الامام الحسن (ع): سيرة معطرة بعبق النبوة
شبكة النبأ
2021-09-13 07:18
بقلم: الشيخ باقر شريف القرشي-مقتبس من كتاب حياة الإمام الحسن بن علي (ع) دراسة وتحليل
ـ 1 ـ
للإمام أبي محمد الحسن (ع) تأريخ مشرق، حافل بأروع صفحات البطولة والجهاد، وسيرة ندية تنبض بالعدل والتقوى، وتتدفق بالقابليات الفذة، والنزعات الخيرة، وتلتقي بها سجاحة الخلق، واصالة الرأي، وعمق التفكير، وقد اجمع المترجمون له أنه من احلم الناس، واقدرهم على كظم الغيظ، والصبر على الأذى والمكروه، فما عرف من سيرته أنه قابل مسيئا بإساءته، ولا جازى مذنبا بذنبه، وإنما كان يغدق عليهم بالإحسان ويقابلهم بالمعروف، شأنه شأن جده الرسول (ص) الذي وسع الناس بأخلاقه وحلمه.
وحسبها شهادة تدل على عظيم حلمه ادلى بها الد خصومه، واحقد اعدائه مروان بن الحكم حينما بادر إلى حمل جثمانه الطاهر، فاستغرب منه سيد الشهداء وقال له: « اتحمل جثمانه، وكنت تجرعه الغصص؟! »
فقال مروان: « كنت افعل ذلك بمن كان يوازي حلمه الجبال » وكما كان من احلم الناس، فقد كان من ابرز رجال الفكر في سداد الرأي وصواب التفكير، وقد تجلى ذلك في صلحه مع معاوية، وتجنبه من فتح باب الحرب، فان البلاد كانت تضج بالحزبية، وباع زعماء القبائل وقادة الجيش ذممهم على معاوية، وانحازوا إلى معسكره لا إيمانا بقضيته، وانما طمعا بأمواله، واستجابة لرغباتهم النفسية التي تطمع بالنفوذ والسيطرة، والثراء العريض، مضافا إلى ذلك خبث جنوده، وشدة خلافهم، وايثارهم للسلم، وغير ذلك من العوامل التي سنذكرها بالتفصيل في غضون هذا الكتاب، فاستسلم (عليه السلام) للأمر الواقع، وصالح معاوية، وقد صان بذلك الأمة، وحفظ دماءها، وجنبها من المضاعفات السيئة التي لا يعلم مدى خطورتها الا الله، واجمع الرواة أنه كان أندى الناس كفا، واوصلهم لعباد الله، واعطفهم على الفقراء والمحرومين حتى لقب بكريم اهل البيت مع أنهم اصول الكرم ومعدن السخاء والمعروف وكانت تترى عليه وفود من الفقراء والمحتاجين فيفيض عليهم ببره، ومعروفه وينقذهم بوافر عطاياه من ذل السؤال والحاجة إلى السعة والبسط في العيش والاستغناء عما في أيدى الناس.
واتفقت كلمة المؤرخين أنه كان اعبد أهل زمانه، وأتقاهم واكثرهم عبادة، وخوفا من الله، وقد حج بيت الله الحرام خمسا وعشرين حجة وان النجائب تقاد بين يديه، وقد عمل جميع الوسائل التي يتقرب بها إلى الله، وتجرد عن لهو الحياة، ونبذ جميع زخارفها، وسنذكر ذلك بالتفصيل عند التحدث عن مثله، ومظاهر شخصيته العظيمة.
ان سيرة الامام (ع) في جميع صورها من اروع سير العظماء والمصلحين الذين تعتز بهم الامة في جميع مجالاتها، ويكفيها خلودا أنها شابهت سيرة النبي (ص) وحكت كريم طباعه وسجاياه.
ـ 2 ـ
ومشكلة تواجهنا في تأريخ الامام أبي محمد هي الاخبار الموضوعة التي ألصقت بتأريخه النير، فقد دسها في التأريخ الاسلامي بعض الرواة من اجراء السلطة الحاكمة فنسبوا له ما هو بعيد عنه، اتهموا الامام انه كان عثماني الهوى، وانه كان يندد بموقف أبيه يوم الدار، لأنه لم يقم بعمليات النجدة، ولم ينقذ عثمان، وينجيه من أيدى الثوار، كما أنه لم يكن من رأيه ـ كما رووا ـ أن يستجيب أبوه إلى رغبة الجماهير الذين هتفوا باسمه واصروا على ترشيحه لمنصب الخلافة، وان امير المؤمنين عصاه ـ على حد تعبيرهم ـ واستجاب لدعوة الثوار.
والصقوا بسيرته الوضاءة انه كان كثير الزواج، والطلاق، وقد بالغوا في ذلك إلى حد بعيد فرووا أنه كان في اكثر أيامه يعقد على امرأة ويطلق أخرى، والسبب في ذلك كله هو الحط من شأنه، والتقليل من أهميته وقد دون تلك الروايات المؤرخون، واستند إليها كتاب العصر وفي طليعتهم الدكتور طه حسين (1) فقد مال إليها، وارسلها إلى القراء ارسال المسلمات، ولم يتثبت في سندها ليتضح له أن رواتها قد وصموا بالوضع والانحراف عن أهل البيت، وقد فندنا القسم الكثير منها في بحوثنا ودللنا على مواضع الضعف الذي فيها سواء أكان من ناحية السند أو من غيره.
إن اهم شيء تستدعيه ضرورة البحث هي غربلة الاخبار، ومعرفة رواتها والتوثق منهم فمن كان صحيحا في نقله بعيدا عن الكذب غير متهم في دينه فيؤخذ بروايته، ويعول عليها في بناء التأريخ الاسلامي، ومن كان من الرواة منزلقا في احضان السلطة ويكتب لأغراضها، ويدون لتدعيم سلطانها وهو في نفس الوقت غير متحرج ولا متأثم من الكذب والوضع فان الواجب أن ترد روايته ولا يعتمد على نقله، والإسلام قد أمرنا بصراحة بالتثبت في اخبار المتهمين في دينهم، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (2) والآية صريحة الدلالة في وجوب التثبت في اخبار الفساق، واي أثم اعظم من ارتكاب الوضع وتعمد الكذب، وهي في عمومها شاملة للاخبار عن الموضوعات الخارجية، ومنها الاخبار عن الحوادث التأريخية وغيرها.
وعجيب ـ وان كان خارجا عن الصدد ـ أن تؤخذ بعين الرضا والقبول روايات شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسي (3) والجلاد سمرة بن جندب، ويعول عليها في بناء العقيدة الاسلامية مع أن في الكثير منها خروجا على سلطان العقل وحكمه، وخروجا على حكم الاسلام الذي ما آمن ـ والحمد لله ـ بالخرافات والاوهام.
ان تنقية الاخبار ضرورة ملحة لكل باحث سواء أكانت متصلة بشئون الدين أو في غيره ولزوم طرح ما رواه المنحرفون واجراء السلطة فيما انفردوا بروايته.
ـ 3 ـ
والشيء البارز في العصر الذي عاش فيه الامام الحسن (ع) انتشار الحزبية، وتفاعل تياراتها الهائلة، فقد صمم الحزب القرشى ـ الذي شكل قبل وفاة النبي (ص) ـ على صرف الخلافة الاسلامية عن أهل البيت (ع)
لأسباب أهمها التهالك على الامرة والسلطان، والحسد لعترة النبي (ص) على ما منحها الله من الفضائل والمواهب، وقد أثر عنهم « ان النبوة والخلافة لا يجتمعان في بيت واحد » وهو كلام لا يعضده الدليل في جميع مناحيه، وقد تعرض ابن عباس الى تزييفه بمنطقه الرصين فى محاورته مع عمر بن الخطاب، فقد قال له عمر « بعد حديث طويل دار بينهما »:
« يا ابن عباس، أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد (ص)؟ ». قال ابن عباس: فكرهت أن اجيبه، فقلت له: إن لم أكن ادرى فان امير المؤمنين يدرى:
فقال عمر: « كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتجحفوا على قومكم بجحا، بجحا، فاختارت قريش لا نفسها فأصابت، ووفقت. » وخاف ابن عباس من شدة عمر وغلظته أن يجابهه بتزييف كلامه فطلب منه الاذن ليصارحه بالواقع قائلا: « يا أمير المؤمنين، إن تأذن لي في الكلام، وتمط عني الغضب تكلمت.. ».
« تكلم يا ابن عباس ».
« أما قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو ان قريشا اختارت لأنفسها من حين اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، واما قولك: انهم ابوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فان الله عز وجل، وصف قوما بالكراهة، فقال: « ذلك بأنهم كرهوا ما انزل الله فأحبط اعمالهم ».
فثار عمر وقد لسعه قول ابن عباس: فقال له:
« هيهات يا بن عباس.. قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرك عليها فتزيل منزلتك منى.. » وخاف ابن عباس من سطوته فاجابه بناعم القول:
« ما هي يا أمير المؤمنين؟ فان كانت حقا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه،. »
وهدأت ثورة عمر فقال له:
« بلغني أنك تقول: إنما صرفوها ـ اي الخلافة ـ عنا حسدا وبغيا وظلما! »
فاجابه ابن عباس بمنطقه الفياض:
« أما قولك يا أمير المؤمنين: ظلما فقد تبين للجاهل والحليم، واما قولك حسدا فان آدم حسد، ونحن ولده المحسودون!! »
فثار عمر، وصاح به « هيهات هيهات!! أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلاّ حسدا لا يزول.. »
وانبرى ابن عباس فرد عليه مقالته:
«مهلا يا أمير المؤمنين!! لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.. » (4)
وكشفت هذه المحاورة عما تكنه قريش في نفوسها من الموجدة والكراهية لآل البيت فاختارت صرف الخلافة عنهم، ويرى عمر أنها وفقت في ذلك، ولكنها في الحقيقة لم توفق، ولم تصب الرأي والرشد، فقد انتج اختيارها أن يفوز الأمويون بالحكم، وهم أعداء الاسلام وخصومه، ومجزرة كربلا الرهيبة احدى مظاهر عدائهم ونقمتهم من الاسلام، فقد صدرت الأوامر المشددة من القيادة العسكرية العليا إلى الجيش بإبادة اهل البيت واستئصال شأفتهم، وأن لا يبقى على مسرح الحياة أحد من نسل آل محمد (ص) فابيدت تلك الصفوة الطاهرة من عترة الرسول (ص) وتقطعت أوصالها على صعيد كربلا، وحملت ودائع النبوة وكرائم الوحي سبايا تطوف بها ارذال العرب واجلافهم من بلد إلى بلد، ولما انتهيت سبايا آل النبي (ص) الى يثرب يلتفت عمرو بن سعيد عامل يزيد عليها وهو جذلان مسرور الى قبر رسول الله (ص) فيخاطب جدثه الطاهر ويقول له:
« يوم بيوم بدر يا رسول الله. » (5)
ثم رقى منبر النبي، وخاطب المسلمين فقال: ـ ويا لهول ما قال ـ « أيها الناس. إنها لدمة بلدمة، وصدمة بصدمة، كم خطبة بعد خطبة، حكمة بالغة فما تغني النذر. »
وقبله قال يزيد:
لست من خندف إن لم انتقم
من بني أحمد ما كان فعل
هذا هو اختيار قريش الذي وفقت فيه ـ كما يقولون ـ قد اوجب هضم العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم في لزوم مراعاتها والاحتفاء بها، فانا لله وإنا إليه راجعون
ـ 4 ـ
وقد نظرنا الى الحوادث ـ التي جرت في عصر الامام أبي محمد (ع) ـ نظرة امعان وتدبر، فان التاريخ ـ كما ذكرنا ـ قد خلط بالموضوعات حتى اصبح من العسير أن يخلص المؤرخ إلى الحق في أيسر الأمور، وقد استلخصنا من تلكم الحوادث كثيرا من الجوانب التي لها صلة في الكشف عن حياة الامام (ع) وبتصوير العصر الذي نشأ فيه.