كاميرا السبت: صورة وحوار

علي حسين عبيد

2019-10-12 05:00

غرفةٌ شحَّ في الضوء، واستفحل فيها الظلام، تجلسُ الأم وحدها في وسط الغرفة، ظهرها نحو الباب المغلق، ووجهها يتجهُ نحو الجدار، إلى أعلى الجدار صورة لشاب لم يطأ بعدُ سقفَ العشرين، عيناه يعرِّش فيهما خليط من الحزن والأمل، ملامحه بريئة لكنها حازمة، يمكنك أن تقرأ في صفحة وجهه تأريخ من الحزن والظلم والأسى.

هو أصغر أخوته الثلاثة، اثنان غيّبهما الموت في الحروب والإرهاب، أحدهما ترك زوجة شابة وطفلٌ وطفلة بعمر الزهور، الأب مات مقهورا على ولديْه الشهيدين، وبقيت الأم وحدها في دار تغصّ بذكريات مؤلمة، كان ابنها الأصغر الذي تبقّى لها يطفئ آلام الذكرى، وكانت أمه تحلم بملء البيت أطفالا وحياة.

ذات يوم ليس ببعيد جلس ابنها الوحيد، وقرَّب فمه من أذن الأم وقال لها:

- لقد أحببتُ يا أمي وأريد الزواج!

لا تعرف الأم حينها ماذا تفعل أو ماذا تقول، الدهشة صعقتها، والدموع هجمت على وجنتيها، وبدأت تحلم بأولاد وبنات وأجساد كثيرة تطرد الوحشة عن البيت الذي تركه زوجها وولديْها وذهبا إلى السماء، إلى العالم الآخر، وتركوها مع ابن شاب وحيد تخشى أن لا يستجيب لنصائحها، إنه يثور ويغضب لأسباب قد تكون بسيطة، وحين سألته لماذا تثور فجأة يجيبها:

- أمي جيلنا الشبابي يشعر بالظلم والغبن والإهمال، وأنا لا أختلف عن هؤلاء الشباب.

تقول له أمه:

- أنت لستَ بحاجة لشيء، لا ينقصك البيت ولا المال، البيت بيتك وما ورثته عن أبيك بين يديك.

يجيبها الابن:

- لا يكفي ذلك، البيت والمال لا يكفيان، أريد أن أعمل، أريد أن أشعر بجدوى وجودي بالحياة، أنا لستُ نكرة، أنا عقل وروح وجسد وقدرات.

تصمت الأم وتوافق ابنها على رأيه وأحلامه وأهدافه، فالإنسان قيمته تكمن بما يقدّمه وينجزه ويتميز به، ومن دون ذلك لا يحقق الإنسان ذاته، ومرحلة الشباب هي أكثر المراحل حاجة لتحقيق الذات وشعور الإنسان بقيمته في المجتمع.

فكرت الأم أن تفتح بسطية (جمبر) صغير لابنها كي يسترزق منه، ووافقها، وفعلا وجد له مكانا على أحد أرصفة مركز المدينة، وبدأ عمله، وأخذ بتصاعد نجاحه ويكثر رزقه وينجح في عمله، فقد توسعَ (الجمبر) وازداد البيع وتنامى الرزق على الرغم من مضايقات بعض الجهات الرسمية لأصحاب البسطيات، ولكن ذات يوم وهو يتجّه صباحا إلى رزقه وجد كل شيء محطّما، وتناثرت بسطيته مع الركام الهائل في منظر عشوائي مقزز.

عاد إلى البيت مهضوما يأكله الشعر بالظلم والغبن، وجهه محتقن بالغضب، وصل البيت، استقبلته أمه بالأحضان كعادتها، لكنه ابتعد عنها وهو يصرخ (هذا ظلم هذا ظلم هذا ظلم) ودخل غرفته وأغلق عليه الباب، وبدأت أمه تطرق عليه بقوة وترجوه أن يخبرها بما حدث، لكنه بقي ساعات وحيدا داخل غرفته، يحيط به الصمت، والقهر، والغضب.

الأم حاليا وحدها في البيت الكبير، لا أحد معها، حتى ابنها الصغير الذي اكتسحوا بسطيته قبل أسابيع لم يعد موجودا معها، إنها الآن تجلس في غرفة ابنها الأصغر الوحيد الذي تبقّى لها من عائلتها، بدأت تنظر إلى صورته المعلقة في أعلى الجدار، وأخذت تحلم بعودته وهو يطرق باب البيت ويدخل عليها، بوجه ملؤه الفرح والسعادة، يقترب منها، يطبع قبلة على جبينها وظاهر كفّها ثم يطلب منها بفرح غامر أن تذهب إلى بيت الجيران وتخطب له الفتاة التي يحبها ويروم الزواج منها، تتخيل الأم لحظات الزفاف، ومع الأيام تركّز نظرها على بطن الزوجة الذي بدأ يكبر وينتفخ بجنين، ثم آخر، وثالث، ليمتلئ البيت بالأطفال، تقول لنفسها (ما أسعدني، لقد تحقق حلمي وها أنّ البيت يغصّ بالأحباب والحياة مجددا)، لكنها في لحظة تعود إلى واقعها، وتعرف أنها وحدها في البيت تحيط بها الوحشة ويمزقها انتظار الابن الوحيد الذي بقي لها في الحياة.

الأمّ تنظر إلى صورة ابنها، دمعها ينسكب مدرارا، تعاتبه وتقول له:

- لا تخرج للمظاهرات، ليس لي غيرك في الدنيا!

- لكنهم حطموا قلبي وقطعوا رزقي!

- ستحصل على غيرها يا ولدي.. أعدكَ بذلك..

- الوعود وحدها لا تكفي، أنا لم أعد أطيق هذه الحياة، أريد أن أتزوج وأعمل وأنتج وأتقدم.. وأسافر.. وأنعم بحقوقي.. متى يتحقق لي كل هذا متى متى .......

تعود الأم من ذكرياتها إلى طرقات على باب البيت، تفتح الباب، ترى مجموعة شباب، بعضهم أصدقاء ابنها وآخرون لا تعرفهم، وجوههم متعبة، يرسمها العطش والجوع والقهر، تسأل أحدهم وهو صديق ابنها:

- أين ابني، أين كريم، هو صديقكم، لماذا ليس معكم؟

ينسحب الشباب، يبتعدون عن باب البيت، يلاحقهم صوت الأم، أين ابني، أين كرييييييييم؟؟؟؟، شاب واحد فقط يقترب منها، يهدّئ من روعها، ويقول لها:

- أنا أبنك، فلا فرق بيني وبين ابنك كريم الذي التحق بأبيه وأخويه وبركب الشهداء.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا