ولادة العباس بن علي (ع).. قمر بني هاشم
شبكة النبأ
2024-02-14 10:11
بقلم: السيد عبد الرزاق المقرم
لقد أشرق الكون بمولد قمر بني هاشم يوم بزوغ نوره من اُفق المجد العلوي، مُرتضعاً ثدي البسالة، مُتربّياً في حِجر الخلافة، وقد ضربت فيه الإمامةُ بعرقٍ نابضٍ، فترعرع ومزيجُ روحه الشهامة والإباء، والنّزوع عن الدَّنايا، وما شُوهد مُشتدّاً بشبيبته الغضة إلاّ وملء إهابه إيمانٌ ثابت، وحشوُ ردائه حلم راجح، ولبّ ناضج، وعلم ناجع.
فلم يزل يقتصّ أثر السّبط الشهيد عليه السلام الذي خُلق لأجله، وكُوّن لأنْ يكون ردءاً له في صفات الفضل ومخائل الرفعة، وملامح الشجاعة والسّؤدد والخطر. فإنْ خطى سلام اللّه عليه فإلى الشرف، وإنْ قال فعَن الهُدى والرشاد، وإنْ رمق فإلى الحقِّ، وإنْ مال فعَن الباطل، وإنْ ترفّع فعَن الضيم، وإنْ تهالك فدون الدِّين.
فكان أبو الفضل جامع الفضل والمثل الأعلى للعبقرية; لأنّه كان يستفيد بلجِّ هاتيك المآثر من شمسِ فَلَكِ الإمامة (حسينُ العلمِ والبأسِ والصلاحِ)، فكان هو وأخوه الشهيد عليهما السلام من مصاديق قوله تعالى في التأويل: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) (1). فلم يسبقه بقولٍ استفاده منه، ولا بعملٍ أتبعه فيه، ولا بنفسيَّةٍ هي ظلّ نفسيَّته ولا بمنقبة هي شعاع نوره الأقدس المُنطبع في مرآة غرائزه الصقيلة.
وقد تابع إمامه في كُلّ أطواره حتّى في بروز هيكله القدسي إلى عالم الوجود، فكان مولد الإمام السّبط عليه السلام في ثالث شعبان، وظهور أبي الفضل العبّاس إلى عالم الشهود في الرابع منه (2) سنة ستٍّ وعشرين من الهجرة (3).
وممّا لا شكّ فيه أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا اُحضر أمامه ولدُهُ المحبوبُ ليُقيم عليه مراسيم السُّنّة النّبويّة التي تُقام عند الولادة، ونظر إلى هذا الولد الجديد الذي كان يتحرّى البناء على اُمّه أنْ تكون من أشجع بيوتات العرب; ليكون ولدها ردءاً لأخيه السّبط الشهيد يوم تحيط به عصب الضلال، شاهد بواسع علم الإمامة ما يجري عليه من الفادح الجَلل، فكان بطبع الحال يُطبّق على كُلِّ عضو يُشاهده مصيبةً سوف تجري عليه، يُقلّب كفّيه اللذين سيُقطعان في نُصرة حُجّة وقته فتهمل عيونُهُ.
ويُبصر صدرَه عيبةَ العلم واليقين، فيُشاهده منبتاً لسهام الأعداء، فتتصاعد زفرتُهُ، وينظر إلى رأسه المُطهّر فلا يعزب عنه أنّه سوف يُقرع بعمد الحديد؛ فتثور عاطفتُهُ وترتفعُ عقيرتُه، كما لا يُبارح فاكرته حينما يراه يسقي أخاه الماء ما يكون غداً من تفانيه في سقاية كريمات النّبوّة، ويحمل إليهنّ الماء على عطشه المرمض، وينفض الماء حيث يذكر عطش أخيه عليه السلام؛ تهالكاً في المواساة، ومبالغة في المفادات، وإخلاصاً في الاُخوّة، فيتنفس الصعداء، ويُكثر من قول: «مالي وليزيد!» (4). وعلى هذا فقس كُلَّ كارثةٍ يُقدّر سوف تلمّ به وتجري عليه.
فكان هذا الولد العزيز على أبويه وحامّته، كُلّما سرّ أباه اعتدالُ خلقتِهِ، أو ملامح الخير فيه، أو سمة البسالة عليه، أو شارة السّعادة منه، ساءه ما يُشاهده هنالك من مصائب يتحمّلها، أو فادحٍ ينوء به؛ من جُرحٍ دامٍ، وعطشٍ مُجهدٍ، وبلاءٍ مُكرب.
وهذه قضايا طبيعيّة تشتدّ عليها الحالة في مثل هاتيك الموارد، ممّن يحمل أقلّ شيء من الرّقّة على أقلّ إنسان، فكيف بأمير المؤمنين عليه السلام الذي هو أعطف النّاس على البشر عامّة من الأب الرؤوف، وأرقّ عليهم من الاُمّ الحنون.
إذاً فكيف به في مثل هذا الإنسان الكامل (أبي الفضل) الذي لا يقف أحدٌ على مدى فضله، كما ينحسر البيان عن تحديد مظلوميّته واضطهاده.
وذكر صاحب كتاب (قمر بني هاشم) ص 21: إنّ اُمّ البنين رأت أمير المؤمنين عليه السلام في بعض الأيّام أجلس أبا الفضل عليه السلام على فخذه، وشمّر عن ساعديه، وقبَّلهما وبكى، فأدهشها الحال; لأنّها لم تكنْ تعهد صبيّاً بتلك الشمائل العلويّة ينظر إليه أبوه ويبكي من دون سبب ظاهر، ولمّا أوقفها أمير المؤمنين عليه السلام على غامض القضاء، وما يجري على يديه من القطع في نصرة الحسين عليه السلام، بكت وأعولت، وشاركها مَن في الدار في الزفرة والحسرة، غير أنّ سيّد الأوصياء عليه السلام بشّرها بمكانة ولدها العزيز عند اللّه جلّ شأنه، وما حباه عن يديه بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل ذلك لجعفر بن أبي طالب، فقامت تحمل بشرى الأبد، والسّعادة الخالدة.
صفاته
لقد كان من عطف المولى سبحانه وتعالى على وليّه المُقدّس، سلالة الخلافة الكبرى، سيّد الأوصياء عليهالسلام، أنْ جمع فيه صفات الجلالة؛ من بأس وشجاعة، وإباء ونجدة، وخلال الجمال؛ من سُؤدد وكرم، ودماثة في الخلق وعطف على الضعيف، كُلّ ذلك من البهجة في المنظر، ووضاءة في المُحيّا من ثغر باسم ووجه طلق، تتموّج عليه أمواه الحسن، ويطفح عليه رواء الجمال، وعلى أسرّة جبهته أنوارُ الإيمان، كما كانت تعبق من أعراقه فوائحُ المجد، متأرّجة من طيب العنصر.
ولمّا تطابق فيه الجمالان الصوري والمعنوي، قيل له: (قمر بني هاشم) (5)؛ حيث كان يشوء بجماله كُلَّ جميل، وينذُّ بطلاوة منظره كُلّ أحد حتّى كأنّه الفذّ في عالم البهاء، والوحيد في دنياه، كالقمر الفائق بنوره أشعة النّجوم، وهذا هو حديث الرّواة:
كان العبّاس رجلاً وسيماً جميلاً، يركب الفرس المُطهّم ورجلاه تخطّان في الأرض، وكان يُقال له: قمر بني هاشم (6).
وقد وصفته الرواية المحكيّة في مقاتل الطالبيين، بإنّ (بين عينيه أثرُ السّجود). ونصّها:
قال المدائني: حدّثني أبو غسّان هارون بن سعد، عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة، قال: رأيتُ رجلاً من بني أبان بن دارم، أسود الوجه، وكنتُ أعرفه جميلاً شديدَ البياض، فقلت له: ما كدتُ أعرفك! قال: إنّي قتلتُ شابّاً أمردَ مع الحسين، بين عينيه أثرُ السّجود، فما نمتُ ليلةً ـ منذ قتلته ـ إلاّ أتاني، فيأخذ بتلابيبي حتّى يأتي جهنّم فيدفعني فيها، فأصيح فما يبقى في الحيِّ إلاّ سمع صياحي. قال: والمقتول هو العبّاس بن علي عليهالسلام (7).
وروى سبط ابن الجوزي عن هشام بن محمّد، عن القاسم بن الأصبغ المجاشعي، قال: لما اُتي بالرؤوس إلى الكوفة، وإذا بفارس أحسن النّاس وجهاً قد علّق في لبب فرسه رأسَ غلامٍ أمردٍ كأنّه القمرُ ليلة تمّه، والفرس يمرح، فإذا طأطأ رأسه لحق الرأسُ بالأرض، فقلتُ: رأسُ مَن هذا؟ قال: رأس العبّاس بن علي. قلتُ: ومَن أنت؟ قال: حرملة بن الكاهل الأسدي (8).
قال: فلبثت أيّاماً وإذا بحرملة وجهه أشدّ سواداً من القار، فقلتُ: رأيتك يوم حملت الرأس وما في العرب أنظر وجهاً منك، وما أرى اليوم أقبح ولا أسود وجهاً منك؟! فبكى، وقال: واللّه، منذ حملت الرأس وإلى اليوم ما تمرّ عليَّ ليلةٌ إلاّ واثنان يأخذان بضبعي، ثُمّ ينتهيان بي إلى نارٍ تُؤجّج، فيدفعاني فيها وأنا أنكص، فتسفعني كما ترى، ثُمّ مات على أقبح حال (9).
ويمنع الإذعان بما في الروايتين من تعريف المقتول بأنّه العبّاس بن علي عليهالسلام، عدم الالتئام مع كونه شابّاً أمردَ؛ فإنّ للعباس يوم قتله أربعاً وثلاثين سنة، والعادة قاضية بعدم كون مثله أمردَ، ولم ينصّ التاريخ على كونه كقيس بن سعد بن عبادة لا طاقة شعر في وجهه.
وفي دار السّلام للعلاّمة النّوري ج 1 ص 114، والكبريت الأحمر ج 3 ص 52 ما يشهد للاستبعاد، واصلاحه كما في كتاب (قمر بني هاشم) ص 126، بأنّه رأس العبّاس الأصغر، بلا قرينة، مع الشكّ في حضوره الطَّفِّ وشهادته، وهذا كاصلاحه بتقدير المقتول: (أخ العبّاس) المنطبق على عثمان الذي له يوم قتله إحدى وعشرين سنة، أو محمّد بن العبّاس المُستشهد على رواية ابن شهر آشوب؛ فإنّ كُلّ ذلك من الاجتهاد البحت.
ولعلّ النّظرة الصادقة فيما رواه الصدوق، مُنضمّاً إلى رواية ابن جرير الطبري، تُساعد على كون المقتول حبيب بن مظاهر.
قال الصدوق: وبهذا الإسناد عن عمرو بن سعيد، عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة، قال: قدم علينا رجل من بني أبان بن دارم ممّن شهد قتل الحسين عليهالسلام، وكان رجلاً جميلاً شديد البياض، فقلتُ له: ما كدت أعرفك لتغيّر لونك! قال: قتلتُ رجلاً من أصحاب الحسين يُبصَرُ بين عينيه أثرُ السّجود، وجئت برأسه.
فقال القاسم: لقد رأيتُهُ على فرس له مرح وقد علّق الرأس بلبانه، وهو يُصيبه بركبتيه، قال: فقلت لأبي: لو أنّه رفع الرأس قليلاً، أما ترى ما تصنع به الفرس بيديها؟! فقال: يا بُني، ما يُصنع به أشدّ؛ لقد حدّثني، قال: ما نمتُ ليلةً منذ قتلتُهُ إلاّ أتاني في منامي حتّى يأخذ بكتفي فيقودني، ويقول: انطلق. فيُنطَلق بي إلى جهنم فيُقذَف بي، فأصيح. قال: فسمعتُ جارةً له قالت: ما يدعنا ننام شيئاً من الليل من صياحه. قال: فقمتُ في شبابٍ من الحيِّ فأتينا امرأته فسألناها، فقالت: قد أبدى على نفسه، قد صدقكم (10).
وقد اتّفقت هذه الروايات الثلاث في الحكاية عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة بما فُعل بالرأس الطاهر.
وتُفيدنا رواية الصدوق أنّ المقتول رجلٌ لا شابٌّ، وأنّه من أصحاب الحسين عليهالسلام، ولا إشكال فيه، وإذا وافقنا ابن جرير على أنّ الرأس المُعلّق هو رأس حبيب بن مظاهر ـ في حين أنّ المؤرّخين لم يذكروا هذه الفعلة بغيره من الرؤوس الطّاهرة ـ أمكننا أنْ ننسب الاشتباه إلى الروايتين السّابقتين؛ خصوصاً بعد ملاحظة ذلك الاستبعاد بالنّسبة إلى العبّاس، وتوقّفُ التصحيح فيهما على الاجتهاد بلا قرينة واضحة.
قال ابن جرير في ج 6 ص 252 من التاريخ: وقاتل قتالاً شديد، فحمل عليه رجلٌ من بني تميم فضربه بالسّيف على رأسه فقتله، وكان يُقال له: بديل بن صريم من بني عقفان، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع، فذهب ليقوم فضربه الحُصين بن تميم على رأسه بالسّيف فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتزّ رأسه، فقال له الحُصين: إنّي لشريكك في قتله. فقال الآخر: واللّه، ما قتله غيري. فقال الحُصين: أعطنيه أعقله في عُنق فرسي كيما يرى النّاس ويعلموا أنّي شركت في قتله، ثُمّ خذه أنت بعدُ فامضِ به إلى عبيد اللّه بن زياد، فلا حاجة لي فيما تُعطاه على قتلك إيّاه. فأبى عليه، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا، فرفع إليه رأس حبيب بن مظاهر، فجال به في العسكر، قد علّقه في عُنق فرسه، ثُمّ دفعه بعد ذلك إليه، فلمّا رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخرُ رأسَ حبيبٍ فعلّقه في لبان فرسه، ثُمّ أقبل به إلى ابن زياد في القصر، فبصر به ابنه القاسم بن حبيب ـ وهو يومئذ قد راهق ـ فأقبل مع الفارس لا يُفارقه، كُلمّا دخل القصر دخل معه، وإذا خرج خرج معه، فارتاب به، فقال: ما لك يا بُني تتبعني؟! قال: لا شيء. قال: بلى يا بُني أخبرني.
قال له: إنّ هذا الرأس الذي معك رأسُ أبي، أفتُعطينيه حتّى أدفنه؟
قال: يا بُني، لا يرضى الأمير أنْ يُدفن، وأنا اُريد أنْ يُثيبني الأميرُ على قتله ثواباً حسناً.
قال له الغلام: لكنّ اللّه لا يُثيبك على ذلك إلاّ أسوأ الثواب. أما واللّه، لقد قتلته خيراً منك. وبكى.
فمكث الغلام، حتّى إذا أدرك لم تكنْ له همّةٌ إلاّ اتّباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرّة فيقتله بأبيه، فلمّا كان زمان مصعب بن الزبير، وغزا مصعب (باجمير) دخل عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غرّته، فدخل عليه وهو قائل نصف النّهار، فضربه بسيفه حتّى برد (11).
نعم، في رواية الصدوق أنّ القاسم يسأل أباه عمّا يفعله الفرس بالرأس، فيقول: قلتُ لأبي: لو أنّه رفع الرأس... إلى آخره.
وهو يدلّ على حياة الأصبغ ذلك اليوم، وعليه فلَم يعرف الوجه في تأخّره عن حضور المشهد الكريم، مع مقامه العالي في التشيّع، وإخلاصه في الموالاة لأمير المؤمنين وولده المعصومين عليهمالسلام! ومشاهدتُه هذا الفعل من الطاغي يدلّ على عدم حبسه عند ابن زياد كباقي الشيعة الخُلّص، ولا مخرج عنه إلاّ بالوفاة قبل تلك الفاجعة العظمى، كما هو الظاهر ممّا ذكره أصحابنا عند ترجمته؛ من الثناء عليه، والمبالغة في مدحه، وعدم الغمز فيه.
فتلك الجملة: (قلت لأبي). لا يُعرف من أين جاءت، ولا غرابة في زيادتها بعد طعن أهل السُّنّة فيه كما في اللآلئ المصنوعة ج 1 ص 213؛ فإنّه بعد أنْ ذكر حديث الأصبغ بن نباتة عن أبي أيوب الأنصاري، أنّهم اُمروا بقتال النّاكثين والقاسطين والمارقين مع علي عليهالسلام، قال: لا يصحّ الحديث؛ لأنّ الأصبغ متروك، لا يساوي فلساً (12).
وفيه ص 195، ذكر عن ابن عباس حديثَ الرُّكبان يوم القيامة؛ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وصالح، وحمزة وعلي عليهمالسلام، قال: رجال الحديث بين مجهول، وبين معروفٍ بعدم الثّقة (13).
ولقد طعنوا في أمثاله من خواصّ الشيعة بكُلّ ما يتسنّى لهم، وما ذُكر في تراجمهم يشهد لهذه الدعوى، ولا يتحمّل هذا المختصر التبسّط في ذكره، ومراجعة ما كتبه السيّد العلاّمة محمّد بن أبي عقيل في (العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل) ص 40، في الباب الثاني فيه كفاية؛ فإنّه ذكر جملةً من أتباع أهل البيت عليهمالسلام طعنوا فيهم بلا سبب، إلاّ لموالاة أمير المؤمنين وولده عليهمالسلام.
كُنيتُه
اشتهر أبو الفضل العبّاس عليهالسلام بكُنى وألقاب، وُصف ببعضها في يوم الطَّفِّ، والبعض الآخر كان ثابتاً له من قبل؛ فمِن كناه: أبو قَربة (14) لحمله الماء في مشهد الطَّفِّ غير مرّة، وقد سُدّت الشرائع ومُنع الورود على ابن المصطفى صلىاللهعليهوآله وعياله، وتناصرت على ذلك أجلاف الكوفة، وأخذوا الاحتياط اللازم، ولكن أبا الفضلِ لم يرعهُ جمعُهم المُتكاثف، ولا أوقفه عن الإقدام تلك الرِّماح المُشرَعة، ولا السّيوف المُجرَّدة، فجاء بالماء وسقى عيال أخيه وصحبه.
ولم ينصّ المؤرّخون وأهلُ النّسب على كُنيته بأبي القاسم; إذ لم يذكر أحدٌ أنّ له ولداً اسمه القاسم.
نعم خاطبه جابر الأنصاري في زيارة الأربعين بها، قال: السّلام عليك يا أبا القاسم، السّلام عليك يا عباس بن علي (15).
وبما أنّ هذا الصحابي الكبير المُتربّي في بيت النّبوّة والإمامة خبيرٌ بالسّبب الموجب لهذا الخطاب، فهو أدرى بما يقول.
وقد اشتهر بكُنيتهِ الثالثة (أبي الفضل)؛ من جهة أنّ له ولداً اسمه الفضل (16)، وكان حريّاً بها؛ فإنّ فضله لا يخفى، ونورَه لا يطفى. ومن فضائله الجسام نعرف أنّه ممّن حُبس الفضل عليه ووقف لديه؛ فهو رضيع لبانه، وركنٌ من أركانه، وإليه يُشير شارح ميمية أبي فراس:
بذلتَ أيا عباسُ نفساً نفيسةً---لنصرِ حُسينٍ عزَّ بالنّصر مِنْ مثلِ
أبيْتَ الْتِذاذَ المَاءِ قَبلَ الْتِذاذِهِ---فَحُسنُ فِعالِ المرْءِ فرعٌ عَنِ الأصلِ
فأنتَ أخُو السّبطينِ في يومِ مَفْخرٍ---وفي يومِ بذلِ الماءِ أنْتَ أبو الفضْلِ (17)