رسول الله (ص) والفتح الأخلاقي العظيم
مرتضى معاش
2023-10-02 05:45
نهنئ العالم الاسلامي بميلاد الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله)، ونسأل الله تعالى أن يجعل من تلك المناسبة فرصة للاتعاظ والعبرة والعمل من خلال التأسي بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث قال تعالى فيه (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم4.
هذا النص فيه مجموعة دلالات بلاغية تؤكد على عظمة اخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، (واو القسم-ان: الخطاب المباشر-الكاف: الحصر- اللام: للتأكيد-على: بمعنى الاعتلاء والعلو-تنكير خلق-عظيم)، هذه كلها تأكيدات في اللغة والبلاغة تدل على ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) جاء بثورة اخلاقية عظيمة، تجلت في سيرته الساطعة التي اصبحت اشعاع مستمر للتعلم الأخلاقي وبناء الأمم الصالحة.
فالتحول الكبير الذي احدثه الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) في الامة والتاريخ جاء من خلال الثقة التي كان ينظر الناس اليه على انه (الصادق الأمين).
فلا يمكن حدوث تحول اجتماعي ما لم يسبقه تحول اخلاقي في السلوك ورسوخ القيم المنبثقة من تلك السلوكيات، واقرب مثال على ذلك شخص ما جاء للرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وطلب منه النصيحة فقال له لا تكذب، ثلاثة مرات، فعنه (صلى الله عليه وآله): (إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)، فالصدق يؤدي الى الثقة والاطمئنان، والكذب يفتح أبواب الخيانة والشر، بالتالي فان اساس نجاح أي مجتمع هو الصدق والثقة، فالاقتصاد عندما لا يكون قائما على الثقة هو اقتصاد فاشل، وهذا جوهر القضية التي نعاني منها اليوم، فغالبية المعاملات التي تجري في السوق هي خارج اطار الثقة، لذلك نحن لا نجد من يستثمر ومن يقرض ومن يشتري بضاعة وهو متأكد من صلاحية تلك البضاعة، فالثقة الاجتماعية هي اساس الاقتصاد الناجح.
وعلى هذا الاساس فبعض الدول التي نجحت في الاقتصاد هي اسست لنظام يضمن حالة الثقة بين المتعاملين، بالتالي فان الثورة الاخلاقية تسبق أي تحول كبير ومهما كانت نوعه وخصوصيته، فالبعض من البلاد شهدت تحولا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا كبيرا، هذا التحول كان فاشلا لان النخب لم تسع لبناء التحول الاخلاقي والقيمي المتناسق، والسبب لان الجميع كان يفكر في الربح المادي الشخصي على حساب الآخرين، فالسياسي لا يفكر الا بالسلطة والغنيمة، لذلك أسس هذا التحول العكسي لمنظومة فساد كبيرة.
هناك كاتب معروف في علم المستقبليات يسمى (ألفن توفلر) عنده كتاب يحمل عنوان (صدمة المستقبل)، يقول فيه اننا اليوم نواجه ازمة كبيرة جدا في عملية الانفصام بين التقدم التكنلوجي الكبير وبين عدم استيعاب النفس البشرية لهذا التحول التكنولوجي، بالتالي فان التحول التكنولوجي الحاصل اليوم لم تستوعبه النفس البشرية، لأنه لا يوجد معه تطور سلوكي وقيمي يستوعب التغييرات التي تحدث، لذا فان أي تحول يحدث ما لم يكون هناك تحول يقابله في ذات الانسان بالقيم والأخلاق السليمة قد يؤدي الى الاضطراب والاختلال، فالتقدم الاجتماعي الذي تقوده شبكات التواصل الاجتماعي اليوم يؤسس لحضارة مفككة وغامضة، تقودها تحولات فوضوية وعشوائية.
الاخلاق مفاتيح للحياة
يذكر في الأحاديث والادعية بان لله سبحانه وتعالى له الف اسم، وهذه الاسماء تشير إلى اخلاق الله سبحانه وتعالى كما في الحديث: (تخلقوا بأخلاق الله)، لكي يعلمنا منهج الاخلاق، فعندما يتخلق الانسان بأخلاق الله سبحانه وتعالى تكون له بوابة ومفاتيح للحياة الصالحة المتناسقة مع النهج الإلهي، كما وصل رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى العظمة المطلقة باخلاقه السمحة، لذلك الوصول الى العظمة في الحياة يأتي من بوابة رسول الله (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) الأحزاب21، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) اوجد لنا معاني الشخصية الصالحة التي تعتمد على (الرحمة، التسامح، العفو، اللاعنف، الاخوة، التكافل)، في مقابل المجتمع الجاهلي الذي يقوم على (العنف، الاستبداد، الثأر، الانتقام، العنصرية، النفاق، الفساد) هذه السلوكيات السيئة التي تؤدي الى تدمير الشخصية الإنسانية وتفرغها من محتواها.
وعن الإمام علي (عليه السلام) في صفة النبي (صلى الله عليه وآله):
(كان أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، ومن رآه بديهة هابه، ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أر قبله ولا بعده مثله (صلى الله عليه وآله وسلم)).
فمنظومة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الرحمة تنتج صفات هي اعمدة لبناء الشخصية الصالحة والناجحة، تمثل مسؤولية كبرى على النخب لكي تكون نموذجا صالحا للأجيال الحاضرة والقادمة.
فالناس بفطرتهم يميلون الى النموذج الصالح ويتبعونه، وهذا ما تشير اليه الآية القرآنية (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) النصر1-3، فهذه الآيات تكشف عن الطريق للانتصار العظيم وهو الاخلاق، وهو الذي يفتح بوابة التحولات الناجحة، وفعلا نجح رسول الله (صلى الله عليه وآله) في رسالته وفتح باب التحول الكبير للإنسانية ليس الان فحسب بل للمستقبل القريب والبعيد.
فهي مسيرة مستمرة تحتاج من الانسان أن يتعلم ويتعلم حتى يصل إلى مرحلة النضج والتكامل، لذلك على المؤسسات العلمية والدينية والثقافية في مواجهة الوضع الفاسد والمتخلف كتابة منهج اخلاقي عن سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) يدرس في المدارس من الابتدائية إلى الجامعة وإلى جميع الفئات الاجتماعية، شريطة أن تكون مناهج اخلاقية عملية تربوية قائمة على قواعد علمية، يسلط الضوء على الأفكار والقواعد السليمة في الحياة الصالحة.
قوة الرحمة
لا يوجد لدينا في الإسلام القوة المفرطة او القاسية او العنيفة، هذا النوع من القوة يستخدمه الآخرون، أما في الإسلام فتوجد لدينا القوة اللينة والمرنة والرحيمة، والقوة التي تعطي قوة للإنسان من خلال عقله وفهمه، وليس من خلال تخويفه وإجباره، بل يعي ويلتزم من خلال إيمانه الواعي بالدين.
لذلك يقول الله سبحانه وتعالى في وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله): (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) آل عمران 159. هذه الحزمة كلها تعبر عن مفهوم القوة والحزم في اللين، وهي واضحة من ناحية الاستغفار والمشاركة والتعاون والرحمة والتسامح والمشاورة.
فالإيمان ينبع من خلال اختيار الإنسان، لذلك لا معنى لأي قوة مفرطة، كما في الآية القرآنية (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ) هود 52، لأن القوة الغاشمة هي إجرامية، أما القوة النابعة من الله سبحانه وتعالى، فهي قوة ذكية حكيمة ومنها تنبع السلامة والأمان، وهي قوة المقتدرين، وعكسها قوة العاجزين أو الفاشلين.
ان أعظم نص تعرض لقوة الاخلاق هو عهد الامام علي عليه السلام لمالك الاشتر، حيث ورد في هذا النص (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً)، وهو تعبير عن نبذ لأخلاق القوة وتحريض على قوة الرحمة.
والغريب ان البعض يعتقد ان الاخلاق ضعف، في حين لابد ان يكون الجوهر مرتبط بحقيقة الانسان وكرامته وحريته واحترامه.
لذلك لابد من قراءة التاريخ وفهم الجدوى من القوة، خصوصا وان بعض السياسيين والمفكرين والفلاسفة اليوم وفي السابق لديهم منهج ورؤية يؤمنون من خلالها بقوة واخلاق الغابة، وسلوك الوحشية والغرائزية والنفعية، والحرب العالمية هي نتيجة لهذا الفكر العنصري الشرير، بالتالي لابد ان نقرأ بدقة جدوائية القوة وإلى أين تصل بالبشرية في مسيرها العنيف.
فالسلطة كأيديولوجية وثقافة وسلوك عندما تكون متلبسة بثياب الواقعية تتسبب بكوارث وازمات كبيرة، والسبب يرجع لمفهوم الغاية تبرر الوسيلة الذي يتجاوز كل القيم الاخلاقية الانسانية ويسحقها، وهذا المفهوم المكيافيلي الانتهازي عندما يصبح هو المحور في ادارة الامور ستؤدي الى كوارث، لأنها تخرج عن اطار الايمان والتقوى والصدق والواقع (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة 119.
أخلاق التقدم وتقدم الأخلاق
يقول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...)البقرة 143. هذه الآية فيها خصوصية، ونستطيع أن نعتبرها من آيات النهضة والتقدم، لأنها تعلمنا كيف نصنع أمة متألقة وناجحة من خلال بناء النموذج الصالح.
فالوسطية تعني الاعتدال والتوازن والانسجام مع لغة الكون وخالقه، وعندما لا يحدث الانسجام معه يحدث الاختلال الذي يُنتج الأزمات، فالخروج عن الوسطية هو خروج عن التوازن المطلوب، فيكون لدينا إما التطرف والتشدد أو التفريط والانحلال وكلها تؤدي إلى كوارث، والآية القرآنية تؤكد على بناء النموذج الصالح (لتكونوا شهداء على الناس)، عبر الاستمداد من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) النموذج المطلق في صناعة الانسان الصالح.
وعن الامام علي (عليه السلام) في وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله): (فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ وَشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ سِيرَتُهُ الْقَصْدُ وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ...).
فمسير الحكم الصالح والرشيد يمر عبر بناء النماذج الصالحة في المجتمع، فالخلق العظيم هو الذي أدى إلى هداية الناس للإسلام، واخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) هي معجزة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) التي خلقت الانتصار والقوة والهداية وجعلت الناس يدخلون في دين الله افواجا.
فلا يوجد تقدم من دون أخلاق، فأول آية في القرآن الكريم هي: بسم الله الرحمن الرحيم، أي ان كل شيء مؤطر في إطار الرحمة، واليوم السياسة بلا رحمة والاقتصاد بلا أخلاق فنحن نعيش أزمة ولابد أن نرجع للبناء الأخلاقي، فالتدين أساسه العقيدة لكن تطبيقه أخلاقي، ومداراة الناس نصف الدين، فالدين في جوهره وأهدافه تكامل بين العقائد والأخلاق.
يجب أن نبدأ من عملية سلوكية شاملة تلك التي حث عليها القرآن الكريم وسيرة أهل البيت عليهم السلام، والعكس من ذلك فإن العنف هو أساس الرذائل، الانسان عندما يتربى على العنف والعبودية والنفاق، سوف يكذب لأنه خائف، الخوف أصبح عنده ملكة مسيطرة عليه فلا يستطيع أن يعبر عن رأيه بصراحة ووضوح، والبعض يعتقد بالتأديب العنيف مع ان التأديب ليس له علاقة بالعنف فالتأديب هو التربية والعنف نقيض التربية، وهذا تناقض كبير، وبه يتم تحويل الطفل إلى وحش، فالمعلم إما يحول الطالب إلى ملاك أو وحش هنا تنكشف مسؤولية التربية، فالخطوة الأولى في عملية بناء الاخلاق السليم هي اللاعنف المطلق الذي ينشأ من الاستقامة في ممارسة القيم الأخلاقية، العفو، الصفح، الحلم، التغاضي، حيث يلتزم بها الانسان ويروض نفسه عليها، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن لم تكن حليما فتحلم فإنه قل من تشبه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم). ويوصف الحلم بكونه متلازم مع العقل فالإنسان العنيف قد يكون مجنونا وليس بعاقل.
ومن اخلاق التقدم الكلمة الطيبة فبها يتم اثراء الذات واستقرار المجتمع وبناء الروح الاجتماعية الإيجابية (كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ... وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ).
بالإضافة إلى ذلك اهمية التحريض على الخير فيما أمكن بكل اشكاله، ومن ضمن ذلك السعي في قضاء حوائج الناس، ففيه بركات كبيرة جدا تؤدي الى تحقيق السلم الاجتماعي والتآلف والتقارب، وحب العمل والتأدية بأمانة، وحب العمل من صفات الخيرين والمصلحين، كما ان الفساد هو نتاج الكسل.