الإمام علي (ع) رائد السلم واللاعنف

الشيخ جاسم الأديب

2024-04-01 08:30

قال الباري تعالى في محكم كتابه الكريم (يا أيها الذين آمنوا اُدخلوا في السلم كافة) صدق الله العلي العظيم.

إن أكثر من تعرضوا لسيرة مولى الموحدين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أسهبوا في الحديث عن شجاعته وفروسيته وبطولاته المشهورة وملأوا بها المصنفات ودووا بها في كل مكان، ولكن وللأسف الشديد قلّما تجد من تعرّض لمواقفه وأحاديثه العظيمة في بعد السلم واللاعنف وكأن سيرة هذا العملاق الفواحة خلت من هاتين المفردتين، والحال أنه عليه أفضل الصلاة والسلام إلى جانب شجاعته وبأسه الشديدين كان رائدا في جانب السلم واللاعنف، حتى قال في حقه الشاعر: 

جُمعت في صفاتك الأضداد---فلهذا عزّت لك الأنداد

زاهد حاكم حليم شجاع---ناسك فاتك فقير جواد

شيم ما جُمعت في بشر قط---ولا حاز مثلهن العباد

من هنا ولكي تدفع مثل هذه الشبهة وليتعلّم العالم بأسرة من سيرة هذا الإمام الهمام الذي قدم للبشرية جمعاء خير مصاديق في جانب السلم واللاعنف وجدنا من الضروري أن نشير إلى بعض الشواهد البسيطة الدالة على التزام الإمام علي (عليه السلام) الشديد بهذين المبدئيين حتى مع أعدائه وألد خصومه ومدى حرصه البالغ على أن يعم السلم واللاعنف في العالم.

مفهوم اللاعنف والسلم عند الإمام علي (ع)

وقبل أن نستعرض الشواهد العظيمة الدالة على تأكيد أمير المؤمنين (عليه السلام) على السلم واللاعنف ينبغي أن نقف هنيئة ونلاحظ كيف فسر هذا العبقري الخالد هذين المعنيين.

ففي بعض الأخبار الشريفة الواردة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) نجد أنه كان يدعو إلى السلم واللاعنف حينما يكون الإنسان له القدرة على رد الإساءة بمثلها والبطش بالآخرين، ففي الخبر أنه (عليه السلام) قال: عند كمال القدرة تظهر فضيلة العفو.

 وقال لمولاه قنبر لما سمع أن رجلا يشتمه وقد رام قنبر أن يرد عليه، فناده (عليه السلام) قائلا: مهلا يا قنبر، دع شاتمك مهانا ترضي الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوك، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه.

وقال (عليه السلام): (إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه).

منهجية الإمام علي (عليه السلام) في السلم واللاعنف

وبعد معرفة مفهوم السلم واللاعنف عند أمير المؤمنين (عليه السلام) لننظر كيف قدم هذا الإمام الهمام للبشرية جمعاء خير منهج في السلم واللاعنف، وما هي استراتيجيته في الوصول إلى هاذين المبدئين.

فمن جانب نجد أنه (عليه السلام) حارب وبشدة العنف بشتى مفرداته حتى صارت كلماته ومواقفه تجاه كل ما يرتبط بالعنف مضربا للأمثال عبر العصور المختلفة.

فقد روى الأمدي (في كتاب الغرر) عنه (ع) انه قال: لا ترج ما تعنّف برجائك.

وقال (ع): رأس السخف العنف.

وقال (ع): راكب العنف يتعذر مطلبه.

وقال (ع): من ركب العنف ندم.

وقال (ع): من عامل بالعنف ندم.

وقال (ع): كن ليناً من غير ضعف، شديداً من غير عنف.

وقال (ع): ينبغي للعاقل اذا علّم ان لا يعنف.

 وقال (ع): من رفق بمصاحبه وافقه ومن اعنف به اخرجه وفارقه.

أما مواقف أمير المؤمنين (عليه السلام) تجاه العنف فيكفي أن نتصفح بعض الجوانب من سيرته العطرة لنرى كيف أنه (صلوات الله عليه) حارب وبشدة العنف بشتى أنواعه وبمختلف الطرق، ومن ذلك: 

ما روي أن سودة بنت عمارة الهمدانية دخلت على معاوية بعد موت علي، فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين، وآل أمره إلى أن قال: ما حاجتك؟ قالت: إن الله مسائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا ولا يزال يتقدم علينا من قبلك من يسمو بمكانك ويبطش بقوة سلطانك، فيحصدنا حصيد السنبل ويدوسنا دوس الحرمل، يسومنا الخسف ويذيقنا الحتف، هذا بشر بن أرطاة قدم علينا فقتل رجالنا، وأخذ أموالنا، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإن عزلته عنا شكرناك وإلا كفرناك، فقال معاوية: إياي تهددين بقومك يا سودة؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشوس فأردك إليه فينفذ فيك حكمه فأطرقت سودة ساعة ثم قالت: 

صلى الاله على روح تضمنها---قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلا---فصار بالحق والايمان مقرونا

 فقال معاوية: من هذا يا سودة ؟ قالت: هو والله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والله لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا فجار علينا، فصادفته قائما يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل علي برحمة ورفق ورأفة وتعطف، وقال: ألك حاجة ؟ قلت: نعم، فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: اللهم أنت الشاهد علي وعليهم، وأني لم آمرهم بظلم خلقك، ثم أخرج قطعة جلد فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين، فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام". ثم دفع الرقعة إلي، فوالله ما ختمها بطين ولا خزنها، فجئت بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنا معزولا، فقال معاوية: اكتبوا لها كما تريد، واصرفوها إلى بلدها غير شاكية.

 ولما أغار جند معاوية على الأنبار وروّع النساء وسلبوا إحدى نساء أهل الذمة خلخالها خرج بنفسه غضبان حتى انتهى إلى النخيلة، فمضى الناس فأدركوه، فقالوا: ارجع يا أمير المؤمنين فنحن نكفيك المؤنة، فقال: والله ما تكفوني ولا تكفون أنفسكم، ثم قام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه.. حتى قال (عليه السلام): وهذا عامل معاوية أغار على الأنبار فقتل عاملي عليها ابن حسان وانتهك أصحابه حرمات المسلمين، لقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينزع قرطها وخلخالها لا يمتنع منها ثم انصرفوا لم يكلم أحد منهم، فوالله لو أن امرء مسلما مات من هذا أسفا، ما كان عندي ملوما بل كان عندي جديرا.

نعم هكذا وقف مولى الموحدين (عليه السلام) وبهذه الصرامة أمام العنف قولا وعملا حتى حال دونه انتشاره وتفشيه في العالم الإسلامي.

أما الجانب الآخر من منهجيته المباركة في بسط السلم واللاعنف فيتجلى أيضا كالشمس في رابعة النهار من خلاله كلماته الخالدة ووصاياه القيمة ومواقفه العظيمة التي بيّن من خلالها الصورة الحقيقة للإسلام الخالد الذي جاء لينعم البشرية بنعمة السلم واللين.

ويكفي أن نلقي نظرة عابرة على وصاياه (عليه السلام) لعماله لنرى كيف أنه (صلوات الله عليه) كان يؤكد عليهم وبشدة أن يتخذوا السلم واللين شعارا في تعاملهم مع الرعية، ومن ذلك كتابه لحذيفة بن اليمان لما استخلفه على المدائن جاء فيه: وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى حذيفة بن اليمان، سلام عليكم، فإنّي ولّيتك ما كنت تليه لمن كان قبل حرف المدائن.. إلى أن قال (عليه السلام): وإنّي آمرك بتقوى الله وطاعته في السرّ والعلانية فاحذر عقابه في المغيب والمشهد، وأتقدّم إليك بالإحسان إلى المحسن والشدّة على المعاند، وآمرك بالرفق في اُمورك واللين والعدل في رعيتك فإنّك مسؤول عن ذلك، وانصاف المظلوم والعفو عن الناس وحسن السيرة ما استطعت فالله يجزي المحسنين.

كما بعث (عليه السلام) إلى بعض عمّاله كتاباً يأمره فيه بالتزام اللين واللاعنف في التعامل مع الرعية فقال (عليه السلام): فاستعن بالله على ما أهمّك، وأخلط الشدّة بضغث من اللين، وارفق ما كان الرفق أرفق، واعتزم بالشدّة حين لا تغني عنك إلاّ الشدّة، واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، والإرشاد والتحيّة، حتّى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك، والسلام.

وفي عهده (عليه السلام) إلى مالك الأشتر لمّا ولاّه مصر قال: وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فانّهم صنفان، إمّا أخ لك في الدين وإمّا نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاّك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنّه لا يد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمنّ على عفو، ولا تبجحنّ بعقوبة، ولا تسرعنّ إلى بادرة وجدت عنها مندوحة ولا تقولنّ إنّي مؤمّر أمر فأطاع، فإنّ ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين وتقرّب من الغير.

أما مواقفه العظيمة في السلم واللاعنف فهي لا تنكر وقد شهد بها المؤالف والمخالف ويكفينا أن التعرض إلى مواقفه مع من كانوا يعارضونه لنرى كيف أنه (عليه السلام) تعامل معهم باللين والرفق والسلم ومن ذلك: 

قوله لطلحة والزبير حينما استأذناه في الخروج إلى العمرة فقال: لا والله ما تريدان العمرة وإنّما تريدان البصرة، فكان الأمر كما قال.

وقال (عليه السلام) لابن عبّاس وهو يخبره عن استئذانهما له في العمرة: إنّني أذنت لهما مع علمي بما قد انطويا عليه من الغدر واستظهرت بالله عليهما، وإنّ الله تعالى سيردّ كيدهما ويظفرني بهما.

وقال (عليه السلام) في خطبة له في ذي القار مصرّحاً عن سماحة الإسلام وعظمة سياسته اللاعنفية الداعية إلى إتاحة الحرّيات للآخرين حتّى للمعارضة: وبايعني طلحة والزبير وأنا أعرف الغدر في وجهيهما والنكث في عينيهما، ثمّ استأذنا في العمرة فأعلمتهما أنّ ليس العمرة يريدان، فسارا إلى مكّة واستخفا عائشة وخدعاها وشخص معها أبناء الطلقاء فقدموا البصرة وقتلوا بها المسلمين وفعلوا المنكر، ويا عجباً لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما عليَّ وهما يعلمان أنّي لست دون أحدهما ولو شئت أن أقول لقلت، ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتاباً يخدعهما فيه فكتما عنّي وخرجا يوهمان الطغام أنّهما يطلبان بدم عثمان.

وبعد واقعة الجمل قالت صفيّة بنت الحارث زوجة عبد الله بن خلف الخزاعي له: يا قاتل الأحبّة، يا مفرّق الجماعة!، فقال الإمام (عليه السلام): إنّي لا ألومك أن تبغضيني.. ولو كنت قاتل الأحبّة لقتلت من في هذه البيوت، ففتّشت البيوت فكان فيها مروان وعبد الله بن الزبير.

وروي أنه (عليه السلام) كان جالسا في أصحابه فمرت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال عليه السلام: إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله فإنما هي امرأة كامرأة، فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافرا ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه) فقال: رويدا إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب.

الطريق إلى الحد من العنف

واليوم والعالم يعاني من مشكلة العنف في كثير من البلاد يحق لنا أن نتساءل قائلين: لماذا هذا العنف عند بعض المسلمين؟

وكيف نعالج مشكلة العنف في العالم؟

أما منشأ العنف فهو عدم الفهم الصحيح للإسلام الأصيل الذي دعا إلى السلم واللاعنف، والجهل الكبير برؤيته إزاء العنف، بل والجهل الكبير بسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام).

فلو اطلع رواد العنف على السيرة الصحيحة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) خاصة أمير المؤمنين (عليه السلام) لعرفوا شدة مبغوضية العنف في الإسلام ومدى حرص الإسلام وتأكيده على السلم واللاعنف.

ومع الأسف الشديد فإن جانبا كبيرا من ذلك تقع مسؤوليته على كواهلنا إذ أننا لم نعرّف العالم بأهل البيت (عليهم السلام) خاصة أمير المؤمنين، ولم نبّين للناس الجوانب الحضارية الأصيلة الموجودة في سيرة هذا العملاق العظيم ليقتدوا بها، ولذا فإن بعض المسلمين ولجهلهم عمدوا إلى العنف في التعامل مع الآخرين.

وحتى اليوم لم نسمع أن أحد المتصدين لهذه المعضلة سلط الأضواء وعالج هذه المشكلة وفق الموازين الأصيلة التي طرحها مولى الموحدين (عليه السلام)، ويكفي في ذلك ظلامة له (عليه السلام).

فلكي تحل هذه المعضلة لا بد من الرجوع إلى العترة الطاهرة التي جعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرجعا إلى جنب القرآن الكريم خاصة الإمام علي ونأخذ منهم المنهجية السليمة لحل هذه المعضلة.

من جانب آخر ينبغي أن نقتدي بنهج أمير المؤمنين (عليه السلام) النيرة وكيفية محاربته للإرهاب والعنف ونسير على خطاه المباركة، فنوضح للعالم بأسره رأي الإسلام وشدة بغضه ومحاربته للإرهاب والعنف عبر شتى وسائل الإعلام المؤثرة وبتركيز.

بل ينبغي لنا أن نربي الأجيال على نهج أمير المؤمنين (عليه السلام) في كل مكان ونخصص لهم المناهج التربوية المدروسة التي تعرفهم بسيرة الإمام علي (عليه السلام) الصحيحة خاصة في المدارس ونوضح لهم منذ الصغر كيف كان (عليه السلام) يحث وبشدة على حفظ معالم الإسلام وإيصاله للأجيال المختلفة سليما لينشأوا ويترعرعوا على النهج الأصيل الذي دعا إليه القرآن والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

 علاوة على ذلك ينبغي لنا أن نوصل للمنظمات الإنسانية التي تتبنى حقوق الإنسان نهج أمير المؤمنين (عليه السلام) في السلم واللاعنف وندعوها إلى طرحه كمنهج عام يلتزم به رسميا في العالم.

وأخيرا ندعو الكتّاب والخطباء وكل من يهمه الأمر في قضية العنف في العالم أن يدرسوا هذا النهج العلوي ويبينوه للعالم ويوضحوا للشعوب أهلية هذا النهج لإيصال الشعوب إلى شاطئ الأمان والسعادة.

فسلام الله عليك يا أبا الحسن يا رائد السلم واللاعنف يوم ولدت مظلوما ويوم عشت مظلوما ويوم قتلت شهيدا مظلوما. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

* نشر سابقا في شبكة النبأ المعلوماتية، 31 تموز2007-16 رجب 1428

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي