الجيش الاسلامي ينهزم في اختبار الإمام الحسن عليه السلام
محمد علي جواد تقي
2021-09-14 03:40
اقترن اسم الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، بقضية الهدنة مع معاوية وتنازله عن الحكم له، كما لو أن الإمام لم يكن لديه همّ سوى تعبئة أهل الكوفة ومواصلة ما توقف عنده أباه؛ أمير المؤمنين، ولإحراز النصر الكاسح على معاوية، المتمرد على الدولة الاسلامية في الشام، بيد أن الحقيقة غير هذا، لأن ببساطة؛ الامام الحسن، وقبله أمير المؤمنين، ورسول الله، صلى الله عليه وآله، كانوا قادة لأمة، قبل ان يقودوا الجيوش ويخوضوا الحروب.
الجيش الاسلامي الذي تعبأ لمواصلة الحرب ضد الفئة الباغية (معاوية واتباعه)، هو نفس الجيش الذي تجرّع منه أمير المؤمنين، الغصّة والمرارة قبل أيام قلائل، بيد أن مسار الاحداث يستدعي المواكبة والتصرف حسب المعطيات على الأرض، فأهل الكوفة وجدوا انفسهم أمام قائد سياسي جديد بعد استشهاد أمير المؤمنين، مع كونه إماماً مفترض الطاعة من الناحية الدينية، لذا أرسل، عليه السلام، قوة هائلة قوامها 12 ألف جندي من خيرة المقاتلين المسلمين –كما وصفهم، عليه السلام- بإمرة عبيد الله بن العباس، ليكونوا طليعة الجيش الاسلامي باتجاه الشام، على أن يلتحق هو بهم، وأوصاه بوصايا عدّة منها عدم البدء بالقتال مع جيش معاوية إلا بعد أن يكون هو البادئ، و وصايا تتعلق بإدارته لافراد الجيش وفق القيم والمبادئ الاسلامية.
وفي يوم غد، كان المتبقين من افراد الجيش الاسلامي على موعد مع اختبار غير مرتقب من قبل الامام الحسن، عليه السلام، عندما دعا الى الصلاة جامعة، فاجتمعوا، وصعد الامام المنبر وبدأ خطبته بـ "الحمد لله بكل ما حمده حامد، وأشهد ان لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد، وأشهد ان محمداً عبده و رسوله، أرسله بالحق وائتمنه على الوحي، أما بعد، فو الله إني لأرجو ان أكون قد اصبحت بحمد الله ومنه وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ولا مريداً له بسوء ولا غائلة، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا عليّ رأيي، غفر الله لي ولكم وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا".
جاء في الرواية التاريخية أن الناس نظر بعضهم الى بعض وقالوا: ما ترونه يريد بما قال؟!
قالوا: نظنه والله يريد أن يصالح معاوية ويسلّم الأمر اليه!
فقالوا: كفر والله الرجل!
ثم حصل ما لم يحصل لأي قائد عسكري في التاريخ وهو في موقف ايجابي من اصحابه وافراد جيشه، ولذا جاء توضيحه في خطبته حتى يلقي الحجّة على الجميع، فهو داعية للخير والودّ، وليس للشر، كما حصل مع قادة كُثر في التاريخ انتقم منهم المقربون وانقلبوا عليهم بسبب سياساتهم الفاشلة وحروبهم الكارثية المدمرة، فحصلت مشاهد دموية، والامثلة لا تُعد من الماضي القديم والحديث.
فكان نصيب الإمام الحسن من كل بوادر الخير والإحسان والمداراة، أن هجموا عليه، وانتهبوا مصلاه من تحته! ثم هجم عليه شخص في المدائن بمعول ضربه بها على فخذه وأصابه اصابة بليغة.
قوة السلاح أم قوة الوعي
ربما يكون جيش الامام الحسن، اكثر عدة وعدداً من جيش الشام بقيادة معاوية، لأن الامام الحسن، كان في نظر المسلمين آنذاك، هو الحاكم الشرعي والرسمي في آن، فهو القائد الأعلى للأمة، وهو الخليفة، بينما معاوية كان متحصناً بولاية الشام، بيد أنه، عليه السلام، لم يكن لينظر الى هذا المعيار بقدر رؤيته الى الكوامن والنفوس التي توفر الدافع والحافز للقتال والتضحية بهذه النفس العزيزة دون تردد، فكان يحتاج الى انتفاضة من نوع آخر يضرب بها أعماق النفوس ليستجلي خبرها فوجدها مشحونة بالضلال والغيّ، ولم ترتفع الى مستوى ايماني يؤهلها لأن تقاتل من اجل القيم والمبادئ، إذ لم تكن لهاتين أية مكانة في نفوس وقلوب معظم افراد هذا الجيش، فلم تكن القلوب ولا السيوف مع الامام الحسن، عليه السلام.
مهمة الامام الحسن، عليه السلام، كما هي مهمة ودور أمير المؤمنين من قبله، ليست سياسية، بقدر ما هي رسالية على خطى رسول الله، صلى الله عليه وآله، هدفها بناء الإنسان، وشعارها؛ الوعي، والايمان، والولاء المطلق والصادق، وهذا لن يكون إلا باختبار عنيف على شكل "انتفاضة تهزّ المجتمع، وفائدة الانتفاضة استقطاب العناصر الخيّرة في المجتمع، وكشف سوءة الطرف الآخر (العدة)"، ثورة الامام الحسن، المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه-.
وهذا يدفعنا للتأكيد على أن الهدنة مع معاوية هي افراز طبيعي لسوء كوامن جيش الامام الحسن، ولا علاقة لها بالامام الحسن، لا من قريب ولا من بعيد، إنما هو، عليه السلام، أدار المفاوضات لإنهاء القتال وفق المعطيات على الارض، وإلا فانه محاربٌ مقاتل مع كل استعداده المادي والمعنوي، فكانت الهزيمة والفشل في صفوف جيشه، لاسيما القادة البارزين في هذا الجيش ممن خذلوه وخانوا الأمانة مفضلين حفنة من الدراهم والدنانير على طاعة ابن بنت رسول الله.
مع ذلك؛ صنع الامام الحسن من هذه الهدنة "أعظم صلح في التاريخ، كما صنع أخاه الحسين من بعده؛ أعظم ثورة في التاريخ"، كما عبر عن ذلك أحد علماء الدين، فهو في الوقت الذي عاقب فيه افراد جيشه على تقاعسهم وتخاذلهم، كشف للأجيال القادمة وللتاريخ سوءات عدوه، وحقيقة منهجهم في الحكم، فهو، عليه السلام، ورّط معاوية بوثيقة وقّع عليها دون القدرة على الالتزام بها، فانكشف للمسلمين ما كان يخفيه ويظهره من أنه الحاكم الأجدر لهم، وأنه بقوة السيف والمال يجمع شمل الأمة، وهذا يتعارض ويتقاطع تماماً مع ما عرفوه من مبادئ الحكم في الاسلام بأنها قائمة على احترام الحقوق و صون الحرمات، والعدل والمساواة، وتحكيم شرع الله، والالتزام بالقيم الاخلاقية والدينية.
هذه الانتفاضة الصامتة التي فجرها الامام الحسن في نفوس المسلمين، هي التي مهّدت لانتفاضة أخيه الامام الحسين، التي فجرها في وجه النظام الأموي برمته، عندما بلغ الوعي درجات عالية في الأمة جعلت من واقعة كربلاء منطلقاً للثورات، ومدرسة للاجيال على مر التاريخ لمن يريد إصلاح النظام الاجتماعي والسياسي، واجتثاث الفساد والانحراف في الامة.