الامام الهادي وأقرب الطرق لتغيير الواقع الفاسد
محمد علي جواد تقي
2021-02-15 04:55
في مقالات سابقة أشرت الى حقيقة أن أفراد الأمة في عهد الأئمة المعصومين لم يتعرضوا لمشاكل نفسية، ولا معيشية، ولا اجتماعية، وذلك بفضل الرعاية الأبوية لهم، عليهم السلام، والضامنة لتطبيق القدر الأكبر من الاحكام والأخلاق والآداب، لذا كان الاسلام يواصل انتشاره في الآفاق خلال القرن الاول والثاني الهجري، ويشهد الاقتصاد في البلاد الاسلامية ازدهاراً عظيماً، لاسيما في مجال الزراعة حيث كانت تُجبى ملايين الدراهم والدنانير، وكان للأئمة الاطهار الدور الكبير والملموس في هذا التقدم الحضاري، لاسيما في مجال العلوم والمعارف والآداب مما أمكن بلاد أقصى الشرق وفي أقصى الغرب أن تنجب قامات سامقة في العلم والمعرفة، إنما المشكلة الوحيدة آنذاك –وماتزال- هي مشكلة الظلم والطغيان في القيادة السياسية، وهذا ما كان يقض مضاجع الناس ويدخلهم في متاهات المحن والفتن، ويبعدهم عن الحياة الكريمة التي قرأوا عنها وسمعوها من الآباء بما بشّر به النبي الأكرم، وجرى عليه أمير المؤمنين، صلوات الله عليهم.
وعلى خطى آبائه الأطهار، سعى الامام الهادي، عليه السلام، الى تقويم الواقع الاجتماعي والسياسي بالتي هي أحسن، معتمداً التغيير الذاتي من الداخل، لخلق الوعي وإعادة الروح الى ايمان الأمة ليتحمل الناس مسؤولية تغيير واقعهم بانفسهم، فهم الذين ينجون بالانتصار على الظلم والطغيان، ثم هو أنفسهم من سيعيش الرغد والرفاهية عندما يطبقون العدل والانصاف والاحسان وسائر قيم الحق والفضيلة، كما علّمهم أمير المؤمنين، عليه السلام، ويعلم الاجيال الى يوم القيامة.
الانفصام الدائم بين السلطة والجماهير
اذا كان الأمويون يعتمدون على وضّاع الحديث من أشباه العلماء والمحدثين مثل سمرة بن جندب وشريح القاضي، في إضفاء مسحة من الشرعية على حكمهم وجرائمهم، بالكذب على رسول الله على أن هذه الآية القرآنية أو تلك التي نزلت في حق أمير المؤمنين، ثم يعلنون أنها في حق معاوية، وغيرها كثير، وكان مصير المعارض؛ الموت بتهمة "الفتنة والفرقة بين الأمة"، فان العباسيين أدركوا أن وشاح الدين المزيف الذي أخفى منكرات الأمويين، موقته تضحيات الأئمة الاطهار، وفي طليعتهم؛ الامام الحسين في واقعة عاشوراء، لذا لجأوا الى الأدب والشعر تحديداً حيث كان يشكل اللغة المحببة للنفوس آنذاك، فاغدقوا على الشعراء والادباء للاطراء على الحكام لرسم صورة محسنّة لهم، ولكن لم يمض وقت طويل على هذا، إلا وعادت لغة القسوة والدموية الى الحاكم الذي يعد ملكه عقيماً، وان في كرسي الحكم روحه، وهذا ما سبب بانهيار "العلاقة بين بين النظام والجماهير، حيث شعر الناس بان لا شأن لهم بهذه الدولة، وهذا الشعور دفعهم للابتعاد عنها، فاصبحت الدولة بحاجة قوة تفرض بها سيادتها على الناس، فاعتمدت القوة العسكرية وبالذات على الاتراك".
وهذا ما واجهه الامام الهادي، عليه السلام، في فترة إمامته التي طالت حوالي اربعة وثلاثين عاماً، وهي من أطول فترات الإمامة للمعصومين، عليهم السلام، وقد عاصر ستة حكام من العباسيين ممن كانوا يسمّون انفسهم بخلفاء رسول الله! وهم؛ المعتصم، والواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، والمعتزّ، وكان منهجهم مع الناس هو "تربية المجتمع على مقاييس جاهلية، فالذي يلهو ويلعب اكثر مع الخليفة يكون الأقرب اليه، والذي كان ينسلخ عن دينه ويبيع كرامته وشرفه في سبيل الخلفية كانت ورقته أغلى عند الخليفة"!
الإمام القائد بين الجماهير
ولد الامام الهادي في مدينة جده رسول الله، كما سائر الأئمة المعصومين، سوى أمير المؤمنين، وليد الكعبة، ولم يتم السادسة من العمر حتى استشهد والده الامام الجواد على المعتصم العباسي بدسّ السمّ اليه، كما هو ديدن الحكام من قبله في طريقة الاغتيال والتخلص من الخصوم بصمت يبعد عن التهمة وإثارة الرأي العام، وكانت أول محاولة منه لتطويق الامام وتحديد حركته في المجتمع، تعيين معلم له من باب الاهتمام والحرص عليه، عليه السلام، وحسب المصادر فانه أمر بأن يكون الاختيار "لمعلم معروف بالنصب والعدواة لأهل البيت، عليهم السلام، وحتى يؤثر على الامام! ووقع الاختيار على شخص يدعى الجنيدي الذي كان شديد البغض لأهل البيت، فاستجاب لمبعوث المعتصم الذي عيّن له راتباً شهرياً وعهد اليه ان يمنع الشيعة من زيارته والاتصال به". (سيرة الامام علي الهادي- الشيخ عبد الله اليوسف).
ولم تمض الايام إلا وقد تحول ذلك المعلم الناصبي الى موالٍ للإمام وتخلّى عن مسلك العداء لأهل البيت بعد أن رأى من حدّ ذكائه وغزارة علمه غير الطبيعية.
وخلال تواجده في المدينة المنورة تحول الامام الهادي الى مركز اشعاع علمي وثقافي للمجتمع فقد أحبه الناس وتوطدت العلاقات معه بشكل عميق عندما "كان يشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، فيعود مرضاهم، ويشيع جنائزهم، ويحضر مناسباتهم الاجتماعية، ويساعد الفقراء والمحتاجين منهم، ويهتم بشؤونهم"، فأثار هذا أحقاد وضغائن الانتهازيين والمتزلفين الى البلاط الذين وجدوا في هذه الشخصية الرسالية خطراً محدقاً عليهم، فبدأوا يكتبون التقارير المزيفة الى المتوكل يثيرون مخاوفه من الامام واتساع نفوذ في مجتمع المدينة، وانه "يجمع المال والسلاح" وهو مصطلح معروف آنذاك عن الشخصية التي يخشاها الحكام من المعارضين، فأمر باستدعائه الى سامراء، عاصمة الدولة العباسية.
ان عمق الحب والولاء من اهل المدينة للإمام الهادي جعلت المتوكل العباسي يخطط لطريقة إحضار الامام لا تثير غضب الناس والرأي العام، وجاء في "تذكرة الخواص" لسبط بن الجوزي، المؤرخ المعروف، أن المتوكل أرسل يحيى بن هرثمة ومعه كتيبة مسلحة قوامها ثلاثمائة رجل لهذه المهمة، يقول يحيى: "فذهبت الى المدينة، فلما دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً على الامام الهادي، وقامت الدنيا على ساق، لانه كان محسناً اليهم، ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل الدنيا".
قال يحيى: "فجعلت أسكنهم وأحلف لهم: أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنه لا بأس عليه، ثم فتشت منزله، فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني وتوليت خدمته بنفسي، وأحسنت عشرته".
اختراق الجهاز الحاكم
سببت هيمنة الاتراك مقاليد الأمور السياسية والأمنية، الى تعرض الدولة العباسية طيلة سنين طوال الى هزات عنيفة وتصدعات كبيرة، فكانوا يمثلون هيكلية المؤسسة العسكرية منذ أن منحهم هذه الفرصة المعتصم العباسي خلال وجوده في بغداد بعد وفاة أبيه المأمون في خراسان، فقد كان قادة الجيش يحومون حول غرف الخلفاء وبين المستشارين والمقربين وافراد الأسرة العباسية يحيكون الدسائس ويحضرون لعمليات الاغتيال لمن يهدد مصالحهم، وامتيازاتهم، فكانت هذه بمنزلة الفرصة الذهبية للإمام الهادي ولشيعة أهل البيت لأن يوسعوا من قاعدتهم الجماهيرية، وايضاً يخترقوا الجهاز الحاكم ويحصلوا على مناصب رفيعة تخدم تحركاتهم، وتسهل عليهم مهامهم الرسالية، وفي نفس الوقت كانت الفرصة مؤاتية ايضاً للمعارضين والناقمين على الظلم والطغيان في ارجاء البلاد الاسلامية فشهدت ثورات وانتفاضات عديدة.
ومن ابرز الانشقاقات الخطيرة في البيت العباسي في عهد الامام الهادي ما جرى بين المستعين، و المعتزّ، وكانت بغداد مسرحاً لمعارك طاحنة بين انصار الأثنين جرت فيها الدماء، وتعطلت فيها مصالح الناس وساءت أحوالهم بشكل فضيع بسبب القتال، كما يروي المؤرخين، فساد الغلاء الفاحش، وانحسرت السيولة النقدية في ايدي الناس، أزهقت أرواح آلاف المسلمين استجابة لرغبات القادة العسكريين الاتراك الذين كانوا يفضلون هذا على ذاك.
وحسب المصادر فان سامراء التي استقر فيها الامام الهادي، كان مستقراً لعدد كبير من الهاشميين والعلويين من أنصار واتباع الامام، فطريقة تعامل العباسيين مع الامام الهادي لم تكن على نهج واحد، فالمنتصر –مثلاً- كان معروفاً بالتعامل باللين والحسنى مع اتباع أهل البيت، و رفع كل المظالم عنهم، مما جعلهم في بحبوحة من العيش في جميع ارجاء البلاد الاسلامية، بما فيها سامراء.
فاذا كانت السلطة العباسية تتخذ من الجواسيس والوشاة وسيلة لمراقبة تحركات الامام الهادي وشيعة اهل البيت، فان الامام كان قد اتخذ سلسلة من الاجراءات لاختراق الجهاز الحاكم في مختلف الامصار والمناطق الاسلامية، ومنها المدينة المنورة التي كان الوالي فيها عاجزاً عن فعل شيء أمام هيبة الامام وقيادته الحكيمة، فكان يشكل دولة داخل دولة، "فكان تأثير الامام الهادي يمتد الى كبار رجال البلاط العباسي، الامر الذي مكّن الامام من الاطلاع على الكثير من خطط العباسيين ضد الحركة الرسالية، فعندما كان الجواسيس والعيون يأتون المتوكل بالاخبار عن تحركات الامام وعن الذين يتصلون به، وكان المتوكل يصدر أوامره بتفتيش منزل الامام وتشديد الرقابة عليه، كانت تلك الاوامر سرعان ما تتميّع، وذلك للسلطة الروحية التي كان يحظى بها الامام حتى على بيت الخلافة نفسه" (التاريخ الاسلامي، المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
شبكة الوكلاء والقيادة الوسطى
اهتم أئمة أهل البيت على طول الخط بتأمين وتعزيز القيادة الوسطى في الهرم القيادي لتكون حلقة الوصل القوية والامينة القادرة على تجسير العلاقة بين القاعدة الجماهيرية وبين قمة القيادة. هذا المشروع الريادي البالغ الحساسية كان يتعرض لحالة المد والجزر تبعاً للظروف السياسية والاجتماعية في الامة، فكلما كانت تشتد دموية الاعداء وقسوتهم في المواجهة مع اهل البيت، كما حصل مع الامامين الحسن والحسين، تضاءلت قوة هذه الحلقة الواصلة، بينما نلاحظ المردود الايجابي الكبير في عهد الامامين الصادق والكاظم، عندما انتشر العلماء والمحدثين والتابعين في الآفاق وفي داخل الجهاز السياسي الحاكم ايضاً.
وبالنظر الى المعطيات السياسية فقد طوّر الامام الهادي مشروع تربية الكوادر المكونة للقيادة الوسطى، "فاذا نظرنا الى التاريخ، نجد أن تعيين الوكلاء من قبل الامام المعصوم لم يكن يعرف قبل الامام الهادي الذي كان يوكّل نواباً له في كل المناطق الاسلامية، فقد كان في عهد الأئمة الاوائل، أن الامام يوثّق رجلاً فيأخذ الرساليون التعاليم الرسالية منه ويستلم منهم الحقوق الشرعية ليوصلها بدوره الى الامام، أما في عهد الامام الهادي، فان هذا الامر اصبح اكثر دقة وتنظيماً".
في العهود السابقة كانت مهمة اصحاب الأئمة والمقربين منهم يكفيها التوثيق ليعتمد عليهم الناس في المسائل الشرعية، وفي الحقوق وسائر الاحكام والتعاليم، بينما في عهد الامام الهادي، ومع تطور الاوضاع السياسية والنضج الثقافي لدى افراد الأمة، فان هذا التابعي والمقرّب حتى يكون وكيلاً، وربما في مستوى السفير في الوقت الحاضر، فانه يحتاج لأن يكون، الى جانب عدالته، وورعه، واطلاعه على أحكام الدين، أن يكون "مديراً ومدبراً بحيث يمتلك مؤهلات القيادة الاجتماعية، فهو وكيل عن الامام وممثل لأفكاره ومواقفه، ومهتم بشؤون الناس وقضاء حوائجهم" (سيرة الامام الهادي).
ولا ننسى أن الامام الهادي يتطلع الى الموعد القريب لنهاية سلسلة أئمة الهدى في حياة الأمة، ومعرفته بانه الامام العاشر، وان ابنه الحسن، ثم حفيده المهدي، سلام الله عليهم، سيكونون خاتمة الوجود النبوي بين الامة، لذا كان اهتمام الامام الهادي بالوكلاء ليكونوا طليعة الامة في حمل مسؤولية الرسالة في قادم الايام عندما يغيب عنهم الإمام المعصوم، لذا نجد بين الوكلاء التسعة الواردة اسمائهم في التاريخ، اسم عثمان بن سعيد العمري الذي استمر في وكالته الى الامام العسكري، وايضاً الامام المهدي المنتظر، عجل الله فرجه، ومعه ايضاً ولده محمد بن عثمان العمري، وهما من السفراء الاربعة المعتمدين لدى الامام المنتظر في غيبته الصغرى، الى جانب علي بن محمد السمري، والحسين بن روح.
فاذا كان العباسيون يتصورون أنه بغياب الامام المهدي المنتظر، عجل الله فرجه، وانتهاء وجود الأئمة المعصومين في حياة الامة، ولو الى حين، انهم سيواصلون سياسات القمع والتنكيل والتضليل وتغييب الحقائق ليتسنّى لهم ممارسة السلطة براحة بال، فان حقائق التاريخ والواقع الاجتماعي الشيعي اليوم تؤكد المكانة المرموقة والدور المحوري لعلماء الدين ممن يعدون الامتداد الطبيعي للامام المعصوم، يقومون بمهمة تبيين الاحكام مع مواكبة التطورات في المجالات كافة، وتحديد مسؤولية المجتمع وافراد الامة إزاء مختلف المسائل والقضايا، لاسيما ما يتعلق بأنظمة والسياسات المتبعة في البلاد الاسلامية، وما الشهادات من لدن علماء مسلمين وغير مسلمين برصانة القيادة المرجعية لدى الشيعة، من ناحية التمويل، والفكر، والعقيدة، إلا شهادة من كل هؤلاء على نجاح مهمة الأئمة المعصومين، عليهم السلام، في تربية و اعداد الطليعة الرسالية الواعية لضمان عدم ضياع الامة بين الازمات السياسية والاتجاهات الفكرية.