الامام الحسن بن علي (ع) والمثل العليا
الشيخ باقر شريف القرشي
2021-09-16 07:57
بقلم: الشيخ باقر شريف القرشي-مقتبس من كتاب حياة الإمام الحسن بن علي (ع) دراسة وتحليل
وتوفرت في الامام أبي محمد الصفات الرفيعة والمثل الكريمة، وتجسدت فيه طاقات الاسلام وعناصره ومقوماته، فهو بحكم قابلياته ونزعاته فذ من أفذاذ العقل الانساني، ومثل من امثلة التكامل البشري، وعظيم من عظماء الاسلام.
لقد بلغ الامام الذروة في فضائله، ومآثره، واصالة رأيه، وسمو تفكيره، وشدة ورعه، وسعة حلمه، ودماثة اخلاقه الى غير ذلك من ملكاته التي كان بها موضع اعتزاز المسلمين وفخرهم، ونشير الى بعضها.
امامته
ومن أبرز الصفات الماثلة فيه هي الامامة وذلك لما تستدعيه من المثل والقابليات التي لا تتوفر إلا عند من اصطفاه الله واختاره من بين عباده، وقد حباه تعالى بها، وأعلن ذلك الرسول الكريم بقوله فيه وفي أخيه: «الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا.»
ولا بد لنا من وقفة قصيرة لنتبين فيها معنى الامامة، وبعض الشؤون التي تتعلق بها فإنها تكشف عن سمو مكانة الامام وعظيم شأنه والى القراء ذلك:
أ ـ معنى الامامة
وحددها علماء الكلام فقالوا: «الامامة رئاسة عامة في امور الدين والدنيا لشخص انساني.» فالامام ـ حسب هذا التحديد ـ هو الزعيم العام والرئيس المتبع وله السلطة الشاملة على الناس في جميع شئونهم الدينية والدنيوية.
ب ـ الحاجة الى الامامة
والامامة ضرورة من ضروريات الحياة لا يمكن الاستغناء عنها بحال من الاحوال فبها يقام ما أعوج من نظام الدنيا والدين، وبها تتحقق العدالة الكبرى التي ينشدها الله في ارضه، ويتحقق الامن العام والسلام بين الناس، ويدفع عنهم الهرج والمرج، ويمنع القوي من أن يتحكم في الضعيف، ومن اهم الامور الداعية الى وجود الامام ايصال الناس الى عبادة الله، ونشر احكامه وتعاليمه، وتغذية المجتمع بروح الايمان والتقوى ليبتعد الانسان بذلك عن الشر ويتجه الى الخير، ويجب على الامة كافة الانقياد إليه، والامتثال لأوامره ليقيم أودها، ويلم شعثها ويهديها الى سواء السبيل.
ج ـ واجبات الامام
إن على امام المسلمين وولي أمرهم ان يقوم بما يلي:
1 ـ حفظ الدين، وحراسة الاسلام، وصيانته من المستهترين بالقيم والاخلاق.
2 ـ تنفيذ الاحكام، والقضاء على الخصومات، وانصاف المظلوم من ظالمه.
3 ـ حماية البلاد الاسلامية من الغزو الخارجي سواء أكان الغزو عسكريا أم فكريا كما في هذه العصور التي غزت بلادنا بعض المبادئ الهدامة التي تدعو الى تحطيم الاسس التي أقامها الاسلام.
4 ـ اقامة الحدود، والقضاء على كافة الجرائم التي توجب شقاء الانسان.
5 ـ تحصين الثغور
6 ـ الجهاد
7 ـ جباية الاموال كالزكاة والخراج وغيرها من الامور التي نص عليها التشريع الاسلامي.
8 ـ استخدام الامناء في جهاز الحكم، وعدم استعمال الموظف محاباة او اثرة.
9 ـ النظارة على امور الرعية بالذات، ولا يجوز له أن يعول على الغير لينظر فيها لأن ذلك من حقوق الرعية (1)
10 ـ القضاء على البطالة، ونشر الرفاهية الشاملة في ربوع الامة، وانقاذها من الفقر والحرمان.
هذه بعض الامور التي يجب على الامام أن يطبقها على مسرح الحياة العامة، وقد استوفينا البحث في هذه الجهات في كتابنا «النظام الاداري في الاسلام».
د ـ اوصافه
ولا بد في الامام ان تتوفر فيه الشروط الآتية وهي:
1 ـ العدالة على شروطها الجامعة وهي الامتناع من ارتكاب كبائر الذنوب والاصرار على صغائرها
2 ـ العلم بما تحتاج إليه الامة في جميع مجالاتها، ومعرفة النوازل والاحكام
3 ـ سلامة الحواس، كالسمع، والبصر، واللسان، ليصح معها مباشرة ما يدرك كما يشترط سلامة الاعضاء الاخرى من أي نقص.
4 ـ الرأي المفضي الى سياسة الرعية وتدبير المصالح العامة.
5 ـ الشجاعة والنجدة، والقدرة على حماية بيضة الاسلام وجهاد العدو
6 ـ النسب وهو ان يكون الامام من قريش وقد ذكر هذه الشروط والاوصاف كل من الماوردي وابن خلدون (2)
7 ـ العصمة، وعرفها المتكلمون: بأنها لطف من الله يفيضها على اكمل عباده وبها يمتنع من ارتكاب الجرائم والموبقات عمدا وسهوا، وقد أجمعت الشيعة على اعتبارها في الامام، ويدل عليها حديث الثقلين، فقد قرن الرسول (صلى الله عليه وآله) بين الكتاب والعترة وكما ان الكتاب معصوم من الخطأ والزلل فكذلك العترة الطاهرة وإلا لما صحت المقارنة والمساواة بينهما وقد تقدم الكلام في بيان ذلك.
وهذه الاوصاف لم تتوفر إلا في أئمة أهل البيت حضنة الاسلام وحماته، والادلاء على مرضاة الله وطاعته، وقد وصفهم الكميت شاعر العقيدة الاسلامية بقوله:
القريبين من ندى والبعيدين
من الجور في عرى الاحكام
والمصيبين ما أخطأ النا
س ومرسي قواعد الاسلام
والحماة الكفاة في الحرب إن لف
ضرام وقوده بضرام
والغيوث الذين ان أمحل النا
س فمأوى حواضن الايتام
راجحي الوزن كاملي العدل في ال
سيرة طبين بالامور الجسام
ساسة لا كمن يرى رعية النا
س سواء ورعية الاغنام (3)
إن أئمة أهل البيت سلام الله عليهم قد دللوا بسيرتهم وهديهم على عصمتهم من الخطأ والزيغ، وقد برهنت الحوادث والوقائع على ذلك، ودلت على أنهم نسخة لا مثيل لها في تأريخ الانسانية وذلك لما لهم من عظيم الفضل والتقوى والحراجة في الدين.
ه ـ تعيينه
وذهبت الشيعة الى أن تعيين الامام ليس بيد الامة، ولا بيد أهل الحل والعقد منها، والانتخاب في الامامة باطل والاختيار فيها مستحيل، فحالها كحال النبوة فكما أنها لا تكون بإيجاد الانسان وتكوينه كذلك الامامة لأن العصمة ـ التي هي شرط في الامامة ـ لا يعرفها الله المطلع على خفايا النفوس، وقد اوضح ذلك واستدل عليه حجة آل محمد ومهدي هذه الأمة القائم المنتظر (عليه السلام) في حديثه مع سعد بن عبد الله فقد سأل الامام عن العلة التي تمنع الناس من اختيار امام لأنفسهم فقال (عليه السلام) له:
ـ يختارون مصلحا او مفسدا؟
ـ بل مصلحا
ـ فهل يجوز ان تقع خيرتهم على المفسد بعد ان لا يعلم أحد بما يخطر ببال غيره من صلاح او فساد
ـ بلى
ـ فهي العلة أوردها لك ببرهان يثق به عقلك، اخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله، وانزل الكتب عليهم، وأيدهم بالوحي والعصمة، إذ هم أعلام الامم، وأهدى الى الاختيار، منهم مثل موسى وعيسى، هل يجوز مع وفور عقلهما، وكمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق وهما يظنان أنه مؤمن
ـ لا
ـ هذا موسى كليم الله مع وفور عقله، وكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن لا يشك في ايمانهم واخلاصهم، فوقعت خيرته على المنافقين، قال الله عز وجل: (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) الى قوله (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) بظلمهم.» فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله للنبوة واقعا على الافسد دون الاصلح وهو يظن أنه الاصلح علمنا ان الاختيار ليس إلا لمن يعلم ما تخفي الصدور، وتكن الضمائر..» (4)
إن الطاقات البشرية قاصرة عن ادراك الاصلح الذي تسعد به الامة فليس اختياره بيد الانسان وإنما هو بيد الله العالم بخفايا الامور، هذه صورة مجملة عن الامامة وتفصيل الكلام يجده المتتبع مستوفي في كتب الكلام.
اخلاقه الرفيعة
قال بعض علماء الاجتماع: إنما تتفاضل الامم في حال البداوة بالقوة البدنية فاذا ارتقت تفاضلت بالعلم، ثم اذا بلغت من الارتقاء غايته تفاضلت بالاخلاق. فالاخلاق هي غاية ما يصل إليه الانسان في سموه وكماله وتهذيبه
إن الخلق الكامل اذا انطبع في النفس لا يمكن ان تنحرف عن الطريق القويم، أو تحل الانانية محل الايثار، او تستولي عليها المغريات والنقائص من اجل ذلك كانت الاخلاق من أهم العناصر التي تبتني عليها الحياة الاجتماعية والفردية، كما انها من اوثق الاسباب في بقاء الامم وفي دوام حضارتها واصالتها.
إن من أقوى العلل في ظهور الشرائع السماوية، وبقاء سلطانها الروحي عنايتها بالخلاق واهتمامها بتهذيب النفوس وتربيتها بالنزعات الخيرة، وقد اهتم النبي بها اهتماما بالغا واعتبرها من ابرز الاسباب التي بعث من اجلها يقول (صلى الله عليه وآله) «إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق» وقد استطاع بمكارم اخلاقه أن يوقظ البشر من سباته، ويؤسس معالم الحضارة في العالم ويغير مجرى التأريخ فقد الف ما بين القلوب، ووحّد المشاعر والعواطف وجمع الناس على صعيد المحبة والاخاء.
كان النبي في عظيم أخلاقه مثالا للرحمة الإلهية التي تملأ القلوب البائسة الحزينة رجاء ورحمة، كان يزور ضعفاء المسلمين، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويجيب دعوة من دعاه، ولا يرد دعوة مملوك ولا فقير (5) ومن جالسه صابره حتى يكون جليسه هو المنصرف، وما أخذ أحد بيده فجذبها منه حتى يكون الآخذ هو الذي يرسلها، وكان حريصا على تطييب النفوس واجتناب الإساءة لأي انسان.
وهذه الاخلاق الرفيعة قد تمثلت في الامام الحسن بحكم ميراثه من جده العظيم، وقد ذكر التأريخ بوادر كثيرة من مكارم اخلاقه نسوق بعضها وهي:
1 ـ انه اجتاز على جماعة من الفقراء قد وضعوا على وجه الارض كسيرات من الخبز كانوا قد التقطوها من الطريق، وهم يأكلون منها فدعوه الى مشاركتهم فأجابهم الى ذلك وهو يقول: «إن الله لا يحب المتكبرين» ولما فرغ من تناول الطعام دعاهم الى ضيافته فأطعمهم وكساهم (6) واغدق عليهم بنعمه واحسانه.
إن التواضع دليل على كمال النفس وسموها وشرفها، وفي الحديث «إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرحمكم الله» (7)
2 ـ ومن آيات أخلاقه أنه مرّ على صبيان يتناولون الطعام فدعوه لمشاركتهم فأجابهم الى ذلك ثم حملهم الى منزله فمنحهم ببره ومعروفه وقال: «اليد لهم لأنهم لم يجدوا غير ما اطعموني ونحن نجد مما اعطيناهم» (8)
3 ـ ومن مكارم اخلاقه أنه كان يغضي عمن اساء إليه، ويقابله بالاحسان، فقد كانت عنده شاة فوجدها يوما قد كسرت رجلها فقال (عليه السلام) لغلامه:
ـ من فعل هذا بها؟
ـ أنا
ـ لم ذلك؟!
ـ لأجلب لك الهم والغم
فتبسم (عليه السلام)، وقال له: لأسرك، فاعتقه وأجزل له في العطاء (9)
4 ـ ومن عظيم أخلاقه أنه كان جالسا في مكان فأراد الانصراف منه فجاءه فقير فرحب به ولاطفه وقال له:
ـ إنك جلست على حين قيام منا أفتأذن لي بالانصراف؟؟
ـ نعم يا ابن رسول الله (10)
إن مراعاة حق الجليس من الآداب الاجتماعية التي توجب المحبة والإلفة، وتوجد التعاون والترابط بين الناس فلذا أمر الإسلام بها وحث عليها.
5 ـ واجتاز على الامام شخص من أهل الشام ممن غذاهم معاوية بالكراهية والحقد على آل البيت فجعل يكيل للإمام السب والشتم، والامام ساكت لم يرد عليه شيئا من مقالته، وبعد فراغه التفت الامام فخاطبه بناعم القول وقابله ببسمات فياضة بالبشر قائلا:
«أيها الشيخ: أظنك غريبا؟ لو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعا أطعمناك، وإن كنت محتاجا أغنيناك، وإن كنت طريدا أويناك..» وما زال (ع) يلاطف الشامي بهذا ومثله ليقلع روح العداء والشر من نفسه حتى ذهل ولم يطق رد الكلام وبقي حائرا خجلا كيف يعتذر للامام، وكيف يمحو الذنب عنه؟ وطفق يقول:
(اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فيمن يشاء.» (11)
وهكذا كان (عليه السلام) مثالا للانسانية الكريمة، ورمزا للخلق العظيم لا يثيره الغضب، ولا يزعجه المكروه قد وضع نصب عينيه قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.) وقد قابل جميع ما لاقاه من سوء وأذى ومكروه من الحاقدين عليه بالصبر والصفح الجميل، حتى اعترف الد خصومه مروان بن الحكم بسمو حلمه، وعظيم خلقه، وذلك حينما انتقل الامام إلى الرفيق الأعلى فبادر مروان إلى حمل جثمانه فقال له سيد الشهداء:
ـ تحمل اليوم سريره، وقد كنت بالأمس تجرعه الغيظ؟!!
ـ إني كنت افعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال (12)
لقد كان الامام كجده الرسول في سعة حلمه، وعظيم أخلاقه، وصفحه عمن أساء إليه، وقد روى التأريخ بوادر كثيرة من أخلاقه دلت على أنه في طليعة الأخلاقيين والمساهمين في بناء الأخلاق والآداب في دنيا العرب والمسلمين.
كرمه وسخاؤه:
من كان ندى الكف مبسوط اليدين بالعطاء متمسكا بأهداب السخاء بعيدا عن البخل وضروبه فاعظم به من خير عميم، كبير الثقة بالله، عظيم النفس، شريف الذات، وقد تحدث رسول الله (ص) عن شرف هذه الظاهرة فقال: «خلقان يحبهما الله وهما: حسن الخلق والسخاء» وقال: «السخاء من الايمان».
إن السخاء ينم عن طيب القلب، ويكشف عن الفضائل النفسية، ويحكى عن رحمة الانسان ورأفته، ومن الطبيعي انه انما يكون كذلك فيما اذا كان بذله بداعي الخير والمعروف لا بداعي السمعة والمديح والثناء وغير ذلك من الدواعي التي لا تمت إلى الاحسان بصلة، وقد حدث التأريخ عن أناس كانوا يهبون الألوف للوافدين، ويبذلون القرى للأضياف، ولكن سرعان ما انكشف أنه تصنع لا اتصال له بحقيقة الكرم والمعروف، وذلك كعطاء معاوية بن أبي سفيان وهباته للوافدين عليه فان ذلك لم يكن بداعي الاحسان وإنما كان لشراء الضمائر لأجل التمسك بزمام الحكم.
إن السخاء الحقيقي هو بذل الخير بداعي الخير، وبذل الاحسان بداعي الاحسان، وقد تجلت هذه الصفة الرفيعة بأجلى مظاهرها، واسمى معانيها في الامام أبي محمد (ع) حتى لقب بكريم أهل البيت.
تلقى هذه المكرمة من سلفه الطاهر الذي عرف بالسخاء والمعروف ونجدة الضعيف والاحسان إلى كل منقطع ومحروم وفي جده الاعلى يقول القائل:
عمرو العلى هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
وزاد الحسن على سلفه الطاهر في ذلك فقد كان لا يعرف للمال قيمة، ولا يرى له أهمية سوى ما يرد به جوع جائع، أو يكسو به عاريا، أو يغيث به ملهوفا، أو يفي به دين غارم.
ان السخاء عنصر من عناصر ذاته، ومقوم من مقومات مزاجه، وقد أثر عنه أنه ما قال لسائل لا قط (13) وقيل له لأي شيء لا نراك ترد سائلا؟ فأجاب:
«إني لله سائل، وفيه راغب، وأنا استحي أن أكون سائلا، وأرد سائلا، وان الله عودني عادة أن يفيض نعمه علي، وعودته أن أفيض نعمه على الناس فأخشى ان قطعت العادة أن يمنعني العادة وأنشأ يقول:
إذا ما أتاني سائل قلت مرحبا
بمن فضله فرض علي معجل
ومن فضله فضل على كل فاضل
وأفضل أيام الفتى حين يسأل (14)
ونسبت له أبيات نظمها في الجود والسخاء منها قوله:
إن السخاء على العباد فريضة
لله يقرأ في كتاب محكم
وعد العباد الأسخياء جنانه
وأعد للبخلاء نار جهنم
من كان لا تندى يداه بنائل
للراغبين فليس ذاك بمسلم
وله أيضا:
خلقت الخلائق من قدرة
فمنهم سخي ومنهم بخيل
فأما السخي ففي راحة
وأما البخيل فحزن طويل (15)
وكانت الوفود من المرتزقة والمحتاجين تزدحم عليه فيغدق عليهم ببره واحسانه، ويجزل لهم المزيد من العطاء، وقد ذكر التأريخ بوادر كثيرة من كرمه وجوده نسوق إلى القراء بعضها.
1 ـ جاءه اعرابي سائلا فقال (ع): اعطوه ما في الخزانة، وكان فيها عشرة آلاف درهم فقال له الاعرابي: يا سيدي هلا تركتني أبوح بحاجتي، وأنشر مدحتي؟ فاجابه الامام:
نحن أناس نوالنا خضل
يرتع فيه الرجاء والأمل
تجود قبل السؤال أنفسنا
خوفا على ماء وجه من يسل
لو علم البحر فضل نائلنا
لغاض من بعد فيضه خجل (16)
2 ـ واجتاز (عليه السلام) على غلام أسود بين يديه رغيف يأكل منه لقمة ويدفع لكلب كان عنده لقمة اخرى.
فقال له الامام:
ـ ما حملك على ذلك؟
ـ إني لأستحيي أن أكل ولا أطعمه.
رأى الامام فيه خصلة من أحب الخصال عنده، فاحب أن يجازيه على صنعه، ويقابل إحسانه بإحسان فقال له:
لا تبرح من مكانك، ثم انطلق فاشتراه من مولاه واشترى الحائط (17) الذي هو فيه فاعتقه، وملكه إياه (18).
3 ـ وأجتاز يوما في بعض أزقة المدينة فسمع رجلا يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانطلق إلى بيته، وأرسلها إليه بالوقت (19).
4 ـ وجاءه شخص يظهر الاعواز والحاجة فقال له (ع) ما هذا حق سؤالك، يعظم لدى معرفتي بما يجب لك، ويكبر على ويديّ تعجز عن نيلك بما أنت اهله، والكثير في ذات الله قليل، وما في ملكي وفاء لشكرك، فان قبلت منا الميسور، ورفعت عنا مئونة الاحتفال والاهتمام فعلت، فأجابه الرجل: يا بن رسول الله (ص) أقبل القليل واشكر العطية، واعذر على المنع، فاحضر (ع) وكيله وحاسبه وقال له: هات الفاضل، وكان الفاضل خمسين الف درهم فدفعها إليه ولم يكتف (ع) بذلك بل قال لوكيله ما فعلت بالخمس مائة دينار التي عندك؟ فقال له: هي عندي، فأمره بإحضارها ثم دفعها إلى الرجل وهو يعتذر منه (20)
إن قوله (ع) (الكثير في ذات الله قليل) ينم عن أن هذا العطاء إنما هو في سبيل الله تعالى لا يبتغي من احد جزاء أو شكورا.
5 ـ ومن مكارمه (ع) انه خرج هو وأخوه الحسين (ع) وابن عمهما عبد الله بن جعفر (21) وافدين إلى بيت الله الحرام، وفي أثناء الطريق أصابهم جوع وعطش وقد سبقتهم اثقالهم، فانعطفوا على بيت قد ضرب أطنابه في وسط تلك البيداء القاحلة، فلما وصلوا إلى البيت لم يروا فيه إلا عجوزا فطلبوا منها شرابا وطعاما، فأجابت بما طبعت عليه نفس الكريم قائلة:
نعم. إنها النفس إذا جبلت على الخير وطبعت فيها الأريحية قدمت في سبيل العز والمجد كل ما تملك، لم يك عند العجوز سوى شاة هي كل ما تملك مما أظلته الخضراء وأقلته الغبراء، فتقدمت وبيدها الشاة قائلة لهم:
دونكم هذه الشاة فاحلبوها واشربوا لبنها، فلما فعلوا ذلك تقدمت إليهم مرة أخرى قائلة:
أقسم عليكم إلا ما ذبحها أحدكم حتى أهيّئ لكم الحطب لشيها، ففعلوا ذلك وهيأت العجوز الحطب، وبعد الفراغ من تناول الطعام عزموا على الرحيل فتقدموا إليها وعرفوها بشخصياتهم ليجازوها على صنعها خيرا إن رجعوا إلى وطنهم، قائلين:
«يا أمة الله إنا نفر من قريش نريد حج بيت الله الحرام، فاذا رجعنا سالمين فهلمي إلينا لنكافئك على هذا الصنع الجميل».
ثم انصرفوا لشأنهم، ولما عنّ غياب القرص عن السماء أقبل رب البيت على عادته فأخبرته العجوز بالقصة، فاستولى عليه الغضب، ذلك لأن الشاة هي مصدر القوت وإدرار الرزق عليهم، فقال لها: ويحك أتذبحين الشاة لأناس لا تعرفينهم؟ ثم تقولين إنهم نفر من قريش.
وطوى الدهر عجلته فمضت سنة وأقبلت أخرى فاعترت البادية أزمة شديدة لأن السماء قد منعتها قطرها حتى قلت موارد العيش وانعدمت أسباب القوت، فرحلا عن البادية ونزلا المدينة، ولم يجدا عملا يحيطان به خبرا سوى التقاط البعر من الطرقات والشوارع، فاتخذا ذلك مهنة لهما، وفي يوم من الأيام وهما على عملهما ارادت السعادة أن تحنو عليهما فلمح الحسن (ع) العجوز فعرفها، وقد حل وفاء الدين، والمعروف في ذمة الأحرار دين فأمر (ع) غلامه أن يأتي بها إليه، فلما مثلت بين يديه
قال (ع) لها:
أتعرفيني يا أمة الله؟
ـ لا..
ـ أنا أحد ضيوفك يوم كذا سنة كذا.
ـ لست أعرفك.
ـ إن لم تعرفيني فانا أعرفك، ثم أمر (ع) غلامه فاشترى لها من غنم الصدقة الف شاة وأعطاها الف دينار، ثم أمر (ع) غلامه أن يذهب بها إلى أخيه الحسين (ع) ويعرفه بها، فأخذها الغلام فلما دخلت عرفها الحسين (ع)، فقال للغلام: كم اعطاها أخي؟ فأخبره الغلام بعطائه، فأوصلها (ع) بمثل ذلك، ثم بعث الحسين بها إلى عبد الله بن جعفر، فلما دخلت عليه عرفها، فأمر لها بألفي شاة والفي دينار فأخذت ذلك جميعا وانصرفت (22) وفد تغير حالها من فقر مدقع إلى غناء وثروة حسدها عليه كل من عرفها كل ذلك من بر الحسن وفضله،.
6 ـ ومن آيات مكارمه (ع) أنه اشترى حائطا من الأنصار بأربعمائة الف فبلغه أنهم قد احتاجوا إلى ما في أيدي الناس فرده إليهم (23) إن إنقاذ هؤلاء من ذل السؤال ورد شرفهم إليهم من أفضل أنواع السخاء ومن أسمى مراتب الجود.
7 ـ ومن مكارمه (ع) أن جارية حيته بطاقة من ريحان، فقال (عليه السلام) لها: أنت حرة لوجه الله، فلامه أنس على ذلك، فأجابه (عليه السلام): أدبنا الله فقال تعالى: (إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) وكان أحسن منها إعتاقها (24).
8 ـ ومن مكارمه (ع) أن مروان بن الحكم قال: إني لمشغوف ببغلة الحسن بن علي فمن يأتيني بها؟ فأنبرى إليه ابن أبي عتيق قائلا:
ـ أنا آتيك بها لكن بشرط أن تقضي لي ثلاثين حاجة؟
ـ التزم لك بذلك.
فقال ابن أبي عتيق لمروان: إذا اجتمع الناس عندك العشية فاني آخذ في مآثر قريش وأمسك عن الحسن فلمني على ذلك، فلما اجتمع الناس أخذ ابن أبي عتيق في مآثر قريش وسكت عن ذكر فضائل الامام الحسن (ع)، فقال له مروان ألا تذكر أولية أبي محمد، وله في هذا ما ليس لأحد منا، فقال ابن أبي عتيق: إنما كنا في ذكر الاشراف ولو كنا في ذكر الأنبياء لذكرنا فضائل أبي محمد، ولما خرج الامام (ع) تبعه ابن ابي عتيق فلما نظر إليه الحسن (ع) تبسم وعرف الغاية من مديحه فقال (ع) له: ألك حاجة؟ فقال: نعم ذكرت البغلة، فنزل (ع) عنها ودفعها إليه (25).
9 ـ ومن جوده (ع) أن رجلا سأله أن يعطيه شيئا فقال له (ع) إن المسألة لا تصلح إلا في غرم فادح (26) أو فقر مدقع أو حمالة مفظعة (27) فقال ما جئت إلا في إحداهن، فأمر (ع) له بمائة دينار، ثم انعطف الرجل نحو الحسين (ع) فسأله مثل سؤال اخيه فأعطاه مائة دينار سوى دينار لأنه كره أن يساوى أخاه في عطائه وانعطف الرجل بعد ذلك إلى عبد الله بن عمر فسأله فأعطاه سبعة دنانير، فقال الرجل: لعبد الله إني أتيت الحسن والحسين وحكى له ما جرى له معهما فقال ابن عمر: ويحك أنى تجعلني مثلهما؟! انهما غرا العلم (28). غرا المال (29).
10 ـ ومن مكارمه (ع) أنه ما اشترى من أحد حائطا ثم أفتقر البائع إلا ورده عليه وأردفه بالثمن معه (30).
11 ـ وجاءه فقير يشكو حاله ولم يك عنده (ع) في ذلك اليوم شيء فعز عليه الامر واستحى من رده فقال (ع) له: إني أدلك على شيء يحصل لك منه الخير، فقال الفقير يا بن رسول الله ما هو؟! قال (عليه السلام) اذهب إلى الخليفة فان ابنته قد توفيت وانقطع عليها وما سمع من أحد تعزية بليغة فعزه بهذه الكلمات يحصل لك منه الخير، قال يا بن رسول الله حفظني إياها، قال (ع) قل له الحمد لله الذي سترها بجلوسك على قبرها ولم يهتكها بجلوسها على قبرك، وحفظ الفقير هذه الكلمات وجاء إلى الخليفة فعزاه بها، فذهب عنه حزنه وأمر له بجائزة وقال له:
أكلامك هذا؟
ـ لا: وإنما هو كلام الامام الحسن.
الخليفة: صدقت فانه معدن الكلام الفصيح وأمر له بجائزة أخرى (31).
وذكر المترجمون للإمام صورا كثيرة من ألوان بره ومعروفه على الفقراء وقيامه بانقاذهم من كابوس الحاجة والفقر الى الدعة والسعة في العيش، وجميع تلك المبرات التي أسداها عليهم كانت خالصة لوجه الله، ولم تكن مشفوعة بأي غرض من الاغراض فإنه كان يمنحهم العطاء والبر قبل أن يبوحوا بحاجاتهم، ويذكروا مديحهم وثناءهم لئلا يظهر عليهم ذل السؤال والاحتياج.
عبادته وتقواه
ان الانسان كلما ازداد معرفة بالله ازداد إيمانا به، وحبا له، وانقيادا لأوامره وطاعته، وسعيا في جميع الوسائل التي تقربه إليه.
والامام الحسن قد تغذى بلباب المعرفة، وبجوهر الايمان، وبواقع الدين وانطبعت مثله في دخائل نفسه واعماق ذاته، فكان من اشد الناس إيمانا، ومن اكثرهم اخلاصا وطاعة لله، وقد حدث الرواة عن مدى طاعته فقالوا: إنه لم ير في وقت من الاوقات إلا وهو يلهج بذكر الله، (32) وانه اذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم (33) فسأل الله الجنة وتعوذ من النار، واذا ذكر الموت وما يعقبه من البعث والنشور بكى بكاء الخائفين والمنيبين (34) واذا ذكر العرض على الله شهق شهقة يغشى عليه منها (35)، وكان من اشد المعتبرين بالموت فاذا حضر جنازة ظهرت عليه السكينة أياما، واذا مات في جواره ميت سمع منه النحيب والبكاء كما يسمع من دار الميت (36) ودلت هذه الامور على عظيم طاعته وخوفه من الله، ونسوق الى القراء بعض مظاهر عبادته:
1 ـ وضوؤه وصلاته
كان الامام اذا اراد الوضوء تغير حاله، وداخله خوف عميق حتى يصفر لونه وترتعد فرائصه، وسئل عن سر ذلك فقال:
«حق على من وقف بين يدي رب العرش أن ترتعد فرائصه، ويصفر لونه..»
واذا فرغ من الوضوء وأراد الدخول الى المسجد رفع صوته قائلا:
«إلهي: ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم» (37)
واذا اقبل على صلاته بدا عليه الخضوع والخشوع، وظهر عليه الخوف حتى ترتعد جميع فرائصه واعضائه (38) واذا فرغ من صلاة الفجر لا يتكلم الا بذكر الله حتى تطلع الشمس (39)
2 ـ حجه
ومن مظاهر عبادته وعظيم اخلاصه وطاعته لله تعالى انه حج بيت الله الحرام خمسا وعشرين حجة ماشيا على قدميه وكانت النجائب (40)، تقاد بين يديه (41) وسئل عن كثرة حجه ماشيا فأجاب: «اني استحي من ربي أن لا امضي الى بيته ماشيا على قدمي (42)
3 ـ تلاوته للقرآن
كان الامام يتلو الذكر الحكيم تلاوة امعان وتدبر فلا يمر بآية تشتمل على نداء المؤمنين إلا قال: لبيك. اللهم لبيك (43) وكان يقرأ في كل ليلة سورة الكهف (44)
4 ـ التصدق بأمواله
وقدم الامام في سبيل مرضاة الله كل غال ونفيس، فقد خرج عن جميع ما يملك مرتين، وشاطر الله أمواله ثلاث مرات حتى أعطى نعلا وامسك اخرى (45)
زهده
ورفض الامام جميع مباهج الحياة، وزهد في ملاذها ونعيمها، واتجه الى الدار الآخرة التي أعدها الله للمتقين من عباده، وقد تحدث (عليه السلام) عن عزوفه عن الدنيا، واقتناعه بالقليل منها يقول:
لكسرة من خسيس الخبز تشبعني
وشربة من قراح الماء تكفيني
وطرة من دقيق الثوب (46) تسترني
حيا وان مت تكفيني لتكفيني (47)
ورسم على خاتمه بيتين من الشعر يلمس فيهما مدى زهده وهما:
قدم لنفسك ما استطعت من التقى
إن المنية نازل بك يا فتى
أصبحت ذا فرح كأنك لا ترى
أحباب قلبك في المقابر والبلى (48)
وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت
يا اهل لذات دنيا لا بقاء لها
ان اغترارا بظل زائل حمق (49)
ومما ينسب له في ذم المغرور في الدنيا والمفتون بحبها قوله:
قل للمقيم بغير دار اقامة
حان الرحيل فودع الاحبابا
ان الذين لقيتهم وصحبتهم
صاروا جميعا في القبور ترابا (50)
ومن مظاهر زهده ما حدث به مدرك بن زياد (51) قال: كنا في حيطان ابن عباس فجاء الحسن والحسين، وابنا العباس فطافوا في تلك البساتين ثم جلسوا على ضفاف بعض السواقي، فقال الحسن: يا مدرك: هل عندك غذاء؟ فقلت له: نعم ثم انطلقت فجئته بخبز وشيء من الملح مع طاقتين من بقل فأكل منه، وقال يا مدرك ما أطيب هذا؟
وجيء بعد ذلك بالطعام وكان في منتهى الحسن والجودة فالتفت (عليه السلام) الى مدرك وأمره بأن يجمع الغلمان ويقدم لهم الطعام، فدعاهم مدرك فأكلوا منه ولم يأكل الامام منه شيئا فقال له مدرك: لما ذا لا تأكل منه؟ فقال (عليه السلام): ان ذاك الطعام أحب عندي (52) لأنه طعام الفقراء والمحرومين، ومما يدل على عظيم زهده أنه زهد في الملك طلبا لمرضاة الله، وخوفا على دماء المسلمين، وقد الف في زهده محمد ابن بابويه القمي (53) كتابا اسماه زهد الحسن وأجمع المترجمون له انه كان أزهد الناس وأفضلهم بعد جده وأبيه.
هيبته ووقاره
إن شخصية الامام كانت تملأ العيون وتهيمن على النفوس لأنه قد التقت بها عناصر النبوة والامامة، وتمثلت فيها هيبة النبيّ، وقد حدث واصل بن عطاء (54) قال:
«كانت على الحسن سيماء الأنبياء وبهاء الملوك» (55)
وقال ابن الزبير:
«والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي في هيبته وسمو منزلته» (56)
وبلغ من عظيم هيبته انه كان يفرش له على باب البيت فاذا خرج وجلس انقطع الطريق لأنه لا يمر أحد إلا جلس اجلالا واكبارا له، فاذا علم ذلك قام ودخل البيت (57)
ومن عظيم هيبته وسمو مكانته في نفوس المسلمين أنه ما أجتاز مع أخيه على ركب في حال سفرهما إلى بيت الله الحرام ماشيين إلا ترجل ذلك الركب تعظيما واكبارا لهما حتى ثقل المشي على جماهير الحجاج فكلموا سعد بن أبي وقاص في ذلك فبادر إلى الامام وقال له:
«يا أبا محمد، إن المشي قد ثقل على الحجاج لأنهم إذا رأوا كما لم تطب نفوسهم بالركوب، فلو ركبتما رحمة لهم..»
فأجابه الامام بما ينم عن نفس قد عاهدت الله أن تبذل في مرضاته كل غال ونفيس قائلا:
«لا نركب فقد عاهدنا الله أن نؤم بيته ماشيين، ولكن نتنكب الطريق..» (58)
وسار (عليه السلام) في بعض طرق يثرب وقد لبس حلة فاخرة، وركب بغلة فارهة، ووجهه الشريف يشرق حسنا وجمالا، وقد حفت به خدمه، وحاشيته فرآه بعض اغبياء اليهود فبادر إليه وقال له:
يا بن رسول الله عندي سؤال؟
ـ ما هو؟
ـ إن جدك رسول الله (ص) يقول: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فأنت المؤمن وأنا الكافر، وما الدنيا إلا جنة لك تتنعم فيها، وتستلذ بها وأنت مؤمن، وما أراها الا سجنا قد أهلكني حرها وأجهدني فقرها؟
ـ لو نظرت إلى ما أعد الله لي وللمؤمنين في الدار الآخرة مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر لعلمت أني قبل انتقالي إليها وأنا في هذه الحالة في سجن، ولو نظرت إلى ما أعد الله لك ولكل كافر في دار الآخرة من سعير نار جهنم، ونكال العذاب الأليم المقيم لرأيت قبل مصيرك إليه أنك في جنة واسعة ونعمة جامعة (59) وتركه الامام، واليهودي يتميز من الغيظ والحقد.
ورأى هيبة الامام ووقاره بعض الأغبياء من الحاقدين عليه فقال له إن فيك عظمة فأجابه الامام ان في عزة ثم تلا قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (60) ان الحسن كان يحكى جده الرسول (ص) في هيبته وسؤدده وكريم طباعه.