الامام علي (ع) خارِطةُ الطَّريقِ لمدِّ جسُورِ الثِّقةِ
في ذكرى ولادة أَميرُ المُؤمنينَ المَيمونةِ في (١٣) رجب الأَصب (3)
نـــــزار حيدر
2024-01-24 04:47
ثالِثُ مُقوِّماتِ النَّجاحِ؛ التَّدقيقُ في اختيارِ المُستشارِ والبِطانة، فقبلَ أَن تستشيرَ أَحداً لأَيِّ أَمرٍ كانَ، شخصيّاً كانَ أَو عامّاً، يلزمكَ أَن تُدقِّق في هويَّة المُستشار وخلفيتهِ وسجلِّهِ الإِستشاري ورجاحةِ عقلهِ وشجاعتهِ في الإِدلاءِ بأَفضلِ آرائهِ ورُآهُ خاصَّةً إِذا كنتَ مُصمِّمٌ على الإِلتزامِ برأيهِ، فاستشارةٌ واحدةٌ قد تأخذكَ إِلى الهاويةِ أَو إِلى القمَّةِ، ولذلكَ لا ينبغي لعاقلٍ أَن يستشيرَ كُلَّ مَن هبَّ ودبَّ وكأَنَّهُ يريدُ أَن يُسقِطَ الواجبِ عن نفسهِ أَو أَنَّهُ يُريدُ سدَّ ذرائعَ لومِ النَّاس وقطعِ أَلسنتهِم.
إِنَّ المُستشارَ شريكُكَ في النَّجاحِ والفشلِ فانظُر لِمَن تمنحهُ ثقتكَ قبل أَن تختارهُ شريكٌ لكَ بالإِستشارةِ! ليكُونَ قدرَ الإِمكانِ مصداقٌ لوصفِ أَميرِ المُؤمنينَ (عليه السلام) عندما أَوصى لولدهِ الحسَن السِّبطِ (عليه السلام) بقَولهِ {فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَهُ وتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ وصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ}.
إِنَّكَ تُشارِكهُ عقلهُ كما يقُولُ (عليه السلام) {مَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا} فانظُر أَيَّ نَوعٍ من العقُولِ تُشارك؟!.
يقولُ (عليه السلام) {ولَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ ويَعِدُكَ الْفَقْرَ ولَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ ولَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَه بِالْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ والْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّه}.
واحذر أَن تبني علاقاتكَ مع البِطانة على قاعدةِ الطَّمع، فمثلُ هؤُلاء المستشارينَ سيبيعُونَ لكَ آراءهُم بمعسُولِ الكلامِ لإِرضائكَ وليسَ لمُساعدتِكَ في اتِّخاذِ القرارِ السَّليمِ وتوسيعِ آفاقِ تفكيرِكَ، وأَنَّ استشارتهُم حسبَ الطَّلب وبما يُساوي قيمة الدَّفع، وأَنَّ مثلَ هؤُلاء لا ينفعونكَ في شيءٍ أَبداً فهُم أَسوأُ أَنواع البِطانة.
يقولُ (عليه السلام) {ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وتَطَاوُلٌ وقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الأَحْوَالِ ولَا تُقْطِعَنَّ لأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وحَامَّتِكَ قَطِيعَةً ولَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ فِي شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَئُونَتَه عَلَى غَيْرِهِمْ فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وعَيْبُه عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ}.
ولقد رسمَ أَميرُ المُؤمنينَ (عليه السلام) خارطةَ طريقٍ مُهمَّةٍ لبناءِ مُجتمعٍ قويٍّ ومُتماسك تعتمِدُ على مُقوِّمَينِ أَساسيَّينِ هُما حجَر الزَّاوية في البناءِ؛
الأَوَّل؛ هوَ التَّكافُل الإِجتماعي للقضاءِ أَو على الأَقلِّ لتقليصِ فَجوَة الطبقيَّة الإِجتماعيَّة التي تُقسِّم المُجتمع إِلى فِئتَينِ، غنيَّةٌ تتمتَّع بكُلِّ الخَيرات التي سخَّرها الله تعالى لعبادهِ، وفقيرةٌ لا تتمتَّع بشيءٍ منها.
إِنَّ قُوَّة المُجتمع وتماسكهُ تتناسب تناسُباً عكسيّاً مع حجمِ الطبقيَّة فكُلَّما تقلَّص حجمُ المساحةِ كلَّما اشتدَّ تماسُك المُجتمع والعكسُ هوَ الصَّحيح فكُلَّما اتَّسعت كُلَّما ضعُفَ تماسُك المُجتمع وانهارَت دعائِمهُ.
وهوَ (عليه السلام) أَوَّل من شرَّع قانون شبكة الحِماية الإِجتماعيَّة، عندما كتبَ في عهدهِ للأَشتر {ثُمَّ اللَّه اللَّه فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَى والزَّمْنَى فَإِنَّ فِي هَذِه الطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْتَرّاً واحْفَظِ لِلَّه مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّه فِيهِمْ واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ وقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ فَإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى وكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّه ولَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِه لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ ولَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ وتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُه الْعُيُونُ وتَحْقِرُه الرِّجَالُ فَفَرِّغْ لأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ والتَّوَاضُعِ فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالإِعْذَارِ إِلَى اللَّه يَوْمَ تَلْقَاه فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ وكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّه فِي تَأْدِيَةِ حَقِّه إِلَيْه وتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَه ولَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَه وذَلِكَ عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ والْحَقُّ كُلُّه ثَقِيلٌ وقَدْ يُخَفِّفُه اللَّه عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ ووَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّه لَهُمْ}.
الثَّاني؛ هوَ تشييدِ جسُور الثِّقة بينَ الدَّولة ومُؤَسَّساتها من جهةٍ والمُجتمعِ من جهةٍ أُخرى، أَي بينَ الرَّاعي والرعيَّة، فكُلَّما كانت العِلاقة بينهُما سليمةً وصحيحةً لا يشوبها الشَّك والشُّبهة والتَّنافُر والتَّباعُد والقطيعَة، كُلَّما قوِيت أَركان الدَّولة واستقرَّ المُجتمع الذي سيُدافع عنها ويحميها فتتمَظهر قيمَة المُواطنة والرُّوح الوطنيَّة بشَكلٍ واضحٍ وراسخٍ.
وإٍنَّ من أَبرزِ أَدوات بناءِ هذهِ الجسُور هي الشفافيَّة والوضُوح والصَّراحة والصِّدق التي يجب أَن تتعاملَ بها الدَّولة ومُؤَسَّساتِها معَ الرَّأي العام، فلا تكذِب عليهِ ولا تخدعهُ ولا تُضلِّلهُ ولا تتستَّر على فسادِها وفشلِها بالذُّبابِ الإِليكتروني الذي شُغلهُ قلب الحقائِق وتغييرِ الوقائعِ.
يقولُ (عليه السلام) {وإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ واعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ ورِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ وإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ}.
كما أَنَّ استئثارَ الحاكِم وعشيرتهِ ومُحازبيه وبِطانتهِ بكلِّ ما النَّاسُ فيهِ أُسوَةٌ مثلَ فُرص التَّعليم والعمَل والصحَّة والأَمن وخَيرات البِلاد وإِمكانيَّاتِ الدَّولة وكُلَّ ما سخَّرهُ الله تعالى لعبادهِ، لا يُساهِمُ في مدِّ جسورِ الثِّقةِ تلكَ ولا يُساهِمُ في استقرارِ الدَّولةِ، ولذلكَ حذَّرَ (عليه السلام) مالكاً من ذلكَ بقَولهِ في عهدهِ لهُ {وإِيَّاكَ والِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ}.
أَمَّا إِذا كانَ المسؤُولُ بمثلِ النُّموذج التَّالي الذي يصفهُ لنا أَميرُ المُؤمنينَ (عليه السلام) فبالتَّأكيدِ لا يمكنُ بهِ بناءَ جسُور الثِّقة بينَ الحاكمِ والمحكُومِ وبالتَّالي لا يُمكنُ أَن نتصوَّرَ بوجُودهِ [دَولةً] قويَّةً ومُتماسِكةً.
يصفُ (عليه السلام) هذا النُّموذج السيِّء من الحُكَّامِ والمسؤُولينَ بقولهِ {عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَةِ! يَزْعُمُ لأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً وأَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ أُعَافِسُ وأُمَارِسُ! لَقَدْ قَالَ بَاطِلًا ونَطَقَ آثِماً أَمَا، وشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ، إِنَّه لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ ويَعِدُ فَيُخْلِفُ ويُسْأَلُ فَيَبْخَلُ ويَسْأَلُ فَيُلْحِفُ ويَخُونُ الْعَهْدَ ويَقْطَعُ الإِلَّ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وآمِرٍ هُوَ! مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ مَكِيدَتِه أَنْ يَمْنَحَ الْقَرْمَ سَبَّتَه! أَمَا واللَّه إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ وإِنَّه لَيَمْنَعُه مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الآخِرَةِ إِنَّه لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَه أَتِيَّةً ويَرْضَخَ لَه عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً}.
بِئسَ النُّموذج القَبيح!.