اختراق المنطقة الحساسة
محمد علي جواد تقي
2016-11-09 09:24
جاء عن نبي الله، عيسى، عليه السلام، أنه قال: "أحبوا أعدائكم..."، بمعنى لا تقتصر على الإحسان اليه، إنما أبدي له مشاعر الحب، وجاء في سيرة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، أنه كان في إحدى حروبه مع الكفار، وسمع أن هؤلاء الكفار قد نفذت أغذيتهم، فجمع النبي كمية من الغذاء من اصحابه ليعطيها الى الكفار الذين يقاتلوه، وعندما استغرب المسلمون هذه المبادرة وسألوا النبي الأكرم عن السبب، وأن الأجدر قتلهم، أجابهم، صلى الله عليه وآله، بالتأكيد لما يذهبون اليه من كون الكفار أعدائهم، بيد أنه أكد ايضاً على الجانب الانساني، كون أولئك بشر، يجوعون ويعطشون، فلنسعفهم بالطعام... ما الحكمة من هذا العمل الذي لا يشبه، بأي حال من الاحوال، الاعمال الحربية في سوح القتال؟، وما علاقة المشاعر الانسانية بالحرب الدائرة بين صفين مفترقين بأشد الاختلاف؟.
سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في حديث مسجّل له، يكشف عن وجود "خطّة حكيمة الى أبعد الحدود من قبل الرسول الاكرم، لان عندما بعث النبي الطعام، تملّك العجب جميع الكفار، والعجب هنا؛ من أخلاق رسول الله، ونفس العمل كرره أمير المؤمنين في حرب صفين، عندما سيطر معاوية على ماء الفرات، وقال: لا تسقوا علياً وأصحابه قطرة واحدة، وبعد فترة استعاد جيش الامام السيطرة على الماء، عندها طلب الامام، عليه السلام، بأن ينادوا في معسكر معاوية؛ ألا من أراد أن يشرب من الماء فليتقدم ويشرب...!
يتساءل سماحة الامام الشيرازي من خلال هذين المشهدين: بأن "كيف سيطر الإمام علي، عليه السلام، على العالم اليوم؟، إنها الأخلاق... ونفس العمل قام به الامام الحسين، عليه السلام، عندما سقى أعدائه المتمثلين آنذاك بالحر وافراد جنده، بالماء، وبعد فترة ليست بالطويلة منع نفس هؤلاء الجنود، الامام الحسين من الماء. فمن الذي يسيطر على العالم؟ الامام الحسين، أم يزيد، وفي العالم هنالك الآلاف والملايين من حوادث القتل تحصل في العالم ولم يبق منها أي شيء يذكر...".
هل تتكرر التجربة؟
من الملاحظ في أوساطنا الثقافية وجود نوع من الصعوبة في تطبيق مواقف وأعمال النبي الأكرم، وايضاً أمير المؤمنين، عليهما السلام، على واقعنا الحاضر، لأسباب عديدة يعدونها مبررة، بيد أن ثمة سبب ذاتي له مدخلية في فن التعامل مع العدو في ساحة المواجهة، فالعدو الرابض في الجانب الاخر من ساحة المعركة، جديرٌ دائماً بالموت قبل أي شيء آخر، ومن المهم جداً قطع كل سبل النجاة عنه لتحقيق النصر.
وهناك من يقول: "إذا لم تدخل الرعب في عدوك لن يهابك فينتصر عليك..."، وهذا صحيح من الناحية النظرية في قواعد الحرب، ولكن؛ هل يتعين علينا تركيز قوانا على الجانب القتالي والجهد العضلي؟ وهل نضمن استمرار تماسك هذا الجهد ومعه العدّة والعدد، اذا ما استغرقت الحرب مدة طويلة؟.
وحتى المستحدثات في علم الحرب من "حرب الاستنزاف" و"الحرب النفسية"، وغيرها مما يحقق النصر بأقل الخسائر، لن تخرج من دائرة الحرب ولن تجنبنا المضاعفات الجانبية، كما هي الأدوية المصنّعة لمختلف الامراض، يتناولها المريض ليشفى من مرض، فيما تترك أثاراً جانبية سيئة على خلايا وغدد دون شعور من صاحبها.
فمن يخطر على باله عملية اختراق للعدو، ليس بطريقة التسلل بالضفادع البشرية – مثلاً- او إنزال المظليين وغيرها، إنما باختراق القلوب والنفوس؟.
فاذا كانت الحرب النفسية تستهدف الاذهان تشويشاً وتضليلاً، فان الحرب الناعمة على جبهات القتال – إن جاز التعبير- والتي تستهدف المشاعر والعواطف، أقوى سلاحاً وأسرع تأثيراً على العدو.
ربما يتصور البعض إن تقديم المساعدات الانسانية، من غذاء او دواء لأفراد الجيش المقابل، من شأنه تعزيز قواه، وهذا يتعارض مع منطق العقل، ولكن؛ يخفى على هذا البعض الرؤية الاستراتيجية لما بعد هذا النوع من التعامل الذي يخترق أهم منطقة حساسة في كيان الانسان وهي المشاعر الانسانية وأول ما تفعله؛ التحييد وتكوين منطقة فراغ بين الصفّين، وتجرد العدو من مشاعر العداء مهما كانت الدوافع التي أتت به الحرب، لأن ببساطة؛ فان الجندي المقاتل، يحمل المشاعر الانسانية قبل المشاعر القومية او العرقية او السياسية وحتى الثأر وأي دافع آخر.
هذا من جانب؛ ومن جانب آخر، فان القوة العسكرية التي يتحدث عنها البعض، لن تتمثل في افراد الجيش المقابل، إنما هي في القيادة العسكرية المتخندقة في الخطوط الخلفية، ومن خلفها القيادة السياسية في مراكز القرار، وأي خلل او تصدّع ستكون الامدادات اللوجستية جاهزة للتدخل السريع.
بيد أن المشكلة التي نواجهها دائماً؛ التسرّع في كسب النتائج، وهذا ما يدفعنا في كثير من الاحيان الى اتخاذ اجراءات او اعمال تأتي بنتائج عكسية، عندما يغلب الشعور بالتفوق او الحقّانية مما يغلق جميع المنافذ ما خلا منفذ "المواجهة السلبية" او الحرب على أن نكون أو لا نكون.
وبالرغم مما شهدناه من صنوف القتال والحرب في العصر الحديث، لم نشهد ابداً قيام القوات الاميركية – مثلاً- او غيرها من الجيوش التي احترفت القتال، أن تجرب هذا النوع من التعامل مع أعدائها، وربما تعد هذا ضرباً من المثالية في الاخلاق، وما لا ينسجم مع أجواء الحرب المعروفة، واذا كانت ثمة تفكير في هذا الخصوص، فانه يتوجه الى مقاتليهم لمزيد من التعبئة المعنوية والنفسية، وعدم ترك أي منطقة فراغ في نفوسهم.
إن رسالة الاخلاق والانسانية وسط نيران المعارك ليست من المثالية بشيء، بعد أن أثبتت جدوائيتها في التاريخ الاسلامي وتحديداً في ثقافة أهل البيت، عليهم السلام، وكيفية تعاملهم مع العدو رغم شراسته وعدوانيته، هذه الرسالة تفوق في تأثيرها القنابل المدمرة والصواريخ بعيدة المدى، لتخترق النفوس والقلوب وتدفع الى مراجعة الحسابات إزاء الطرف المقابل الذي يحرضون عليه للقتال وأنه العدو الذي يجب ان يزول من الوجود، وإذا به عدو يريد الحياة لهم، وهي مفارقة تستوقف كل ذي لبّ مهما كانت الظروف والاوضاع.