كيف نقرأ الإمام علي؟
د. عبد الحسين شعبان
2022-04-23 07:30
كيف يمكن قراءة الإمام علي راهنياً؟ أي بأفق مستقبلي، من خلال قراءة مفتوحة واستشرافية عبر المراجعة والتأمل آخذاً بنظر الإعتبار سياق المرحلة التاريخية، باعتبار حركة التاريخ متواصلة وليست ساكنة أو متوقفة أو متجمّدة عند مفصل معيّن، بل تعتمد على دينامية مستمرّة ومتجدّدة، وتلك قيمة الفلسفة، خصوصاً فلسفة الحق التي تعتبر الإنسان الأساس الذي تسعى إلى رفاهه وإسعاده، وفلسفة العدالة التي تقوم على المساواة بين البشر. وكان الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس يقول: "الإنسان مقياس كلّ شيء"، وكنت قد اخترت عنواناً لكتابي "الإنسان هو الأصل" في العام 2002، الصادر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة، 2002، إستناداً إلى ذات الأرضية إلى ذات الأرضية الفكرية الإنسانية.
أستطيع القول أن الإمام علي سبق عصره بفكره المنفتح ونظرته إلى الحريّة ومفهومه بشأن العدالة ومبادئ المساواة وتأكيده على "إنسانية الإنسان" بغض النظر عن أصله الإجتماعي. ولذلك أصبح مصدر إلهام ليس للمسلمين فحسب، بل لعموم من يؤمن بالقيم الإنسانية، ولا بدّ من التفريق بين من يُنسب نفسه إليه وبين أفكاره وآرائه ومبادئه، ومثل هذا التفريق ضروري لأن هناك من حاول التشبث باسمه لحسابات سياسوية أو حزبوية، لكنه كان بعيداً عنه، حتى وإن أكثر الضجيج بعناوينه وحمل راياته، لكن ثمة هوّة سحيقة بينه وبين بعض من ينسبون أنفسهم إلى مدرسته، وهي مدرسة "آل البيت".
وللأسف فقد هُزمت العقلانية التي حاول تكريسها في وسطنا وظلّت مهزومة، الأمر الذي لابدّ من ردّ الإعتبار إليها بصيغة حديثة، فكيف يمكن النظر إلى ذلك في فلسفة الإمام علي، خصوصاً في ظلّ العلوم الحديثة؟ والعلم يحتاج إلى المعلومة والمعرفة والتجربة والحكمة، وهذه الأخيرة مع العقل هي أساس الدين، إذ لا دين خارج العقل، فالأخير هو الشرع الأعلى للإنسان، وبالعقل يعالج الإنسان شؤونه استناداً إلى علوم عصره، وكلما تمكن من استيعابها استطاع أن يتساوق مع متطلبات زمنه، فقد كان دين علي هو دين العقل، أما الفقه فهو فقه الواقع، وهو ما كان الإمام علي يعتمده.
وحسب أبو العلاء المعرّي:
أيها الغرّ إن خصصت بعقل / فاتبعه فكلّ عقل نبي
فشاور العقل واترك غيره هدراً / فالعقل خير مشيرٍ ضمّه النادي
وحين نتناول المكانة العليا للإمام علي فإننا نخصّ بذلك فلسفته وسيرته وعدله وتمسكه بالحق في مثال إنساني نادر ومنزّه، وذلك من موقع خارج دائرة القداسة الدينية والإيمانية العقائدية، لأن الإمام علي خارج دائرة المكان والزمان، فهو مفكّر كوني (زمكاني)، أي أنه عابر للزمان والمكان، وما قاله وما كتبه من نصوص هي ذات بعد قيمي مستمر للبشر جميعاً وليس للمسلمين وحدهم، خصوصاً تلك التي تتناول الإنسان وحرياته وحقوقه، وإن كان بعضها لا بد أن يؤخذ بسياقه التاريخي.
وبالطبع فما هو تاريخي لا يمكن سحبه ليصبح راهنياً وإلّا فإننا سنعيش في الماضي، بل ونغرق فيه، لأن البحث في مثل هذه المسائل التاريخية والاختلافات الدينية والطائفية ليس مكانها التجمعات البشرية، بل هي من اختصاص الجامعات ومراكز الأبحاث والمجمعات الفقهية وعلماء التاريخ والدارسين والفقهاء، وهي قضايا لا علاقة لها بالواقع الذي نعيشه حين يراد استنفار الحشود البشرية التي تذكّر بعصر المداخن في الثورة الصناعية في أوروبا، حيث الشحن والتحريض ليس لاعتبارات طبقية واجتماعية، ولكن لحسابات سياسية وطائفية ضيقة. وللأسف فإن هذا هو ما يجري اليوم لدرجة إحداث نوع من التخندق الطائفي والاصطفاف المذهبي الذي يُضعف بلا أدنى شك الوحدة الوطنية والمصالح المشتركة العليا لعموم البلاد.
هناك من يريد أن يختزل الإمام علي بطائفة أو بمجموعة إسلامية أو بحزب إسلامي أو بطقوس معينة قد لا تنسجم أساساً مع فكر الإمام علي، ناهيك عن ممارسات باسمه وهي أبعد ما تكون عنه، في حين أنه مفكّر وفيلسوف له آراء سبقت عصره ولا ينبغي النظر إليه من زاوية الإشكالات التي حصلت بعد غيابه بين طوائف ومذاهب واجتهادات واحترابات ليس له علاقة بها لا من قريب ولا من بعيد، بل أنه لو كانت حصلت في عهده لوقف بالضدّ منها حرصاً منه على وحدة المسلمين وتجنباً لإحداث تصدّع في صفوفهم، خصوصاً كانوا يعانون بعد وفاة الرسول من فراغ كبير وأمامهم مشروع بناء الدولة التي اعتمدت في مرجعيّتها على القرآن والسنة من جهة، فضلاً عن الواقع بكلّ فسيفسائه وتضاريسه وتعقيداته.
إن الصراعات اللّاعقلانية والتي استُخدم فيها اسم الإمام علي، بل زجّ به في غير موقعه ومقامه كانت وما تزال مستمرة ليس بسبب اجتهادات بين المذاهب وهو أمر طبيعي، بل استخدمت لأغراض سياسية وأنانية ضيّقة عبر شحن طائفي أساسه التعصّب ووليده التطرّف وهذا الأخير إذا ما تحوّل إلى سلوك أي انتقل من الفكر إلى الواقع يصير عنفاً، والعنف حين يضرب عشوائياً يصبح إرهاباً وإذا استهدف زعزعة الأمن والاستقرار وكان عابراً للحدود نطلق عليه "الإرهاب الدولي".
ولطالما اندلعت حروب طائفية ومذهبية ونزاعات مسلّحة راح ضحيّتها ملايين البشر، وحسبي هنا أن أشير إلى حرب المئة عام وحرب الثلاثين عام في أوروبا التي انتهت في العام 1648 ﺑ "صلح ويستفاليا"، بحيث تم وضع حدّ للإحتراب والنزاع الديني والطائفي بتأكيد الاحترام المتبادل وتأدية طقوس العبادة بحرية وحق التنقل واحترام سيادة البلدان. ولكن للأسف فإن هذه الحروب والنزاعات والفتن ما تزال مستمرّة في بلداننا، بل تعيش بيننا ونسمع من هنا وهناك دعوات إقصائية وإلغائية وتهميشية من أناس ينسبون أنفسهم إلى الشيعة أو السنة أو غيرهم ويحرّضون ضدّ بعضهم البعض وكأنهم أعداء وليسوا من أتباع دين واحد، في حين أن الصراع الذي دام 500 عام بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة اللوثرية، جرى وضع حدّ له باتفاق في العام 2016 وأصبح جزءًا من التاريخ يختصّ به علماء اللّاهوت والدارسون لعلوم الدين ولا شأن للناس به، وهو ما حاورت به المطران منيب يونان في مقالة كتبتها بعنوان "خمسون سنة حوار ولا ساعة حرب" التي نشرت في مجلة أفق (مؤسسة الفكر العربي) في 10 ديسمبر / كانون الأول 2021.
لا أبالغ إذا قلت إنني في مرحلة الفتوة الأولى كنت مهتماً بمتابعة سيرة الإمام علي، مثلما هو اهتمامي بالأفكار اليسارية والتقدمية الحديثة، وقد جئت على ذلك في أكثر من مناسبة. وكنتُ قد اطلعت على "نهج البلاغة" وقرأت فصولاً منه، ولكنني عدتُ إليه بالدرس والتمحيص والتدقيق والإفادة والتتلمذ بعد أن استوقفني على نحو لافت للتفكّر والتأمل والاستشراف ما كتبه المفكر اللبناني من أصل مسيحي جورج جرداق في موسوعته الخماسية والتي أضاف إليها مؤلفاً سادساً، وذلك في أواخر ستينيات القرن الماضي، وكانت بعنوان "الإمام علي وصوت العدالة الإنسانية". وكان شقيقه فؤاد جرداق قد أهداه نهج البلاغة وقال له: أدرسه واحفظ ما تستطيع منه، وكانت تلك القراءة مميّزة ونافذة، فانصرف إلى الكتابة عن "علي وحقوق الإنسان"و" علي والثورة الفرنسية" و" علي وسقراط" و "علي وعصره" و "علي والقومية العربية" و "روائع نهج البلاغة". وهي بحق موسوعة معرفية شديدة الرقي منهجاً وأسلوباً وتوجّهاً، تنطلق من رؤيته للإنسان المستخلف في الأرض، والتغيير في مقاربة لفلاسفة الثورة الفرنسية الكبار مثل: روسو ومونتسكيو وفولتير، والفلسفة ابتداءً من سقراط أبو الفلاسفة، وروح العصر واستلهاماته في تأكيد على السياق التاريخي، والعروبة الطافحة التي كان يمتاز بها الإمام علي في تأكيد اعتزازه بأرومته وانتمائه ولغته، ناهيك عن بعض جواهره التي وردت في نهج البلاغة. وذلك ما تناولته موسوعة جرداق .
ولأن الإمام علي مفكر كوني ورؤيته الإستشرافية سابقة لعصره، فهو حين يتناول حقوق الإنسان يلامس في سِبق غير معهود مفكري أوروبا لإدراكه أهمية تلك الحقوق للإنسان استناداً إلى رؤية بعيدة المدى، وهي تلك التي وردت في القرآن الكريم "وقد كرّمنا بني آدم" (سورة الإسراء / أية 70) ، أو كما ورد في (سورة الحجرات/ الآية 13) " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير".
وحسب ميخائيل نعيمة كان الإمام علي من بعد النبي سيّد العرب على الإطلاق بلاغة وحكمة وتفهماً للدين وحماسة للحق وتسامياً عن الدنيا، وحسب بعض ما ينقل عن النبي كان يقول له "يا علي أن فيك شيء من عيسى بن مريم"، وإضافة إلى نعيمة تناوله جرجي زيدان وجبران خليل جبران ومارون عبود وفؤاد جرداق وعبد المسيح محفوظ وهؤلاء كلهم مسيحيون، والقائمة تطول من العرب والأجانب، وحسب جبران خليل جبران وهذا ما كتبه في مجلة العرفان العام 1931 "في عقيدتي أن إبن أبي طالب أول عربي لازم الروح الكلية وجاورها وسامرها، وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها....".
لم تكن أفكار علي بن أبي طالب الرؤيوية وعلمه الوفير وحدهما مصدر إعجاب وإلهام، بل كانت سجاياه الشخصية وأراءه في الإجتماع والحكم ومواقفه الإنسانية وشجاعته ومرؤته، التي شكّلت منظومة سلوكية متميّزة لإنسان يكاد يكون نادراً، خصوصاً وقد تميّز برؤية شمولية عن العالم والكون والحياة والمجتمع، وتلك صفات المفكّر الرؤيوي في عصرنا، فما بالك حين يكون الأمر قبل أكثر من 1400 عام.
أشرت إلى فضل جورج جرداق في تعميق رؤيتي بتسليط ضوء كاشف على جوهر فلسفة الإمام علي ونظرته الإنسانية مقارنة بالمحيط الكوني، الأمر الذي فتح آفاق جديدة أمامي لقراءات غير تقليدية لسِفْرِه المجيد "نهج البلاغة" وذلك بمحاولة تقريب "النص" من مفاهيم العصر الحديث، يضاف إلى ذلك ما كنت قد درسته من فلسفات وأفكار حديثة ومعاصرة في السياسة والقانون والحكم والاقتصاد والثقافة، ثم ما قرأته واطلعت عليه لكبار الفلاسفة والمفكرين، وهو ما كنت أعود إلى أفكاره بين الفينة والأخرى فأستقي منها مَعيناً لا ينضب، ولاسيّما في القيم والمثل الإنسانية.
وأودّ هنا أن أشير إلى ثلاث كتب مهمة أولهما – كتاب "اليسار واليمين في الإسلام" لأحمد عباس صالح الذي قرأت فصولاً منه نشرت في مجلة الكاتب (المصرية) التي كان يرأس تحريرها، وذلك في أواسط الستينيات، وثانيهما – كتاب "علي: سلطة الحق" لمؤلفة المغدور عزيز السيد جاسم في أواسط الثمانينيات، وثالثهما – كتاب: "علي إمام المتقين" لعبد الرحمن الشرقاوي الذي قرأته في العام 1986.
إن هدف القراءة الإرتجاعية لبعض جوانب الفكر العربي الإسلامي تتلخّص في إمكانية الإستفادة من التراث الحضاري وتوظيفه بما يساعد في دراسة أوضاع الحاضر واستشراف المستقبل والوقوف عند دلالته، فما هي فلسفة الحريّة وحقوق الإنسان عند الإمام علي؟
إذا حاولنا الإقتراب من مصطلحات الفكر المعاصر، فسنجد أنه قد عبّر عن ذلك بشكل وثيق في فلسفته للحكم ومنهجه في التعامل مع الولاة وشؤون الرعية، وتستند تلك الفلسفة بمفاهيمها المتقدّمة والمبكرة إلى مبادئ العدل والإنصاف ومعايير الأخلاق، ولا يخضع العديد من أحكامها إلى المكان والزمان، ما يمنحها الصفة الشمولية التي تستمدّ قوّتها من القيم الإنسانية العليا والمثل البشرية الخالدة.
ويكاد الإمام علي يقترب، على الرغم من المسافة الزمنية الفاصلة بين حاضرنا والزمن الذي عاش فيه، من رؤية راهنية (بفارق 14 قرناً) للمفاهيم العصرية التي جرى تدوينها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 والعهدين الدوليين 1996 الصادرين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث تكاد تجد صدى بعضها في فلسفته.
فكما هو مدوّن في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء" (المادة الأولى). يذكّر الإمام علي أن الله خلق الإنسان حرّاً، وتلك قاعدة حقوقية وإنسانية سامية، وتستبطن تحريضاً على الكفاح من أجل الحريّة باعتبارها القيمة العليا، ويتناغم في ذلك مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رض) الذي يقول: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". وهناك شواهد كثيرة في الفكر العربي الإسلامي على رفض إستعباد الناس الذين ولدوا أحراراً ومتساوين، وقد توّج هذا النص في الإعلان العالمي بصيغة قانونية حيث تقول (المادة الرابعة) : "لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص ويحظّر الرق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعها".
المساواة رديف العدل
أما حول مبدأ المساواة قد ذهبت (المادة السابعة) من الإعلان العالمي للقول: "كلّ الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق بالتمتع بحماية متكافئة دون أي تفرقة، كما لهم جميعاً الحق في حماية متساوية ضدّ أي تمييز يخلّ بهذا الإعلان وضدّ أي تحريض على تمييز كهذا"، ونجد صيغة مقاربة وعميقة في ذلك لدى الإمام علي في مخاطبته عامله في مصر مالك بن الأشتر النخعي حين يقول: "لا تكوننّ عليهم (أي على الناس) سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فالناس صنفان أما أخ لك في الدين (أي مسلم مثلك) أو نظير لك في الخلق (أي إنسان)". ويذهب أبعد من ذلك حين يدعو إلى نصرة المظلوم فيقول: "لأنصفنّ المظلوم من ظالمه" وهي الفكرة التي تأخد بها الدساتير الحديثة التي تؤكد على رفع الظلم وسيادة الحق والعدالة والمساواة بين المواطنين.
ويجد حديث الإمام علي ضالته في القرآن الكريم وفي السنة المحمدية للرسول (ص). فمبدأ المساواة يجري تقنينه وفقاً لما ورد في الحديث الشريف: "لا فضل لعربي على أعجمي إلّا بالتقوى" وبالحديث النبوي "الناس متساوون كأسنان المشط" ...
ولم يكن هناك شيء أحب إلى الإمام علي من أن يقيم حقاً ويزهق باطلاً .. وكان انحيازه واضحاً ولا هوادة فيه لمثل الحرية والعدالة والمساواة. والحريّة عند الإمام علي عمل وجداني نابع من الذات الإنسانية، وتعني عنده أيضاً رفض العبودية والإستبداد . وليس هناك من حدود عليها إلّا إذا اقتضت مصلحة الجماعة. ولعلّه أقرب إلى مفاهيم العصر الحديث، حيث هناك من يقول "تبدأ حريّتي عندما تنتهي حريّة الآخرين" أو "تنتهي حريّتي بابتداء حرية الآخرين".
أخوة البشر والبعد الإنساني
كان الإمام علي لا ينفي "حق الاختلاف" ولا يمنع "حق الاعتقاد" أو "حريّة الاعتقاد" باعتبار "الإنسان أخو الإنسان"، إما بسبب الرابطة الدينية أو الرابطة الإنسانية الأهم، وهو ما جئنا على ذكره، وهي مفاهيم متقدمة لم يجر تطبيقها أو تعميمها إلّا في حدود ضيّقة وفي ظروف تاريخية مختلفة. وكنت قد تناولتها بالتفصيل في كتابي الموسوم: "الإسلام وحقوق الإنسان" ، ط1، بيروت، 2001، و ط2، دار بيسان، المركز الثقافي العراقي، بيروت، 2014 .
وفي نظرته إلى العدالة أجاب الإمام علي على تساؤلات كثيرة كانت مطروحة في زمانه، رغم قيام الإسلام ومساهمته في تحرير المجتمع من بعض قيمه البالية وعنعناته الجاهلية، حيث قال مخاطباً من يحاول التشبّث بماضيه وبامتيازاته القديمة "أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم... والله إني لأعترف بالحق قبل أن أشهد عليه والله ما أبالي أدخلت على الموت أو خرج الموت إليّ؟".
وفي حديث آخر أكثر إفصاحاً وبلاغةً وعمقاً، خاطب بعض "الوجهاء" الذين طلبوا نصرته بدعوى أنهم "أعزّة القوم" كما قال الإمام علي "الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه".