ثورة (فخ) قبسٌ من وحي الطف
محمد طاهر الصفار
2016-01-30 08:09
لم يدع العباسيون جريمة أو موبقة اقترفها الأمويون دون أن يأتوا بمثلها أو أنكر منها حتى فاقت جرائمهم وأعمالهم الوحشية بحق المسلمين عامة والعلويين خاصة جرائم بني أمية قسوة وبشاعة وهمجية ونجد في بيت الشاعر أبو عطاء أفلح بن يسار السندي المتوفى (سنة 180هـ) ما ساد تلك المرحلة من ظلم وجور واضطهاد:
يا ليتَ جور بني العباسِ دامَ لنا *** وليتَ عدل بني العباسِ في النارِ
وإذا كان الأمويون قد لطخوا تاريخهم الأسود بأبشع جريمة في تاريخ الإسلام ألا وهي جريمتهم في كربلاء بقتلهم سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين(ع) مع أهل بيته وأصحابه وحمل رؤوسهم من كربلاء إلى الكوفة فالشام وسبي نساء آل محمد، فإن العباسيين حذوا حذوهم وارتكبوا جريمة مماثلة لها بحق أهل البيت لا تقل عنها فظاعة ودموية وهي جريمتهم في (فخ) بقتلهم الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(ع) مع أكثر من مائة علوي من أهل بيته وقطع رؤوسهم وحملها إلى طاغية من طواغيت بني العباس وهو موسى الهادي بن المهدي بن المنصور الدوانيقي، وهو أخو هارون الرشيد وهم رأس تلك الشجرة الخبيثة الثانية بعد بني أمية ومن أكثر الناس إجراما وسفكا للدماء.
فقد أكمل الهادي حلقته في سلسلة هذه العائلة الإرهابية في جريمة (فخ) وتابع السير على نهج من قبله ومهد السبل لأخيه ومن جاء بعده في مسلسل جرائمهم حتى امتلأ تاريخهم الأسود خزيا وعارا، والعجب كل العجب ممن يصفهم أو بعضهم بالصلاح والتقوى والزهد وإحياء السنة وغيرها من الألقاب التي وضعها المؤرخون المتزلفون ممن باعوا ضمائرهم وأصبحوا أبواقا للسلاطين وتستروا على جرائمهم مقابل الأموال.
فالتاريخ أكبر شاهد على كذبهم وزيفهم ودحض أباطيلهم وكيف تنطبق الصفات التي أطلقها هؤلاء المرتزقة على من يرتكب مجزرة تقشعر لها الأبدان ويندى لها جبين الإنسانية وهي مجزرة (فخ) التي وصفها الإمام موسى بن جعفر الكاظم بقوله: (لم يكن لنا بعد يوم الطف مصرع أعظم من فخ) ؟؟!! وما هذه المجزرة إلا واحدة من مئات بل آلاف المجازر التي ارتكبها العباسيون بحق المسلمين عامة وأهل البيت خاصة.
وقبل الدخول في تفاصيل معركة (فخ) وأسبابها ونتائجها لا بد من التطرق ـ بإيجاز ـ إلى الإرهاب الذي مارسه العباسيون في سياستهم الدموية ضد أهل البيت.
فقد اتجهت هذه السياسة توجّهاً عدائياً مفرطاً لأهل البيت ومارست كل ما لديها من قوة وبطش للتنكيل بالعلويين والشيعة ومطاردتهم وزجهم في السجون، وبلغت تلك السياسة من عدائها حداً جعلت صفة التشيع ـ ولو كانت منحولة ـ تجر على المتهم بها أشد أنواع التعذيب والقتل والمطاردة ومصادرة الأموال وكل ما يملكه المتهم (الشيعي)، وكان أيسر على الرجل في ذلك الوقت أن يوصف بالزندقة والكفر والإلحاد ولا يوصف بالتشيع وهذه الحقيقة نراها جلية في وقائع التاريخ.
يقول عبد الرحمن بدوي في كتابه (من تاريخ الالحاد في الاسلام ص37): (إنّ الاتهام بالزندقة في ذلك العصر كان يسير جنباً إلى جنب مع الانتساب إلى مذهب الرافضة).
ويذكر أبو الفرج الأصفهاني في (مقاتل الطالبيين) عن المنصور الدوانيقي قوله: (قتلت من ذريّة فاطمة ألفاً أو يزيدون، وتركت سيّدهم ومولاهم وإمامهم جعفر بن محمّد).
ويذكر الطبري في تاريخه: (إنّه ـ أي المنصور ـ ترك خزانة فيها رؤوس من العلويين، وقد علّق في كلّ رأس ورقة كتب فيها ما يستدلّ على اسمه واسم أبيه ومنهم شيوخ وشبّان وأطفال).
ويذكر المقريزي في (النزاع والتخاصم بين أمية وهاشم): (إن المنصور في سفرته الأخيرة قال لزوجة خليفته المهدي ـ ريطة ـ إذا أنا مت في سفرتي فلا تفتحي تلك الغرف وأشار إلى بعض الغرف في قصره إلا بحضور زوجك المهدي ثم سلمها مفاتيح الغرف فظنت أنها تحتوي على التحف والأموال والمجوهرات، ويموت المنصور في سفرته فأخبرت زوجها الذي لم يختلف ظنه عن ظنها فلما فتحها وجد مئات الرؤوس في تلك الغرف وفي أذن كل رأس رقعة من النحاس عليها اسم صاحب ذلك الرأس ونسبه وكلهم من العلويين من ذرية فاطمة فأمر المهدي بدفنهم في حفرة واحدة).
وقال اليعقوبي في تاريخه (ج3ص148): (إن الهادي أخاف الطالبيين خوفاً شديداً، وألحّ في طلبهم وقطع أرزاقهم وعطياتهم، وكتب إلى الافاق يطلبهم).
ووصف الخوارزمي الرشيد في إجرامه بحق العلويين ومطاردتهم وقتلهم بأنه: (حصد شجرة النبوّة واقتلع غرس الامامة).
وبلغ العباسيون أوج عدائهم وظلمهم وجورهم على العلويين في عهد المتوكل الذي أوصى عامله على المدينة: (أنه إذا بلغه عن أحد أحسن إلى علوي أو طالبي عاقبه ونكل به ليكون عبرة لغيره ومن كان بينه وبين أحد من الطالبيين خصومة فاقبل قوله بدون بينة ولا تسمع لطالبي بينة أو قولا).
وهذه الوصية لم تكن لوالي المدينة حصرا بل لكل ولاته في جميع الأمصار حيث ضيق المتوكل الخناق على الشيعة ومنعهم من زيارة قبر الحسين وتعداه إلى هدم القبر وفي ذلك يقول الشاعر ابن بسام ابو الحسن علي بن محمد بن نصر بن منصور بن بسام البغدادي المعروف بـ (البسامي) المتوفى سنة (٣٠٣):
تالله إن كانت اُميّة قد أتت *** قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثله *** هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا *** في قتله فتتبعوه رميما
ونكتفي بهذا القدر من ذكر جرائمهم التي لا تعد ولا تحصى بحق أهل البيت كما وصفها الشاعر أبو فراس الحمداني في قصيدته (الشافية) المشهورة:
ما نال منهم بنوا حرب وإن عظمت *** تلك الجرائم إلا دون نيلكمُ
فقد واجه العلويون من ظلم العباسيين وجورهم ما لا طاقة لبشر على تحمله والصبر عليه وبلغ الإضطهاد أقصى حدوده مما اضطرهم إلى القيام بثورات عديدة ضد هذا الظلم والطغيان العباسي مستمدين من سيد الشهداء وأبي الإباء مثلهم الأعلى في رفض الظلم والسير على نهجه في مقارعة التسلط والطغيان والإستشهاد من أجل الحرية والكرامة ومن أبرز هذه الثورات ثورة الحسين بن علي العلوي (بطل فخ وأمير مكة وفاتحها).
كان هذا الثائر العلوي من أعلام بني هاشم أمه زينب بنت عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن ابي طالب (ع) قال عنه الإمام الكاظم(ع): (مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً قوّاماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ما كان في أهل بيته مثله)، وذكره المحدث الشيخ عباس القمي في (تحفة الأحباب) (ص69) فقال: (شهيد فخ جليل القدر جداً ذكرت مقتله وتاريخه في كتابي (منتهى الآمال) وقال عنه السيد تاج الدين ابن زهرة في (غاية الاختصار) (ص53): (كان جواداً، عظيم القدر، لحقته ذلة من الخليفة الهادي فخرج عليه وكان يومئذ أمير المدينة ثم سار الى مكة فقتل بفخ).
أما أسباب ثورة فخ فهي: أن موسى الهادي العباسي ولى على المدينة اسحاق بن عيسى بن علي فاستخلف الأخير عليها عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وكان عمر من أشد الناس بغضا لآل البيت فضيق عليهم وأساء إليهم وأفرط في التحامل عليهم فكان يفرض عليهم الحضور في المقصورة (إثبات وجود) في كل يوم فكانوا يعرضون في كل يوم.
يقول الشيخ محمد الساعدي في كتابه (الحسنيون في العراق) (ج1 ص154): (إن أسباب ثورة صاحب فخ نتيجة لضغط والي المدينة من قبل موسى الهادي على الطالبيين وهو عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر ابن الخطاب وإرهابه لهم وتحديه اياهم بما كان يفرضه عليهم من الحضور عنده كل يوم للعرض حذراً لما يتوقعه منهم عند غيابهم عن المدينة، فكانت الثورة في الواقع نتيجة الإرهاب والضغط الشديدين وأخذهم دعاة الحق بالقوة والأذى مع العلم أن الحسين في فترات مختلفة وبوسائل شتى حاول إيجاد التفاهم الايجابي وعدم الركون والرجوع الى القوة والحرب بينهم وبين ذلك الوالي فلم يفلح ولم يحض منه برد وقبول حسن).
فلم يكتف هذا الوالي بعرض بني الحسن كل يوم بل تعدى الأمر الى اتهامهم بما ليس فيهم فأخذ الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن ومسلم بن جندب الهذلي وعمر بن سلام وهم مجتمعون وأشاع أنه وجدهم على شراب فأمر بضربهم فضرب الحسن ثمانين سوطاً وابن جندب خمسة عشر سوطاً وابن سلام سبعة أسواط وجعل في أعناقهم حبالاً وطيف بهم في المدينة مكشفي الظهور ليفضحهم.
يقول أبو الفرج الأصفهاني في (مقاتل الطالبيين): فبعثت الهاشمية صاحبة الراية السوداء في أيام محمد بن عبد الله فقالت له: ولا كرامة لا تشهر أحداً من بني هاشم، وتشنع عليهم وانت ظالم فكف عن ذلك وخلى سبيلهم، يقول السيد الأميني في أعيان الشيعة وقول الهاشمية: (وأنت ظالم) دال على أن عمر اتهمهم ظلما وافتراء.
فجاء الحسين بن علي إلى الوالي العمري وقال له: قد ضربتهم ولم يكن لك أن تضربهم فلم تطوف بهم...؟ فأمر بهم فردوا وحبسهم ثم أن الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله بن الحسين كفلا الحسن بن محمد فأخرجه العمري من الحبس، ثم قدم الحجاج لأداء مناسك الحج وقدم من الشيعة نحو سبعين رجلاً فنزلوا في دار أفلح بالبقيع ولقوا الحسين وغيره من العلويين فبلغ ذلك العمري فأنكره وأفرط في التحامل عليهم والاساءة اليهم واخذ كل واحد منهم بكفالة قريبه وولى عليهم رجلاً يعرف بأبي بكر بن عيسى الحائك مولى الانصار فعرضهم يوم الجمعة فلم يأذن لهم في الانصراف حتى بدأ الناس يجيئون إلى المسجد، ثم اذن لهم فكان قصارى أحدهم أن يتوضأ للصلاة ويروح إلى المسجد فطال حبسهم في المقصورة إلى العصر.
ثم عرضهم فدعا باسم الحسن بن محمد فلم يحضر فقال ليحيى، والحسين بن علي: لتأتياني به أو لأحبسنكما، فإن له ثلاثة ايام لم يحضر العرض ولقد خرج أو تغيّب فشتمه يحيى وخرج فمضى ابن الحائك هذا فدخل على العمري فأخبره فدعا بهما وتهددهما وأغلظ لهما في القول فغضب يحيى بن عبد الله وقال له: ما تريد منّا؟ فقال: أريد أن تأتيانا بالحسن بن محمد، فقالا: لا نقدر عليه وهو في بعض ما يكون فيه الناس، فابعث الى آل عمر بن الخطاب فاجمعهم كما جمعتنا ثم اعرضهم رجلاً رجلاً فإن لم تجد فيهم من قد غاب أكثر من غيبة الحسن عنك فقد انصفتنا.
فحلف عمر بطلاق امرأته وحرية مماليكه أنه لا يخلي عنه أو يجيئه به في باقي يومه وليلته وأنه إن لم يجئ به ليركبن الى سويقة – منزل بني الحسن قرب المدينة – فيخربها ويحرقها وليضربن الحسين ألف سوط وحلف بهذه اليمين إن وقعت عينه على الحسن بن محمد ليقتلنه من ساعته.
قال السيد الأمين في أعيان الشيعة: (بمثل هذه السياسات الخرقاء كانت تدار بلاد الإسلام: يولى على أشراف الناس من في قلبه الضغائن عليهم حتى يحرجهم ويضطرهم على الخروج عليه فتراق الدماء وتنتهك الحرمات وتنهب الأموال ويجري أفظع الظلم والفساد. كيف يمكن أن يجيء الحسين ويحيى بابن عمهما إلى العمري ليقتله وبأي ذنب؟ أولا يجيئان به فيخرب عليهما أملاكهما التي بها معاشهما ويضرب الحسين ألف سوط وهل بعد هذا مخرج إلا الخروج عليه؟ وما هو الذنب الذي استوجبوا به هذا؟؟).
فوثب يحيى مغضباً، فقال له: أنا اعطي الله عهداً وكل مملوك لي حر إن ذقت الليلة نوماً حتى آتيك بالحسن بن محمد أو لا أجده فأضرب عليك بابك حتى تعلم أني قد جئتك وخرجا من عنده وهما مغضبان وهو مغضب فقال الحسين ليحيى: بئس ـ لعمر الله ـ ما صنعت، حين تحلف لتأتينه به وأين تجد حسناً؟ فقال: لم أرد أن آتيه بالحسن والله وإلا فأنا نفيٌ من رسول الله (ص) ومن علي (ع) بل أردت أن دخل عيني نوم حتى أضرب عليه بابه ومعي السيف إن قدرت عليه قتلته، فقال له الحسين: بئسما تصنع تكسر علينا أمرنا وما كان بيننا وبين أصحابنا من الميعاد، ــ وكانوا تواعدوا أن يظهروا بالموسم ــ أي موسم الحج فقال له يحيى: وكيف أكسر عليك أمرك، وإنما بيني وبين ذلك عشرة أيام حتى نسير الى مكة.
فوجه الحسين الى الحسن بن محمد فقال: يا ابن عمي قد بلغك ما كان بيني وبين هذا الفاسق فامض حيث أحببت، فقال الحسن: لا والله يا ابن عمي بل أجيء معك الساعة حتى أضع يدي في يده، فقال له الحسين: ما كان الله ليطلع علي وانا قادم على محمد (ص) وهو خصيمي وحجيجي في دمك ولكني أفديك بنفسي وأقيك لعل الله ان يقيني من النار.
وعملا في الخروج من ليلتهم ووجه الحسين فجأة يحيى وسليمان وإدريس بني عبد الله بن الحسن بن بن الحسن، وعبد الله بن الحسن، وإبراهيم بن اسماعيل، وعمر بن الحسن بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن وغيرهم من آل ابي طالب فاجتمعوا سته وعشرين رجلاً من ولد علي (ع) وعشرة من الحاج ونفراً من الموالي وجاء يحيى فضرب على العمري باب داره فلم يجده وجاؤوا فاقتحموا المسجد وقت الصبح ثم نادوا: (أحدٌ... أحد) فسمعهم العمري فمضى هارباً على وجهه حتى نجا وصلى الحسين بالناس الصبح ودعا بالشهود الذين كان العمري أشهدهم عليه أن يأتي بالحسن اليه ودعا بالحسن وقال للشهود: هذا الحسن قد جئت به فهاتوا العمري، وإلا والله خرجت من يميني ومما عليّ.
ثم صعد المنبر فحمد الله واثنى عليه وقال: (أيها الناس.. أنا ابن رسول الله على منبر رسول الله وفي حرم رسول الله أدعوكم إلى سنة رسول الله، أيها الناس: أتطلبون آثار رسول الله في الحجر والعود وتتمسحون بذلك وتضيعون بضعة منه؟؟
أبايعكم على كتاب الله وسنة رسول الله وعلى أن يطاع الله ولا يعصى وأدعوكم الى الرضا من آل محمد وعلى أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه (ص) والعدل في الرعية والقسم بالسوية وعلى أن تقيموا معنا وتجاهدوا عدونا فإن نحن وفينا لكم وفيتم لنا وان نحن لم نف لكم فلا بيعة لنا عليكم).
فقام اليه الناس فبايعوه ولم يتخلف عنه أحد من الطالبيين إلا الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن فإنه استعفاه وموسى بن جعفر بن محمد الكاظم (ع) فقال للحسين: (إنك مقتول فأحدّ الضراب فإن القوم فسّاق يظهرون أيماناً ويضمرون نفاقاً وشركاً فإنا لله وإنا اليه راجعون وعند الله عز وجل أحتسبكم من عصبة).
فأقبل خالد البربري وكان على مسلحة –قوة عسكرية بين (200 و400) رجلٍ- للوالي بالمدينة ومعه أصحابه في السلاح حتى وافوا باب المسجد الذي يقال له: باب جبرئيل فأراد خالد أن ينزل فبدره يحيى وضربه بالسيف على جبينه فأطار مخ رأسه وسقط عن دابته وحمل يحيى على أصحابه فانهزموا ودخل العمري في المسودة فحمل عليهم أصحاب الحسين فهزموهم من المسجد وأغلق أهل المدينة أبوابهم فلما كان الغد اجتمع عليهم شيعة بني العباس فقاتلوهم وكثر القتل والجراح بين الفريقين واقتتلوا إلى الظهر وأقام الحسين وأصحابه أياماً يتجهّزون فكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يوماً ثم قصدوا إلى مكة ومعه من تبعه من أهله ومواليه واصحابه وهم زهاء ثلاثمائة، فلما قربوا من مكة وصاروا بفخ ـ وهو واد في مكة ـ تلقتهم الجيوش العباسية بقيادة موسى بن عيسى والعباس بن محمد وجعفر بن محمد ابني سليمان فالتقوا يوم التروية وقت صلاة الصبح.
فأمر موسى بن عيسى بالتعبئة وتهيّأ للمسير إلى الحسين وأرسل من ينظر له عسكر الحسين فرجع الرسول وقال له: ما رأيت خللاً ولا فللاً ولا رأيت إلا مصلياً أو مبتهلاً أو ناظراً في مصحف أو معداً السلاح، فقال: هم والله أكرم خلق الله وأحق بما في أيدينا منا ولكن الملك عقيم!
ثم سار إليه فكان أول من بدأهم موسى فحملوا عليه فاستطرد لهم شيئاً حتى انحدروا في الوادي فحمل عيلهم محمد بن سليمان من خلفهم فقُتل أكثر أصحاب الحسين وجعلت المسودة تصيح يا حسين لك الأمان، فيقول: ما أريد الأمان ويحمل عليهم يحيى واشتد القتال وبرز أولاد علي (ع) بأجمعهم فقتل منهم جماعة ثم كثر سقوط القتلى والجرحى وتكبدت القوات العباسية خسائر فادحة لاستماتة العلويين في القتال وفي خضم المعركة رمى حماد التركي الحسين بن علي بسهم فقتله فتفرق أصحابه وقتل عدد منهم.
قطعت رؤوس القتلى وبقيت الأجساد الزكية في وادي فخ مضرجة بالدماء على وجه الأرض، يقول الطبري في تاريخه: (إن قطع الرؤوس كان يوم التروية ايضاً، فحملوها إلى مكة ومنها الى المدينة وكانت مائة ونيف رأس)، وجاء الجند بالرؤوس إلى قائدي الجيش العباسي موسى والعباس بعد أن ألقوا القبض على أغلب ولد الحسن والحسين ممن لم يشتركوا بالقتال والثورة وأحضروهم إلى المجلس فلم يسأل موسى أحداً منهم ولم يتكلم أحد منهم بشيء إلا الإمام موسى بن جعفر (ع) فقال له: هذا رأس الحسين فقال (ع): (نعم إنا لله وأنا اليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً قوّاماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ما كان في أهل بيته مثله). فلم يجيبوه بشيء ثم قيدوهم بالحبال والسلاسل وحملوهم أسرى إلى بغداد وأدخلوهم على الخليفة موسى الهادي فأمر بقتلهم وأن يصلبوا فصلبوا بباب الحبس.
روى المامقاني في (تنقيح المقال) (ج1ص337) عن الإمام الصادق (ع) قوله: (مرّ رسول الله (ص) بفخ فنزل وصلى ركعة فلما صلى الثانية بكى وهو في الصلاة وبكى الناس لبكائه (ص) فلما انصرف سألوه عن بكائه فقال: نزل عليّ جبرئيل فقال لي: يا محمد أن رجلاً من ولدك يقتل في هذا المكان أجر الشهيد معه أجر شهيدين)، وكانت واقعة فخ سنة (169هـ)، وقد استشهد مع الحسين فضلاً عن اهل بيته الذين ذكرناهم من ولد الحسن خيار الشيعة ومن أصحاب الإمامين الصادق والكاظم (ع) وقد ذكر هذه المعركة الشاعر دعبل الخزاعي في تائيته الشهيرة:
قبورٌ بكوفانٍ وأخرى بطيبةٍ *** وأخرى بـ (فخٍ) نالها صلواتي
ولم ينج من هذه المعركة غير رجل واحد هو إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(ع) الذي هرب إلى مصر في رحلة شاقة محفوفة بالمخاطر ومنها إلى المغرب ليؤسس دولة الأدارسة.