الحقوق المتبادلة بين الحاكم والمحكوم في رسالة الحقوق
للإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)
جميل عودة ابراهيم
2022-08-21 08:54
تعد (رسالة الحقوق) التي دونها الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) الملقب بـ(زين العابدين) حفيد الإمام علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة بن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد أهم النصوص التاريخية والاجتماعية والقانونية التي تتحدث عن حقوق الإنسان في علاقته المتعددة والمختلفة.
في هذه الرسالة الحقوقية، حدد الإمام زين العابدين (عليه السلام) مجموعة من الحقوق والواجبات التي ينبغي لكل مسلم، بل لكل إنسان مراعاتها. ومنها حق الله على الإنسان، وجعله مصدر الحقوق وأولها، وحق نفس الإنسان على الإنسان، أي حق الذات، وحق الأفعال على الإنسان، مثل حق (الصلاة، والصوم وغيرها) وحقوق الغير على الإنسان، مثل حق (الأئمة، وحق الرحم، وحق الرعية، وغيرها)
ومن الحقوق السياسية التي ذكرها الإمام زين العابدين هي (حق السلطان على الرعية) و(حق الرعية على السلطان).
ففيما يتعلق بحق السلطان على الرعية قال الإمام: (فأَمَّا حَقُّ سَائِسِكَ بالسُّلْطَانِ فَأَنْ تَعْلَمَ أنّكَ جُعِلْتَ لَهُ فِتنَة، وأنَّهُ مُبْتَلىً فِيكَ بمَا جَعَلَهُ اللهُ لَهُ عَلَيْكَ مِنَ السُّلْطَانِ، وَأَنْ تُخلِصَ لَهُ فِي النَّصِيحَةِ وَأَنْ لا تُمَاحِكَهُ، وَقَدْ بُسِطْتَ يَدُهُ عَلَيْكَ فَتَكُونَ سَبَبَ هَلاكِ نفْسِكَ وَهلاكِهِ. وتَذَلَّلْ وتَلَطَّفْ لإِعْطَائِهِ مِنَ الرِّضَا مَا يَكُفُّهُ عَنْكَ وَلا يَضُرُّ بدينِكَ وتَسْتَعِينُ عَلَيْهِ فِي ذلِكَ باللهِ. ولا تُعَازَّهُ، ولا تُعَانِدَهُ فَإنَّكَ إنْ فَعَلْتَ ذلِكَ عَقَقْتَهُ، وَعَقَقْتَ نَفْسَكَ فَعَرَضْتَهَا لِمَكرُوهِهِ وَعَرَضْتَهُ لِلْهَلَكَةِ فِيكَ وَكُنْتَ خَلِيقًا أَنْ تَكُونَ مُعِينًا لَهُ عَلَى نفْسِكَ وَشَرِيكًا لَهُ فِيمَا أَتى إلَيْكَ. وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ.)
يبين الإمام (عليه السلام) أن السلطان أو الحاكم أو الأمير أو الرئيس مبتلى وممتحن، بسبب سلطانه وأمرته وقيادته للرعية، أي الشعب. والشعب هو فتنة للسلطان، بما جعل الله له من سلطة وقوة ونفوذ على هؤلاء الناس. والفتنة هي (الابتلاء، والامتحان) وأصلها مأخوذ من قولك: فتنتُ الفضة والذهب، أذبتهما بالنار ليتميز الرديء من الجيد، ومن هذا قول الله عز وجل: "يوم هم على النار يفتنون" أي يحرقون بالنار.
وبناء على ذلك حدد الإمام القواعد السياسية التي ينبغي أن يتعامل بها الشعب مع سلطانه وحكومته، وأهم هذه القواعد هي:
1. الإخلاص في النصيحة للسلطان: النصيحة هي إرادة الخير للمنصوح له. وإن القرآن الكريم ذكر أن الوظيفة الأساسية لبعثة الأنبياء (عليهم السلام) هي النصح لأممهم، كما أن الأولياء والصالحين لم يفق بعضهم على بعض بالصوم والصلاة، بل بالنصيحة. وقال الإمام الحسن (عليه السلام): (إن أحب عباد الله إلى الله الذين يسعون في الأرض بالنصيحة، والذين يمشون بين خلقه بالنصائح ويخافون عليهم يوم تبدو الفضائح)، والنصيحة التي تتعلق بحقوق المسلمين للحكام والأمراء والسلاطين وغيرهم أعظم من نصيحة الرجل التي تتعلق بمعاملته ووكالته ووصيته، فإن نصيحة العموم أعظم من نصيحة الخصوص، وإن من جلس على الوسائد، وجب عليه النصيحة.
2. عدم مماحكة السلطان: ينصح الإمام الرعية بعدم الدخول في مماحكة مع الأمراء والحكام والسلاطين. والمماحكة هي المناقشة القائمة على الجدل بلا طائل، وبلا فائدة ترجى لا للسلطان ولا للرعية. وينبه الإمام أن مثل هذه المناقشات من شأنها أن تضر بالرعية كما تضر بالسلطان، وليس فيها أي مصلحة لهما. وتركها يكون أوجب من القيام بها.
3. التذلل للسلطان والتلطف به: معنى التذلل هو الخضوع والتواضع للسلطان. وأما التلطف فهو المبالغة في مجاملة السلطان، من أجل الحصول على رضاه، وتجنب غضبه وسخطه. لأن هذا الرضا سيكف يد السلطان عن الرعية، ولكن ينبغي ألا يكون ذلك مضرة بالدين، بحيث يتحول هذا التذلل والتلطف إلى ساحة للنفاق والدجل، وقول غير الحقيقية، أي لا ينبغي أن يكون على حساب القيم الإسلامية مثل الصدق والأمانة والشجاعة.
4. عدم معازة السلطان ومعاندته: ينصح الإمام الرعية بعدم معازة السلطان، و(المعازة) هي الغلبة والقهر، وبعدم معاندته، والمعاندة هي المخالفة والمعارضة. وبمعنى ذلك أن الإمام يدعو إلى عدم مغالبة السلطان ولا معاندته، ولا معارضته لوجود مضرة كبيرة تترتب على ذلك، وهي عصيان أمر السلطان وترك الإحسان إليه مما يتسبب بهلاك الرعية وهلاك السلطان معا.
حقوق الرعية
وأما فيما يتعلق بـ(حقوق الرعية على السلطان) فيقول الإمام: (فَأَمّا حُقُوقُ رَعِيّتِكَ بِالسّلْطَانِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنّكَ إِنّمَا اسْتَرْعَيْتَهُمْ بِفَضْلِ قُوّتِكَ عَلَيْهِمْ فَإِنّهُ إِنّمَا أَحَلّهُمْ مَحَلّ الرّعِيّةِ لَكَ ضَعْفُهُمْ وَ ذُلّهُمْ فَمَا أَوْلَى مَنْ كَفَاكَهُ ضَعْفُهُ وَ ذُلّهُ حَتّى صَيّرَهُ لَكَ رَعِيّةً وَ صَيّرَ حُكْمَكَ عَلَيْهِ نَافِذاً لَا يَمْتَنِعُ مِنْكَ بِعِزّةٍ وَ لَا قُوّةٍ وَلَا يَسْتَنْصِرُ فِيمَا تَعَاظَمَهُ مِنْكَ إِلّا بِاللّهِ بِالرّحْمَةِ وَالْحِيَاطَةِ والْأَنَاةِ وَمَا أَوْلَاكَ إِذَا عَرَفْتَ مَا أَعْطَاكَ اللّهُ مِنْ فَضْلِ هَذِهِ الْعِزّةِ وَ الْقُوّةِ الّتِي قَهَرْتَ بِهَا أَنْ تَكُونَ لِلّهِ شَاكِراً ومَنْ شَكَرَ اللّهَ أَعْطَاهُ فِيمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَلا قُوّةَ إِلّا بِاللّه)ِ.
يٌذكر الإمام (عليه السلام) السلطان أو الحاكم أو الأمير أو الحكومة بحق الرعية أو الشعب عليه، فالشعب إنما صار رعية للسلطان أو الحاكم بفضل قوته وسلطانه وقدرته عليهم، وبالمقابل فان هؤلاء الناس أصبحوا رعية للسلطان، بسبب ضعفهم وذلهم. وبناء عليه ينصح الإمام زين العابدين (عليه السلام) السلطان أو الحاكم أو الأمير أو الحكومة بان تتعامل مع الرعية أو الشعب على وفق القواعد السياسية الآتية:
1. الرحمة بالرعية: يحث الإمام (عليه السلام) الحاكم والسلطان أن يكون رحيما بالرعية، والرحمة هي الرقة والعطف. والرحمة صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وهي إحدى الصفات التي تليق بجلاله وعظمته، وتُعتبر هذه الصفة من أكثر الصفات ذكراً في القرآن الكريم. وقد أمر الدين الإسلاميّ الحنيف بالرحمة، وقرن الرحمة بالإيمان، حيث جعل الرحمة من دلائل الإيمان الكامل، كما حذّر الإسلام من قسوة القلوب، وأوصى الإسلام برحمة مجموعة من الفئات التي تحتاج المزيد من الرحمة والرعاية، ولعل أهمها: ذوي القربى، واليتامى، والمرضى، والخدم، وكذلك الرحمة بالرعية والشعب.
لقد كان رسول الله يعلم أنَّ الرعية الذين يأتمرون بأمر أحدهم في وضع ضعف معين يتطلب رحمةً ورفقًاً من الراعي لهم والمتولي لشؤونهم، أيًّا كان مستوى هذه الولاية، وما أروع الحديث الجامع الذي فصل فيه مسؤولية كل إنسان تجاه من يعول، فقال: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" فالناس كلها راعية من جهة، ومرعية من جهة أخرى، وهو بذلك يوصي الأمة كلها ببعضها البعض.
لكن لا شك أن أخطر الولايات وأهمها هي الولاية العامة التي يرعى فيها رجل أحوال أمة كاملة، إنَّ صواب هذا الرجل أو خطأه سيعود بالنفع أو الضرر على شعوب كثيرة، وقد يستمرُّ النفع أو الضرر في أجيالٍ متعاقبة. لذلك نجد رسول الله مهتماً جداً بهذه القضية، ويخشى على أمته من أن يتسلط عليها من يظلمها أو يفرط في حقوقها.
ومن هنا جاءت أحاديث كثيرة، ومواقف عديدة كلها لتنبيه الحكام إلى دورهم الخطير في رحمة الأمة وسعادتها. ومن هذه الأحاديث ما جاء ليرغب الحكام في ثواب الله إن كانوا عادلين، أو يرهبهم من عذابه إن ظلموا شعوبهم، يقول رسول الله: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ"، وذكر في أولهم: "إِمَامٌ عَادِلٌ".
كما ان اول شيء أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) به مالكاً الأشتر، الذي عيّنه والياً له على مصر، أن يكون محبَّاً للرعية، محترماً لمشاعر الناس من أي فئة كانوا، سواء كانوا مسلمين أم من أهل الأديان الأخرى. ولا يخفى أن في ذلك تثبيتاً لإنسانية الإسلام واحترامه لمشاعر الناس، وتقوية لبنية النظام والحكومة. قال (عليه السلام): (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ. ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً، تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ).
2. الإحاطة بالرعية: يوصي الإمام (عليه السلام) السلطان أو الحاكم أن يكون محيطا بالرعية، والإحاطة بالشيءَ: حَفِظه وتعهَّده بجلْب ما ينفعُه ودَفْع ما يضرُّه، أي الاهتمام بألشي ورعايته، فعلى الحاكم أن يسعى دائما في مصلحة الرعية، ويقوم بما يصلحها في الدنيا والآخرة، وألا يجلب لهم المضرة والمفسدة. ومن مستلزمات الإحاطة أن يعرف عن الرعية كل ما يتعلق بشؤونهم وحاجاتهم وأن يعمل على توفيرها وأن يذلل الصعاب أمام رعيته فيحصلون على حاجاتهم بسهولة ويسر من دون مشقة ولا نصب.
3. الأناة في الأمور: يوصي الإمام (عليه السلام) السلطان أو الحاكم بالتأني، وهو التثبت وعدم التعجل في الأمور. والتأني من الخصال الفاضلة التي يتميز بها الإنسان وعدم طلب الأشياء إلا في وقتها الملائم، وهو تصرف حكيم بين العجلة والتباطؤ، وهو من صفات أصحاب العقول والرزانة. فعلى الحاكم أن يتأنى ويتثبت قبل أن يأخذ القرار بحق الرعية، وقبل أن يندم على ما فعل بهم من أذى أو عقوبة.
بهذه الموازنة الدقيقة يضع الإمام زين العابدين (عليه السلام) معايير الحقوق بين الراعي والرعية، فلا يُسرف الراعي في استخدام رعيته التي بايعته وعاضدته وساندته، فيذلها ويمتهنها، ويحوّلها إلى قطيع وخول تكبّراً واستهتاراً، وفي نفس الوقت لا تُسرف الرعيّة في الدلال والتغنّج على الوالي فتعانده وتتعزّز عليه وتماحكه وتجادله فتُهلكه وتهلك معه، وإنّما أن يعرف كلّ ذي حق حقّه، ويعرف كلّ حدوده وواجباته ومسؤولياته لتجاوز المحن وعبور المطبّات واحتواء الفتن..
نخلص مما تقدم إلى ما يأتي:
1. إن من واجبات الرعية أو الشعب مساندة ومعاضدة السلطان أو الحاكم أو الحكومة الذي ارتضوها، سواء بالمبايعة، أو بالانتخاب، أو بالوكالة، والطاعة له والاستجابة حين يدعوهم، حتى يتمكن من أداء واجباته في استتباب الأمن، وتحسين المعيشة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والسير بالشعب نحو التقدم والازدهار. وقد أرسى الإمام علي (عليه السلام) دعائم هذه الثقافة الحقوقية في الأمة موضحا لجميع أفرادها ما لهم وما عليهم من حقوق: "أيّها الناس، إنّ لي عليكم حقّاً، ولكم علَيَّ حقّ: فأمّا حقُّكم عليَّ فالنصيحةُ لكم، وتوفير فَيْئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كما تعلموا. وأمّا حقّي عليكم: فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمَغيب، والإجابةُ حين أدعوكم، والطاعةُ حين آمُرُكم".
2. إن الرعية أمانة في يد الراعي، وهو السلطان أو الحاكم. ويجب عليه القيام بحفظها، وحسن التعهد لها والعمل لمصلحتها، فمن ولاه الله شؤون الخلق من ملك وأمير، ورئيس ووزير ومدير ومأمور... يجب عليه أن يحوطهم بنصحه، ويخلص لهم في حكمه، فيكون لهم كما يكون لنفسه، يحب العدل معه والصدق فليكن معهم عادلا، وفي معاملتهم صادقا. يحب لنفسه السلامة والعافية، والعلم والثروة، فليعمل على سلامتهم من الأمراض ووقايتهم من الأضرار وليقم بينهم دور العلم ويسهل السبل إليه، ولينم ثروتهم.