يوم الغدير بين نظرية الإسلام وواقعية التطبيق

باسم حسين الزيدي

2021-07-29 04:55

تكمن صعوبة الإحاطة بعظمة يوم الغدير الاغر وما يمثله من ثابت أساسي من ثوابت الإسلام ورسالته الخالدة كونه اختزل مسيرة وحضارة الإسلام في رمزية يوم الولاية لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) وما تمثله هذه الشخصية الفذة من عطاء وقيم ومبادئ واهداف، ليست على المستوى النظري فقط، وانما بمستواها العملي أيضا، لذلك أصبح يوم الغدير بمثابة مدرسة إسلامية إنسانية متكاملة يمكن ان تعطي الامل بقوة الروح الإنسانية والعدالة والحق والمساواة والتكافل والحرية والشورى والتأخي والوحدة التي يحملها الإسلام ويحاول ان يجعل منها الشعلة التي يستنير العالم من نورها وسط ظلمات الجور والفساد والاستبداد والانحراف والضلال والجهل والعنف والباطل.

يقول سماحة المرجع السيد صادق الشيرازي (دام ظله): "الحق ان العقل عاجز عن الخوض في غمار هذه البحوث، ويظل كل ما يفهمه الآخرون، سوى المعصومين (سلام الله عليهم)، قاصراً أمام فهم عظمة الغدير في السماوات، ومن ثم فإنه يكفينا أن نفهم ما وردنا في عظمة الغدير عن أئمتنا المعصومين وما تناله عقولنا من أن إحياء الغدير يعتبر إحياءً للعدالة وحسن السياسة والتدبير في معاش الناس وأمنهم، وطرداً للجور واللامساواة والإجحاف، فعندما يكون أمير المؤمنين (سلام الله عليه) هو المولى بمقتضى الغدير وغيره، فهذا معناه أن يعيش الناس كلهم في أمان واطمئنان، ولا يوجد جائع أو محروم، ولا ضلال أو انحراف بهذه الصورة ويكون أدنى الناس حالاً متساوياً أمام القضاء مع أعلاهم منزلة، بل حتى مع الحاكمين أنفسهم، وما تراه من حالات الخير والإحسان، وإن كثرت، إن هي إلا قطرة في بحر مواهب الإمام (سلام الله عليه)".

في الحياة العامة غالباً ما يتم التفريق بين الجانب النظري والعملي (الواقعي) لما يتم طرحه من نظريات وأفكار من قبل مدارس او تيارات او احزاب او منظمات او شخصيات لها تأثير اقتصادي او سياسي او فلسفي او ثقافي او حقوقي او ديني...الخ، وهذا التأثير عرضه للتوسع او الانحسار بحسب قوة الواقعية التي يعكسها الجانب العملي في تطبيق النظرية او الفكرة، ومن هنا يمكن إدراك أهمية وحيوية الغدير كانتقاله واقعية من الجانب النظري الى الجانب العملي بكل تفاصيله التي يمكن تطبيقها على مستوى الافراد او المجتمع: "إن خط الله تعالى والصراط المستقيم ممتد في طول ولاية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) وذلك لتسود الفضائل في المجتمع، فيوم الغدير في الحقيقة هو روح جميع الأيام، وإحياؤه إحياء لعيد الفطر والأضحى والجمعة بل كل الأعياد، ففي الغدير استمرار العدل والإنصاف، وكل القيم التي خلق الله من أجلها الإنسان وبعث إليه الأنبياء والرسل".

ويؤكد سماحة المرجع السيد صادق الشيرازي هذه الأهمية بقوله: "لو أردنا أن نفهم الغدير في عبارة موجزة لأمكننا القول: إن الغدير هو الوعاء الذي تجتمع فيه جميع تضحيات الرسول الكريم (صلى الله عليه واله)، وهو مخزن الأحكام والآداب التي أوحى الله تعالى بها إلى رسوله الأمين، والإشارة إلى هذه الحقيقة ومدى توقف البعثة الخاتمية عليه تجسد في قوله (جل وعلا): (يا أيُّها الرَّسولُ بَلِّغ ما أنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإنْ لم تفعَل فما بَلَّغتَ رِسالَتَه)، والغدير روضة الفضائل والأخلاق والمكارم والمحاسن، بل هو المكارم بعينها، والتطور الحضاري والمعنوي كله يدين له بذلك، لاعتباره أهم عامل في حفظ كيان الدين والملة، ويعد إنكاره بمثابة إنكار لجميع القيم الإسلامية السامية".

اذن فجوهر يوم الغدير لا يمكن ان ينظر اليه من جانب نظري مجرد، ولا من جانب مادي بحت، بل بما يمثله من مزج وتكامل بين الجانبين، وهنا تكمن قوة وعظمة يوم الغدير الاغر ومدرسته التي ركزت على قدرة الإسلام ورسالته في اسعاد كل البشر بلا فوارق او طبقات او حدود، وقدرته الواقعية على تقديم النموذج الأمثل في الحكم والسياسية والاقتصاد وإدارة شؤون البلاد والعباد وتوفير مناخ امن وحر يسعد فيه الفرد كما يسعد فيه المجتمع ككل، من دون فرق او اختلاف بين المضمون النظري والفكري للإسلام عن الواقع العملي المادي، "فالغدير بجوهره وروحه يعني مدرسة أمير المؤمنين (سلام الله عليه) التي تصلح لإسعاد البشر جميعاً، فأمير المؤمنين سلام الله عليه هو، بعد الرسول صلى الله عليه واله، أعظم آيات الله (عز وجل)، ولا تضاهيه آية، ولذلك يقول الإمام الصادق (سلام الله عليه) عن الذي تخيل أنه يبلغ معرفة الله عن غير طريق أمير المؤمنين (فَلْيُشَرِّقْ وَلْيُغَرِّبْ)، أي لن يبلغ غايته ولو يمم وجهه شرقاً وغرباً".

وقد شكلت هذه اللحظة (يوم الغدير والبيعة لأمير المؤمنين عليه السلام) بما تحويه من أهمية الإعلان وعظمة الرهان بين الواقع والمستقبل، الفارق والامل للإنسانية فيما سيكون عليه شكل المستقبل وطموحاته في تعديل مسيرة البشرية التي امتلأت من الظلم والجور والوعود الكاذبة، لترى بارقة الامل في تحقيق العدل والقسط والمساواة من خلال حكومة العدل الإلهي والقيم والمبادئ التي يحملها امير المؤمنين (عليه السلام) وفق منظومة إسلامية متكاملة تحمل برنامجاً سماوياً قادراً على احداث الفوارق، وتصحيح المسارات الخاطئة، وهي ثنائية مهمة وواقعية تجمع بين ولاية امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) في يوم الغدير الاغر، وبين القدرة للوصول الى المجتمع المثالي، وكما يرى سماحة المرجع الشيرازي هذه العلاقة بقوله: "نستطيع معرفة علاقة مباشرة بين ولاية أمير المؤمنين علي (سلام الله عليه) والتمتع بالنعم الدنيوية المشروعة، وذلك لمحورية الولاية العلوية باعتبارها أحد الشروط المهمة والرئيسية للوصول بنا إلى مجتمع قائم على أساس الحرية والعدالة والقيم والفضائل الأخلاقية والإنسانية، لذا يحتم الواجب أن نسلم لما بلغ به رسول الله (صلى الله عليه واله) في يوم الغدير، وأن نقبل عملياً بولاية أمير المؤمنين (سلام الله عليه)".

ويضيف السيد الشيرازي (دام ظله): "بعبارة أخرى: إن الأخذ بولاية أمير المؤمنين (سلام الله عليه) التي أنزلها الله تعالى وفرضها على المسلمين في يوم الغدير، له أثر تكويني يوجب سبوغ البركات والخيرات على الناس من الأرض والسماء، قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: (وَلَوْ أنَّهُمْ أقَامُوا التَوْراةَ وَالإنْجيلَ وَما أُنزِلَ إلَيهِمْ مِنْ رَبـّهِمْ لأكَلوا مِنْ فَوقِهِمْ وَمِنْ تحْتِ أرجُلِهِم)".

والخلاصة ان القدرة على انتاج نموذج له الاستطاعة لإحداث عملية التغيير الشامل على المستوى المعنوي والمادي من خلال ترجمة الجوانب النظرية والفكرية للإسلام، لتجد طريقها الى ارض الواقع مثلما أنتج الدين الإسلامي هذا النموذج الخالد لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) والاعلان عنه بصورة رسمية في يوم الغدير العظيم ليس بالأمر السهل، وهو ليس نتاج صدفة او لحظة عاطفية او اختيار عشوائي يهدف الى الحكم او السيطرة على مقاليد الامور، بل هو نتاج اختيار سماوي مدرك وعالم لأفضل الخيارات والنتائج التي تترتب عليها، لهذا شكل يوم الغدير اللحظة الفاصلة بين الخير والشر وبين الحق والباطل وبين سعادة البشرية وتعاستها.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2021
http://shrsc.com

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي