ظاهرة التوحش في المجتمعات المعاصرة
مفاتيح النهضة والتقدم في نهج الإمام علي عليه السلام (10)
مرتضى معاش
2022-06-12 07:08
حول نهج الإمام علي (عليه السلام) في التآلف والسلم، تناولنا عنصرا آخر في هذا المنهج، وهو الإنسان الاجتماعي بالخصوص دور مفهوم الأخوة في ترصين البنية الاجتماعية، وفي هذا المقال نستمر في استكشاف مفهوم الإنسان الاجتماعي، ونستعرض ظاهرة التوحش في المجتمعات.
الإنسان الاجتماعي مفهوم ينبع من خلال دراسة العلوم الانسانية مثل علم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد، بالإضافة إلى علوم أخرى مرتبطة بها، تحقق في عملية بناء العلاقات الاجتماعية، حيث تدرس هذه العلوم طبيعة هذه المجتمعات، وميكانيكية المجتمعات وديناميكياتها، الأسباب والمسببات، البداية والمنتهى.
وتحاول هذه العلوم أن تعرف حركة هذه المجتمعات وإلى أين تصل وكيف تتطور تطورا إيجابيا، أو تذهب في اتجاه سلبي فتقبع في التخلف والجمود، لكن مشكلة هذه العلوم الإنسانية كما يشير بعض العلماء لها جوانب سلبية، لأنها تركز على الجانب السلبي للإنسان وتعتبره إنسانا فرديا متوحشا ولا يمكن إصلاحه، أي أنها تعطي نظرة سلبية وعدمية بأنه لا يمكن تحقيق التغيير والتحول الاجتماعي.
إيجابيات قراءة نهج البلاغة
لكن عندما نقرأ كلمات الإمام علي (عليه السلام) لاسيما في (نهج البلاغة)، نعثر على ذلك المخزون الكبير الذي يوجد فيها، وتحليل الإمام علي (عليه السلام) للمجتمعات الإنسانية، وإمكانية بناء هذه المجتمعات من الناحية النفسية والاجتماعية والاقتصادية بناء سليما، فيعطي بنية تحتية للبناء الإنساني في هذه العلوم المتفرعة، والواقع نحن مقصرون في هذا الجانب تجاه كلمات الإمام علي (عليه السلام).
إذا أراد أحدنا أن يجد العلم الحقيقي لمعرفة لإنسان والمجتمعات فلابد أن يذهب إلى نهج البلاغة، ويتبحّر ويتعمق فيه، حتى يستفيد ويساهم في بناء قاعدة علمية جيدة للعلوم الإنسانية، ومن أهم النقاط التي طرحها الإمام علي (عليه السلام) هي قضية الإنسان الاجتماعي في مقابل التوحش الفردي، ومعرفة دوافع هذا السلوك الإنساني والاجتماعي.
إن آفة المجتمع هو التوحّش، وهو في معناه مجموعة من السلوكيات التي لا تحقق الاندماج الاجتماعي للفرد، فأما ان يصبح منفردا مستغرقا في الوحدة والغربة والعزلة، وأما أن يكون انتهازيا أو مصلحيا أو عدائيا، فينتج الصراعات والانشطارات والحروب والمشاكل والأزمات.
التوحش والقسوة
يقودنا الإمام علي (عليه السلام) في نهجه نحو طريق بناء الإنسان الاجتماعي، ومن ثم تحجيم حالة التوحش الفردي في المجتمع، فكل إنسان لا يُبنى بطريقة صحيحة، ولا يحقق الاندماج الاجتماعي، يتحول إلى حالة التوحش، فبعض المجتمعات تعيش حالة من الفوضى تعبر عن عدم التعاون وعدم التفاهم والانسجام وعدم القدرة على التعايش، وبالنتيجة تكون هناك حالة من التوحش تجاه الآخرين، وتجاه النظام العام والقانون، فالتوحش يستهدف تمزيق قواعد السلوك الإنساني في المجتمع التي يمكن أن تجمع مصالح البشر وتجمعهم في بيئة منسجمة ومتعايشة.
فعن الإمام علي (عليه السلام): (قُلُوبُ الرِّجَالِ وَحْشِيَّةٌ فَمَنْ تَأَلَّفَهَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ)، لمعرفة معنى هذا الحديث بعمق، التوحش: مقابل الأنس والاستئناس بالآخرين، فلايستطيع ان يعيش بدونهم، وقد يحمل التوحش معنى القسوة، الغربة، الوحدة، الفراغ، الخوف من الآخر..
ومعنى القسوة، قد يأتي من معنى الحيوان الوحشي غير الأليف، أحيانا يُقال هذا الإنسان وحش، فهذا مأخوذ في معناه من الحيوان الوحشي كالأسد والنمر والذئب الذي لا يمكن أن يجتمع مع البشر ومع الحيوانات الاخرى ولا يستأنس بهم، وهو ليس أليفا كالقطط.
فكل إنسان يمكن أن يكون متوحشا من خلال القسوة الموجودة فيه كالحيوان المتوحش، وكذلك يأتي التوحش بمعنى الغربة، وفي الفراغ الذي يعيشه الإنسان فيجد نفسه وحيدا ضائعا وتائها في فراغ كبير جدا، فيشعر بالتوحش، وكذلك يأتي التوحش بمعنى الخوف من الآخر وسوء الظن به وعدم قدرته على أن يجد طريقا له للتفاهم مع الآخر، فهي حالة نفسية واجتماعية في نفس الوقت.
الانسان يولد منفردا، ولكن من خلال التفاعل الاجتماعي والتعامل مع الآخرين يجعله إنسانا اجتماعيا فيخرج من حالة التوحش، ومفردة وحشية في حديث الإمام علي (عليه السلام) يمكن أن تنطبق عليها جميع المعاني التي ذكرناها آنفا.
فقد يكون قاسيا لعدم وجود الحب لأن الحب يحتاج إلى عملية بناء وتعبئة في القلب وعندما يكون القلب خاليا يصبح وحشيا، لأنه لم يتعلم سابقا على الحب، فيحتاج إلى عملية اكتساب، لأن الحب يتم بعملية اكتساب وتخزين الرحمة والمحبة باستدامة في القلب فعندما يخلو من الحب والتراحم ويستحكم الفراغ الداخلي فإنه يكون متوحشا.
والكلام هنا يخص الرجال فقط ولم يذكر النساء، لأن النساء عاطفتهن أقوى من الرجل، فيكون لدى المرأة مخزون جيد من العاطفة، بينما بالنسبة للرجل يحتاج إلى عملية تخزين كي يكتسب العاطفة، حتى يستطيع أن يملأ قلبه بالرحمة والحب والاحترام والتسامح والانسجام مع الآخرين.
مبادرات لتأليف القلوب
(وحشية) بمعنى منفردة، أو غريبة، أو قاسية، يقول الإمام (فمن تألَّفها) ولم يقل (فمن ألِفَها)، فالاخيرة تعني التآلف العفوي الذي لايستفرغ وسعه للتآلف، أما كلمة (تألَّفها) بمعنى لابد أن تكون هناك مبادرة للإنسان واستفراغ الوسع والاجتهاد لتأليف القلوب، وملئها بالانسجام والاحترام وبالعلاقات الاجتماعية والمحبة، أي يبدأ الإنسان من نفسه، بحركة ذاتية ليجعل الرحمة والحب والاحترام في قلبه.
بالنتيجة سوف يقود ذلك إلى بناء علاقة صحيحة وسليمة مع الآخرين، ويكون الارتباط وثيقا بحبل رصين، لذلك يقول (أقبلت عليه) لأن طبيعة الإنسان تحب الرحمة والاحترام والتفاعل والتشارك، فإذا استعملتَ الرحمة والاحترام مع الآخرين دائما، فإن الناس سوف يحترمونك ويحبونك ويبادلونك بالمثل.
لذلك كلما يملأ الإنسان قلبه بالرحمة والمحبة، يستطيع أن يجذب الناس نحوه، وهذا من عوامل الجذب القوية عند الإنسان لصناعة الألفة والتآلف الاجتماعي. (أقبلت عليه) بمعنى لم تدبر منه.
الإنسان إذا كان قلبه قاسيا لا يستطيع أن ينسجم مع الآخرين. فيكون أنانيا ومنشغلا باهتماماته الشخصية الذاتية، وهناك أناس دائما ما تشغلهم قضاياهم الذاتية والاهتمام بانفسهم فقط، وبالتالي يؤدي إلى استفزاز الناس ونفورهم وإدبارهم ولا يقبلون عليه.
وهكذا سوف ينشأ نوع من العلاقات الاجتماعية الشكلية، القائمة على المجاملات، وليست علاقات اجتماعية رصينة وقوية.
وهذا هو الملخّص الأساسي لمفهوم الإنسان الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام).
الإيمان ينتج التقوى
إن الإنسان الذي يكون لديه إيمان قوي سوف ينتج التقوى، بالنتيجة يسلّم نفسه إلى الله سبحانه وتعالى، فعندما يتغاضى عن نفسه ويعبر نفسه ويتجاوزها، ستكون علاقته مع الآخرين علاقة وثيقة، ومن هنا تبدأ الخطوة الأولى في عملية البناء الاجتماعي وهذا ما كان يقصده الإمام علي (عليه السلام).
إن قضية التآلف تعني عملية صناعة في منهج الإمام علي (عليه السلام)، وأن يبدأ الإنسان بالصفات الإيمانية وهي التقوى والإيمان والصدق، هذه الصفات هي التي تجعل الإنسان أكثر قدرة على التآلف مع الآخرين، والمبادرة في عملية تأليف القلوب، والتأليف تعني التجميع، والتأليف لا يكون صحيحا إذا كان عشوائيا، أو ارتجاليا.
مثلا تأليف كتاب ما، فإذا كان التأليف منظّما ومنسجما ومرتَّبا، فيُقال عن الكتاب بأنه جيد، والمؤلف جيد أيضا، أما إذا لم يكن تأليفا جيدا، ركيكا، متناقضا، غير مرتّب، فالقارئ يمل منه ويغلق الكتاب، هذا مثال أوردنا لكي نوضح معنى التأليف الحقيقي القائم على الانسجام والتوازن، وعملية الحركة الهدفية في بناء العلاقات الاجتماعية، وهذا هو ما يقصده الإمام من كلمة (تألَّفها).
النجاح الاجتماعي
(فمن تألّفها أقبلت عليه) بمعنى أن هذا التأليف قد نال النجاح الاجتماعي، من خلال توفير عناصر التوازن، والجمع بين الناس بانسجام وبهدفية وترتيب منظم هادف نحو بناء اجتماعي صحيح، كما لو أن أحدهم يحاول أن يركب جهازا ما، أو يؤلّف شيئا ما، فإذا ألَّفه بطريقة جيدة، فإنه سوف يكون منجَزا جيدا بإخراج جيد، فإذا أراد أن يجمّع (دولاب ملابس مثلا)، فلا بد أن يكون تجميعه مرتّبا يضع كل شيء موضعه حتى يستجمعه بشكل ناجح، أما إذا لا توجد لديه خبرة في ذلك، فإن النتيجة تجميع أو تركيب شيء فاشل.
التخطيط المسبَق
هذا يعني أن التأليف يحتاج الى تخطيط مسبق، أي أنه عملية صناعة ومبادرة، فالإنسان الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)، هو الحركة التي تعتمد على تخطيط وتنظيم وفهم وتوفير العناصر الذاتية للإنسان في عملية التأليف.
وهذه عناصر ذكرناها سابقا كالأمانة والصدق والتقوى والإيمان، والورع عن محارم الله، هذه كلها تؤدي إلى تأليف المجتمع تأليفا صحيحا منضبطا متزنا ومسؤولا، فيه يتحقق الاحترام والثقة بين أفراد المجتمع، ويكون هناك انتظام في عملية الانسجام الاجتماعي.
خطر الأيديولوجيات المنحرفة
النقطة المهمة التي نلاحظها اليوم في عملية بناء المجتمعات وصناعتها، أنها في عالم التكنولوجيا والعولمة، وعالم الشبكات الاجتماعية والمنصات الرقمية، أصبحت مفككة أكثر مما كانت عليه سابقا، ففي العصور البسيطة كان التماسك الاجتماعي أقوى.
لكن في العصور المعقدة حاليا أصبحت المجتمعات مفككة وتستمر بالتفكك اكثر فاكثر، بينما يُفترَض أن تكون الآن أكثر تماسكا من خلال التقارب الثقافي والمعرفي، لكن ما نلاحظه أن التكنولوجيا والعولمة، أدت إلى تفكك المجتمعات بشكل أكبر لأنها تشكل تأليفا سيئا وارتجاليا وعشوائيا، ولا يؤدي إلى أهداف معنوية إنسانية عالية. أما الهدف من العولمة والتكنولوجيا فهي مادية ربحية فقط. فالذي يكون قادرا على تجميع المجتمعات وترابطها وتقاربها هي منظومة القيم الفطرية والإنسانية.
الحكام والظالمون والأشرار وأصحاب الأيديولوجيات المنحرفة، وهؤلاء الذين يجعلون من أنفسهم فلاسفة وأنبياء، بل يجعلون من أنفسهم آلهة في مجتمعاتهم الخاصة، فيقومون بتفكيك المجتمعات العامة ويحطمونها لكي يسيطروا على كل فرد ثم يتحكموا بالجميع، لذلك هذه المجتمعات المفكَّكة ازدادت توحشا، وازدادت ميلا نحو العدوانية ونحو الصراع والحرب.
نلاحظ أن هناك مجتمعات تعيش مشاهد من القتل الجماعي يوميا، سواء كان قتل عائلي أو جرائم قتل في قرية، أو في مدينة، وهذا الصعود للجرائم الوحشية نتيجة للتفكك الذي يعصف بالمجتمعات، واغتراب الإنسان وتوحشه، وعدم إحساسه بالانتماء الاجتماعي الذي يؤدي بدوره إلى نمو ظاهرة التوحش.
ومع التقارب العالمي كان لابد ان يتعارف وينسجم البشر، لكن ومع كل عوامل القرب والتعولم ازداد التوحش؟
في محاولتنا لفهم ظاهرة التوحش في المجتمعات المعاصرة الحداثوية يمكن ملاحظة عدة نقاط:
المجتمعات الوهمية بلا قيم
النقطة الأولى: إن التوحش يزداد لأن المجتمعات وهمية، وفارغة من القيم الاجتماعية، ويزداد فيها التباعد والانعزال، والعلاقات فيها شكلانية بنسبة كبيرة، من دون جوهر، وتظهر فيها علامات الرذائل الأخلاقية كالحسد والغيبة والتسقيط والطبقية، والفوقية والغرور والكبر والتجبر، فهذه مجتمعات وهمية وليست حقيقية، لأنها تفتقد لأبسط الروابط الانسانية.
عندما يكون المجتمع طبقيا، تكون الطبقة العليا هي التي تحكم وتهيمن وتسيطر على المال، وهناك طبقة فقيرة تعيش على الفتات، هذا ليس مجتمعا حقيقيا وإنما مجتمع وهمي، لأن المجتمع الحقيقي يتحقق فيه الإنسان الاجتماعي في مجتمع يتكافأ فيه الافراد.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (وَأَوْحَشَ الْوَحْشَةِ الْعُجْبُ) والعجب هو التكبر والغرور والاحساس بالفوقية، واعتبار الآخرين دونه، والإعجاب الكبير بنفسه وإحساسه بأنه أفضل وأحسن من الناس، وأغنى منهم، هذا هو التوحش بالضبط، أي يكون الإنسان منفردا ويعيش لوحده، ولا يحترمه الآخرون الا بسبب أمواله وهيمنته ومركزه التسلطي، وعنه (عليه السلام): (لا وحدة أوحش من العجب)، لذلك فإن الإنسان الفارغ متوحش، والتمحور حول الذات يجعل الإنسان متوحشا وبعيدا عن الناس، لذلك فإن المجتمع بمثل هؤلاء الأفراد يكون وحشيا. وعنه (عليه السلام): (ثمرة العجب البغضاء). لذلك فإن الكثير من المجتمعات وهمية وغير حقيقية، وهي حاضرة بأجسادها، لكنها غائبة بقلوبها، هذه العبارة يمكن تصف لنا المجتمع الوهمي وصفا جيدا.
كما يمكن ان تصف العالم اليوم الذي يعيش تقدما وهميا لكنه يزداد توحشا وكراهية نتيجة للإحساس بالتفوق والاحتقار الذي تمارسه القوى الكبرى ضد الدول الصغيرة والشعوب الضعيفة، فتعطي لنفسها الحق في الهيمنة عليها والاستيلاء والاستعمار وسلبها مواردها وافقارها وفرض ثقافتها.
عوامل استقطاب التوحّش
النقطة الثانية: العلاقات الاجتماعية المادية، تكون بلا مبادئ فتزداد عوامل استقطاب التوحش، وهي الطمع والاستئثار والكراهية، وعوامل أخرى منفِّرة وقاطعة للروابط الاجتماعية، لأنها قائمة على المصالح، وذكرنا أحاديث حول الأخوة، فالأخوة المبنية على مصالح الدنيا، تزول بمجرد زوال المصلحة.
الاستغراب الاجتماعي
النقطة الثالثة: الاستغراب الاجتماعي، وعدم اندماج الفرد في المجتمع، وافتقاد الروابط وانعزال الفرد، وهذا الامر يمكن أن نلاحظه في الجفاء، والهجران، والهروب، الذي يعبر عن حالة الجهل في قضية البناء الاجتماعي الذي يحتاج إلى علم وفهم ووعي بأهمية المجتمع، لكي يمكن ان نعيش معا، إذ لا يمكن أن يعيش الإنسان منفردا لوحده، لأنه سوف يعيش بائسا غريبا متوحشا.
أما الإنسان الذي يتعلم ويعلم الغايات والأهداف، سوف يحاول أن يحقق الإنسان الاجتماعي البعيد عن التوحش، يقول الإمام علي (عليه السلام) في وصفه للعلماء في حديث طويل: (وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ)، فالعالِم يأنس، لأنه يعرف العواقب بعلمه، ويعرف الخطوات اللازمة للحركة والعمل.
أما الجاهل فيستوحش دائما ولا يقبل وهذا من علامات الجمود والركود الذي يحدث في المجتمع بسبب خوف الإنسان من التحرك والتقدم إلى الأمام، بسبب جهله، لأن الخوف ينبع من الجهل، ولذلك يقع في المحذور الذي كان يخشاه، فالجهل يقود إلى الخوف، والخوف يؤدي إلى الركود والجمود والسكون، وبالتالي يقع في العاقبة التي كان يخاف منها.
الإنسان العالِم يخطط لمستقبله
بينما الإنسان العالم الذي يجهّز نفسه للمستقبل يكون مستعدا للحركة والمعرفة، مثال عن ذلك، نحن نعيش اليوم أزمة خوف من فقدان الأمن الغذائي، نتيجة للحرب الاوكرانية، ولأن العراق والدول العربية والإسلامية تستورد القمح الذي يُصنع منه الخبز، من أوكرانيا وروسيا، فبلداننا لا تعيش الاكتفاء الذاتي، ولم تذهب باتجاه تحقيق هذا النوع من الاكتفاء، من خلال التخطيط الجيد، فوقعت في العاقبة التي نعيشها اليوم.
إن الإنسان الجاهل لا يخطط لمستقبله وهذا من صفات الجاهلين، أما العالِم فلا يخاف ولا يستوحش من الأشياء فيتحرك ويعمل ويخطط حتى يحقق العاقبة الجيدة، والإنسان الذي يأنس بالعلم والمعرفة سوف يحقق المجتمع الصحيح والتقدم الاجتماعي المطلوب.
المجتمعات العشوائية
النقطة الرابعة: المجتمعات العشوائية التي تفتقد للمناهج في التربية والتعليم والتوجيه والإصلاح، فهي تعيش بلا معنى وبلا هدف، لهذا فهي مجتمعات عشوائية متوحشّة، لأن الذي يريد أن يحقق الإنسان الاجتماعي، والعلاقات الاجتماعية الجيدة، لابد أن ينتبه إلى التربية الجيدة الصالحة والتعليم الجيد، والتوجيه والإصلاح.
لكن حتى هذه التربية والتعليم والتوجيه والإصلاح، نحاول أن نطبقه بأسلوب سيئ وفارغ، لأنه في مجمله سطحيّ وليس على العمق الذي يعتمد التخطيط والمنهجية والعمل المتقن، لذلك هي مجتمعات عشوائية.
المجتمعات العدائية
النقطة الخامسة: المجتمعات العنيفة العدائية المتوترة المشحونة بالصراعات، هناك أناس تتحرك فيهم حالة التوتر والتصادم والتعصب والتعنصر ضد الآخرين، فتجدهم في صراع مع الآخرين بشكل دائم، وهذا هو التوحش بحد ذاته، أما الإنسان الاجتماعي والمجتمعات الإنسانية الصالحية، فتتجه إلى عملية تحجيم العنف والعداء مع الآخرين، وتقليل التوتر وإيقاف عملية شحن الناس بالأيديولوجيات التي تؤدي إلى الصراع مع الآخرين.
وعن الامام علي (عليه السلام): (فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ).
المجتمعات الغرائزية
النقطة السادسة: المجتمعات الغرائزية التي لا تمارس التعقل، وتسيطر عليها الأهواء، وتسيطر الأهواء على الغرائز، هذه مجتمعات متوحشة يمكن أن نلاحظها في عالم الاستهلاك، وهذه نقطة واضحة تطرقنا لها سابقا، فالمجتمع الصحي في علاقاته الاجتماعية والإنسان الاجتماعي يتحقق من خلال العقلانية، والتعقل والتحكم بالغرائز تحكما معتدلا، بحيث يؤدي إلى بناء حركة قصدية، كما يقول الإمام علي (عليه السلام) في وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله): (سِيرَتُهُ الْقَصْدُ وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ)، لأن القصد أي الاعتدال والإدارة الجيدة للذات هو الذي يؤدي إلى الرشد وهو التعقل والحكمة، وبالتالي إلى التطور الرشيد والتقدم الإنساني.
المجتمعات التدميرية
النقطة السابعة: المجتمعات التدميرية التي يتم فيها تفكيك القيم، عبر الشمولية والانصهار والذوبان تحقيقا لمصالح خاصة، فهؤلاء يحاولون من أجل مصالحهم الخاصة أن يفككوا المجتمعات، والأخيرة هي تذهب في هذا الاتجاه أيضا، من خلال عملية التدمير الذاتي، أي تدمّر نفسها بنفسها، وهذا المجتمعات التي توجد فيها حالة التدمير الذاتي سوف تقودها هذه العملية نحو منزلق خطير جدا، وبعضها تنتهي نهاية حتمية نتيجة للتوجه الذي سارت فيه وانقلابها على القيم الفطرية.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (وَلَا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَاجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ)، فتطور المجتمعات بتطور الإنسان الاجتماعي وهذا الامر يحتاج إلى عملية تراكم إيجابي في منظومة القيم وقواعد السلوك العقلانية.
سوف نكمل البحث في المقال القادم...