لماذا نستذكر فاطمة؟
محمد علي جواد تقي
2024-10-15 05:53
تساؤلٌ يثيره البعض عن سبب طول فترة استذكار مصاب الصديقة الزهراء أكثر فترة استذكار مصاب ابنها الإمام الحسين، عليه السلام؟ فقبل أيام بدأت الأيام الفاطمية من الرواية الاولى التي تعتمد فترة حياة الزهراء بعد رحيل أبيها بأربعين يوماً، ثم تستمر حتى شهر جمادى الاول الأول حيث الرواية الثانية في الثالث عشر منه، ثم الرواية الثالثة في الثالث من جمادى الآخر، يعني نستذكر مصابها وقضيتها على مدى ثلاثة اشهر، بينما نستذكر قضية الامام الحسين لشهرين فقط.
قضية الامام الحسين وما حصل يوم عاشوراء، نتيجة لعلّة قديمة في الأمة تعود الى أزمات نفسية واجتماعية وسياسية منذ عهد رسول الله، قبل أن تتبلور وتنفجر في حياة ابنته الزهراء، فالجُبن، والنفاق، والخيانة، والعصبية القَبَلية، والطموحات السياسية التي تظافرت كلها لتدفع المجتمع الكوفي آنذاك نحو الخطأ التاريخي المريع، كانت نسخة مطابقة تماماً لما خلفه الآباء في عهد الصديقة الزهراء.
مع هذه المعطيات، تبدو الأشهر الثلاثة ليست بكثيرة، ولا هي فترة طويلة لاستذكار قضية الصديقة الزهراء مع الأمة، ولا أجانب الحقيقة اذا قلت: إننا بمقدار تعزيز الثقافية الفاطمية –إن جاز التعبير- بين افراد الأمة، نكون قد حققنا الدرجة المقبولة من الثقافة الحسينية التي نراها في أقوال العلماء والحكماء من مختلف الاديان والمذاهب في العالم، وعلى لسان الأدباء المسلمين والمسيحيين، فضلاً عن المنابر والشعائر الحسينية، و الفعاليات المتنوعة عند شيعة أهل البيت في مختلف انحاء العالم.
بلورة الموقف العملي
قيم الحق و مسارات الباطل تمثلان واجهة لعنوانين محددين وواضحين جداً، فمن يريد الموقف القوي في الساحة يدّعي لنفسه الحقانية ويلقي على الطرف المقابل الباطل، حتى وإن كان طاغية سفّاح، وكان المتهم بالباطل مصلحاً وصدّيقاً، والتاريخ يشهد لنا بهذه المعادلة الغريبة التي صنعتها أيدي السلاطين وطلاب الحكم، وما تزال المسيرة الى اليوم، ويسوقون للتبرير حرصهم على الأمن والاستقرار ومصالح الأمة، وفي الزمن الراهن؛ ايجاد فرص التقدم والرفاهية لابناء الشعب!
عندما عادت الصديقة الزهراء، سلام الله عليها، من خطبتها الفدكية الى بيتها، لم تُبق ذرة من الأمل بالتعكّز على هذه المعادلة والتلبّس بمسوح الحقانية لمن كذبوا على رسول الله جهاراً بأنه لا يورّث، ونفوا مصداقيتها ومصداقية أمير المؤمنين والحسنين بعدم الأخذ بشهادتهما فيما يتعلق بعائدية أرض فدك لها.
ومن يراجع الخطبة الفدكية المدوية في صفحات التاريخ يلاحظ خلوها من الدوافع المادية، و مشحونة بالصفات العملية لأهل الحق، والصفات العملية لأهل الباطل، فجاءت الأدلة والبراهين قاطعة بين الصفين، ومانعة لأي توظيف سياسي:
"أيها الناس، اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمد، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تُعزوه وتعرفوه، تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم، ولنعم المعزى إليه، صلى الله عليه وآله، فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين، ضارباً ثَبَجهم، آخذاً بأكظامهم، داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام، وينكث الهام، حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر، حتى تفرّى الليل عن صبحه، وأسفر الحقّ عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلّت عقد الكفر والشقاق، وفُهْتُم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص، وكنتم على شفا حفرة من النار، مِذْقَة الشارب ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القدّ، أذلة خاسئين صاغرين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمدٍ، صلى الله عليه وآله".
فاذا ألجمت الزهراء أفواه الظالمين، و فضحت دعاة الحق المزيفين، فانها حددت الموقف العملي لابناء الجبهتين، فمن يستذكر مصابها عليه أن يكون صادقاً مع نفسه، ومع الله –تعالى- فيما يقول ويفعل، ولا يدع لنفسه مجالاً لتبرير الانحراف والخطيئة على أمل الشفاعة، لأن الزهراء تقف يوم القيامة "لتلقط شيعتها محبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الردئ"، يقول الامام الباقر للصحابي الجليل؛ جابر بن عبد الله الانصاري.
ولعل هذه تكون خطوة متقدمة للبناء الذاتي والإصلاح على صعيد الفرد والجماعة حتى لا نكرر خطأ ابناء الأمة في زمانها عندما علقت بهم أدران النفاق والازدواجية والوصولية، ورافقتهم منذ تاريخ 13للهجرة، سنة وفاة الرسول، ثم انتهاك حرمة الزهراء، وحتى تاريخ 61للهجرة، عندما اصطف الاحفاد خلف يزيد بن معاوية لقتل ابن الزهراء وسبط رسول الله.
التوازن بين العقل العاطفة
إن الصديقة الزهراء، سلام الله عليها، هي التي علمتنا أن نتخذ البكاء إحدى الوسائل لمحاربة الباطل والانحراف في الامة، وأنه ليس مدعاة للضعف مطلقاً، بل هو استذكار لفقدان العظيم، وهو رسول الله، لكنها سبقت هذه الوسيلة بامتشاق سلاح الكلمة الصاعقة على مسمع ومرأى من ابناء الأمة، فهي لم تبك من آلامها المُبرحة بعد الهجوم العدواني الآثم على دارها، وما حصل من جريمة اسقاط الجنين، واصابتها بكسور في اضلاعها، إنما بكت طويلاً لغياب الظل الممتد بين الأرض والسماء كان يحميها من "حسيكة النفاق" التي ظهرت فيما بعد، ونار الجاهلية المقيتة التي أحرقت باب دارها، كما بكت لخسارة الأمة تلك الرحمة الإلهية وهي بعد لم تستشعر جزءاً من هذه الرحمة كالأرض السبخة العصيّة على الخصب رغم عذوبة المياه المبذولة لها، وهي العالمة بأن الموت حق، وأنها لاحقة بأبيها بعد حين، فالبكاء الذي أزعج هؤلاء في المدينة، كان بمنزلة السوط على رؤوسهم بأن يعوا حجم الانحراف الذي سيدفعون ثمنه قبل الاهتمام بنوم هنيء في بيوتهم.
هذا هو البكاء الواعي الذي تعلمنا إياه الصديقة الزهراء، وأئمة أهل البيت، عليهم السلام، فربما تهيج مشاعر الانسان لأسباب مختلفة ويذرف الدموع، بيد أن أكثر الدموع فائدة في طريق الإيمان والإصلاح في الأمة، تلك التي تذكر صاحبها بالبحث عن الحقائق، وعن عوامل الجريمة والخطأ لعدم تكرارها مع معالجة الاسباب، ثم التفرّغ للبناء على صعيد الفرد والجماعة، وإلا فان البكاء لوحده يجعل الصديقة الزهراء، وايضاً؛ الامام الحسين، وسائر الأئمة المعصومين، في لوحة ذات إطار محدود وبعيد عن واقع الناس وحياتهم الواسعة الابعاد.