياسيين والكتاب والمفكرين وعموم طبقات المجتمع العراقي. حيث يلهج الجميع بهذا المصطلح، ويبدو ذلك واضحا في لغة الشارع ولغة النخبة على حد سواء، ولكن من الملاحظ أننا كشعب وكنخبة سياسية لم ننتقل حتى الآن بصورة حقيقية من الديمقراطية اللفظية إلى الديمقراطية الفعلية!، وهو أمر يستدعي مخاطر لابد من تجاوزها، وهذا لن يتحقق إلا بانتقال الديمقراطية من اللفظ إلى التطبيق الفعلي كمنهج سلوكي فكري يغيّر حياة العراقيين ويطورها.

معجبون بالديمقراطية ولا نعمل بها

جميع العاملين في الميدان السياسي (كتل سياسية، وأحزاب، وحركات وشخصيات مستقلة)، الطبقة السياسية الحاكمة أو الفاعلة في المجال السياسي يجب أن تؤمن بهذا النوع من الانتقال، فنحن كأننا ندور في حلقة مفرغة، كلنا نتكلم عن الديمقراطية ولا نعمل بها، لذلك نحن لا نلمس تأثيرها في تغيير حياتنا وسلوكنا، ولو أننا جميعا قررنا التحوّل بالديمقراطية من اللفظ إلى الفعل، لكانت حياتنا أفضل بكثير مما نعيشه اليوم على الصعيد السياسي والحياتي.

ومع أننا نقر بوجود الأسباب التي تجعل من اللفظ الديمقراطي يتفوق على العملي أو الفعلي، لكن ينبغي أن لا يتوقف الأمر عند حدود هذه المعرفة، بمعنى يجب أن تكون هناك مبادرات عملية مهمة وصحيحة، تنهض بها الجهات المعنية وفي مقدمتها طبقة السياسيين، ثم الجهات الداعمة كأساتذة وأكاديميّي العلوم السياسية والإعلام والكتاب والمصلحين والمثقفين والمفكرين.

هذه المبادرات من المهم أن تضع قضية تفضيل الفعل الديمقراطي في المقدمة من مهامها، على أن يتم نشر هذا النوع من المبادرات بين عموم طبقات وشرائح المجتمع، بدءاً من الطبقات الأعلى وعيا والأكثر تأثيراً لكي تتحول الديمقراطية إلى ثقافة سلوك ونمط حياة يتبناه الجميع، وهذا التأكيد على الطبقات الأعلى وعيا ومسؤولية، يأتي من كونهم النموذج للآخرين.

رئيس الوزراء ووزراؤه والمدراء وعموم السياسيين ديمقراطيون في أقوالهم، وهذا يتضح من تصريحاتهم المتلفزة وغيرها، لكن الصحيح أن تتجسد الديمقراطية في أفعالهم وليس في أقوالهم فحسب، وإذا حدث مثل هذا التحوّل الكبير وابتدأ من الكابينة السياسية الأعلى، فإن طبقات وشرائح المجتمع الأخرى سوف تتحول من الديمقراطية اللفظية إلى العملية، وعندها يصبح مصطلح الديمقراطية ليس لفظا مجردا يردده (البائع المتجول) والوزير من دون فائدة، بل تصبح الديمقراطية منهج حياة ودليل عمل يلتزم به جميع العراقيين لأنه سوف يطور حياتهم.

مدير المدرسة عندما يفهم الديمقراطية ويؤمن بها، عليه أن ينقلها من حالة اللفظ إلى الاسترشاد بها في التعامل مع الطلبة والكادر التدريسي، ينطبق هذا تماما على مدير عام الدائرة الرسمية، وعلى العائلة ورب الأسرة، على أن يكون النموذج الأول للجميع (الحكومة ومؤسساتها)، ويمكن تحويل الديمقراطية إلى منهج عمل، عندما تصبح ثقافة (آلية) تنتشر بين الجميع، ليس باللفظ وحده، وإنما بالتجارب العملية الملموسة التي تنعكس على تنظيم المجتمع وسلوكه.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا