عبادة الإمام الرضا (ع) وزهده
الشيخ عبدالله اليوسف
2021-06-22 04:55
الارتباط بالله تعالى في كل وقت وحين من صفات أولياء الله وأوصيائه، يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾[1].
ومن صفات المؤمن الصادق التفاعل الوجداني والعاطفي مع ذكر الله عز وجل، وقد أشار القرآن الكريم لذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [ 2].
والعبادة عند الأنبياء والأئمة تمثل قمة التفاعل الوجداني والعاطفي مع الله تعالى، فهم يستمدون العون والقوة والإمداد من الله تعالى، وعبادتهم عبارة عن انقطاع تام إلى الله عز وجل، وارتقاء نحو عالم اللا مادة، حيث الخشوع والتذلل والخضوع والانقطاع التام إلى الباري عز وجل.
وعبادة الإمام الرضا (عليه السلام) هي كذلك، وليست كعبادتنا حيث يشوبها الكثير من النواقص وعدم حضور القلب، وعدم الوصول إلى الانقطاع التام، وعندما نذكر عبادة الإمام وتقواه وورعه وانقطاعه إلى المولى عز وجل فإنما من أجل الاقتداء به بقدر استطاعتنا بذلك، ومن أجل تقديم قدوة حسنة لكل الأجيال الحاضرة والقادمة.
وقد أجمع مؤرخو سيرته المباركة على أنه (عليه السلام): «قليل النوم بالليل، كثير السهر، يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصبح، وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول ذلك صوم الدهر»[ 3].
ويتحدث رجاء بن أبي الضحاك عن عبادة الإمام وهو شاهد عيان على ذلك، إذ يقول:
« فوالله ما رأيت رجلاً كان أتقى لله منه، ولا أكثر ذكراً له في جميع أوقاته منه، ولا أشد خوفاً لله عز وجل.
كان إذا أصبح صلى الغداة، فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله ويصلي على النبي وآله (صلى الله عليه وآله) حتى تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة يبقى فيها حتى يتعالى النهار. ثم أقبل على الناس يحدثهم ويعظهم إلى قرب الزوال ثم جدد وضوءه وعاد إلى مصلاه، فإذا زالت الشمس قام وصلى ست ركعات يقرأ في الركعة الأولى الحمد وقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد، ويقرأ في الأربع في كل ركعة الحمد لله وقل هو الله أحد، ويسلم في كل ركعتين ويقنت فيهما في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة ثم يؤذن ثم يصلي ركعتين، ثم يقيم ويصلي الظهر.
فإذا سلم سبح الله وحمده وكبره وهلله ما شاء الله، ثم سجد سجدة الشكر يقول فيها مائة مرة: "شكراً لله" فإذا رفع رأسه قام فصلى ست ركعات يقرأ في كل ركعة الحمد لله وقل هو الله أحد، ويسلم في كل ركعتين، ويقنت في ثانية كل ركعتين قبل الركوع وبعد القراءة، ثم يؤذن ثم يصلي ركعتين ويقنت في الثانية فإذا سلم أقام وصلى العصر، فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله ما شاء الله، ثم سجد سجدة يقول فيها مائة مرة " حمداً لله ".
فإذا غابت الشمس توضأ وصلى المغرب ثلاثاً بأذان وإقامة، وقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة، فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله ما شاء الله، ثم يسجد سجدة الشكر ثم رفع رأسه ولم يتكلم حتى يقوم ويصلي أربع ركعات بتسليمتين، يقنت في كل ركعتين في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة، وكان يقرأ في الأولى من هذه الأربع الحمد وقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد ثم يجلس بعد التسليم في التعقيب ما شاء الله حتى يمسي ثم يفطر.
ثم يلبث حتى يمضي من الليل قريب من الثلث ثم يقوم فيصلي العشاء الآخرة أربع ركعات، ويقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة فإذا سلم جلس في مصلاه يذكر الله عز وجل ويسبحه ويحمده ويكبره ويهلله ما شاء الله، ويسجد بعد التعقيب سجدة الشكر، ثم يأوي إلى فراشه.
فإذا كان الثلث الأخير من الليل قام من فراشه بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار فاستاك ثم توضأ ثم قام إلى صلاة الليل، فصلى ثماني ركعات ويسلم في كل ركعتين يقرأ في الأوليين منها في كل ركعة الحمد مرة، وقل هو الله أحد ثلاثين مرة ويصلي صلاة جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) أربع ركعات يسلم في كل ركعتين ويقنت في كل ركعتين في الثانية قبل الركوع وبعد التسبيح ويحتسب بها من صلاة الليل، ثم يصلي الركعتين الباقيتين يقرأ في الأولى الحمد وسورة الملك، وفي الثانية الحمد وهل أتى على الإنسان.
ثم يقوم فيصلي ركعتي الشفع يقرأ في كل ركعة منها الحمد مرة، وقل هو الله أحد ثلاث مرات، ويقنت في الثانية ثم يقوم فيصلي الوتر ركعة يقرأ فيها الحمد وقل هو الله أحد ثلاث مرات وقل أعوذ برب الفلق مرة واحدة، وقل أعوذ برب الناس مرة واحدة، ويقنت فيها قبل الركوع وبعد القراءة، ويقول في قنوته: اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت.
ثم يقول: أستغفر الله وأسأله التوبة سبعين مرة، فإذا سلم جلس في التعقيب ما شاء الله. وإذا قرب الفجر قام فصلى ركعتي الفجر، يقرأ في الأولى الحمد وقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد، فإذا طلع الفجر أذن وأقام وصلى الغداة ركعتين، فإذا سلم جلس في التعقيب، حتى تطلع الشمس ثم سجد سجدتي الشكر حتى يتعالى النهار »[ 4].
ويواصل شاهد العيان رجاء بن أبي الضحاك تقريره قائلاً: وكان يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن، فإذا مر بآية فيها ذكر جنة أو نار بكى، وسأل الله الجنة وتعوذ به من النار، وكان (عليه السلام) يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع صلواته بالليل والنهار، وكان إذا قرأ قل هو الله أحد قال سراً " الله أحد " فإذا فرغ منها قال: " كذلك الله ربنا " ثلاثاً، وكان إذا قرأ سورة الجحد قال: في نفسه سراً " يا أيها الكافرون " فإذا فرغ منها قال: "ربي الله وديني الاسلام" ثلاثاً وكان إذا قرأ والتين والزيتون، قال: عند الفراغ منها "بلى وأنا على ذلك من الشاهدين" وكان إذا قرأ لا أقسم بيوم القيامة قال عند الفراغ منها: "سبحانك اللهم بلى " وكان يقرأ في سورة الجمعة﴿ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [ 5]. وكان إذا فرغ من الفاتحة قال: "الحمد لله رب العالمين" وإذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى، قال: سراً "سبحان ربي الأعلى" وإذا قرأ يا أيها الذين آمنوا قال: ( لبيك اللهم لبيك ) سراً [ 6].
وكان الإمام (عليه السلام) أينما يذهب ينشر العلم والمعرفة بين الناس، إذ يضيف شاهد العيان في ختام تقريره المفصل:
«وكان لا ينزل بلداً إلا قصده الناس يستفتونه في معالم دينهم، فيجيبهم ويحدثهم الكثير عن أبيه، عن آبائه عن علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما وردت به على المأمون سألني عن حاله في طريقه فأخبرته بما شاهدت منه في ليله ونهاره وظعنه وإقامته، فقال: بلى يا بن أبي الضحاك هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه لئلا يظهر فضله إلا على لساني، وبالله أستعين على ما أقوى من الرفع منه والإساءة به»[ 7].
فهذه عبادة الإمام الرضا (عليه السلام)، انقطاع تام إلى الله تعالى، وذكر لله في كل الأوقات والأماكن، وقد اعترف المأمون بأن الإمام أعبد الناس، ودعاه خوفه من اطلاع الناس على الحقيقة إلى تحذير رجاء بن أبي الضحاك من إظهار عبادة الإمام (عليه السلام) للناس.
وكما كان الإمام الرضا (عليه السلام) كثير العبادة في أسفاره ـ كما في الحضر ـ كذلك عندما كان في السجن لم يترك العبادة لحظة واحدة، فعن الهروي قال: جئت إلى الدار التي حبس فيها الرضا (عليه السلام) بسرخس وقد قيد فاستأذنت عليه السجان فقال: لا سبيل لكم إليه، فقلت: ولم؟
قال: لأنه ربما صلى في يومه وليلته ألف ركعة وإنما ينفتل من صلاته ساعة في صدر النهار، وقبل الزوال، وعند اصفرار الشمس فهو في هذه الأوقات قاعد في مصلاه يناجي ربه [ 8].
وكان (عليه السلام) يجلس في مصلاه متفكراً معتبراً متأملاً في ملكوت السماوات والأرض؛ فالتفكر عند الإمام (عليه السلام) عبادة، إذ ينقل عنه قوله: «ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم، إنما العبادة في التفكر في أمر الله عز وجل»[ 9].
فمفهوم العبادة عند الإمام الرضا (عليه السلام) لا يقتصر على الصلوات والصيام وبقية الشعائر الدينية وإن كانت في صلبها، بل يشمل أي عمل يُراد به التقرب إلى الله تعالى فهو عبادة، فالتفكر عبادة، وطلب الرزق الحلال عبادة، وتعليم الناس العلم عبادة، والتأمل في مخلوقات الله عبادة... وكل ما فيه رضا لله تعالى، والهدف منه التقرب إليه عز وجل فهو عبادة.
زهد الإمام الرضا (ع)
جَسَّد الإمام الرضا (عليه السلام) مفهوم الزهد بمعناه الحقيقي، وهو الابتعاد عن كل بهارج الدنيا وزخارفها، والانقطاع التام إلى الله عز وجل، وقد تحدث عن مظاهر زهده (عليه السلام) محمد بن عباد الذي قال:
كان جلوس الرضا (عليه السلام) على حصير في الصيف وعلى مسح في الشتاء، ولبسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزيا.
ولقيه سفيان الثوري في ثوب خز فقال: يا ابن رسول الله لو لبست ثوباً أدنى من هذا، فقال: هات يدك، فأخذ بيده وأدخل كمه فإذا تحت ذلك مسح. فقال: يا سفيان الخز للخلق والمسح للحق.
وهذا يشير إلى أن الإمام (عليه السلام) كان يلبس للناس الملابس الجيدة، لأن الناس ينظرون إلى الشخص من خلال ملابسه، حتى قيل: كل ما تشتهي نفسك والبس ما يشتهي الناس. لكن الإمام (عليه السلام) كان يلبس لباساً آخر لله عز وجل، وفيه تقشف ورياضة للجسد حتى يبقى الزهد والتواضع ماثلاً أمام نفسه في كل لحظة من لحظات حياته.
وبقي الإمام الرضا (عليه السلام) محافظاً على زهده حتى عندما أصبح ولياً للعهد؛ إذ يجمع مؤرخو سيرته المباركة على أنه لم يحفل بأية مظاهر أو أبهة كما يعتاد عند أهل الحكم والبلاط، خصوصاً وأن مظاهر الارستقراطية كانت بارزة في البلاط العباسي، إلا أن الإمام الرضا لم يكن يقيم للمظاهر ولا الدنيا بما فيها من زخارف وبهارج أية قيمة، بل المهم عند الإمام (عليه السلام)
هو القيم والأخلاق والمثل العليا.