عقيلة بني هاشم غصنٌ يقاوم العواصف
محمد علي جواد تقي
2020-12-20 04:45
فتاة جامعية أنهت دراستها الجامعية في كلية الطب وتخرجت بشهادة "طبيبة"، وهي منحدرة من أسرة كريمة ومحترمة، معالمها؛ الأخلاق، والدين، والشرف، ثم يتم تعيينها لتعمل طبيبة في مستشفى بمدينة يعيش فيها اللصوص والمجرمون والمدمنون على المخدرات، ماذا يكون موقفها من هذا القرار؟!
زينب؛ أول أنثى في البيت العلوي ترى النور في الحياة الدنيا المليئة بالصراعات والتناقضات، فهي ابنة أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وهي ابنة سيدة نساء العالمين، نمت وترعرعت في أحضان العصمة، والأخلاق، والبلاغة، والفصاحة، وايضاً في مدرسة الرسالة التغييرية الشاملة التي اراد الله –تعالى- للبشرية جمعاء.
أسرع رسول الله الى دار فاطمة لدى سماعه نبأ ولادتها الميمونة فحملها بين يديه الكريمتين ثم بكى، كما حصل الموقف نفسه مع أخويها؛ الحسن والحسين، عليهما السلام، عندما بكى النبي في يوم ولادتهما منبئاً بما سيجري عليهما من بعده.
وهذه الدموع من رسول الله على زينب، ومن قبل على الحسن والحسين، لا تمثل تعبيراً عاطفياً فقط، وإنما هي إشارة بالإذن للانطلاق في طريق "ذات الشوكة"، وأن رسالة التغيير لن تنجح ولن تصل الى الاجيال اللاحقة والى يوم القيامة إلا بالتضحيات الجسام، والوقوف بحزم وشجاعة، والتضحية بكل شيء في سبيل الله، وهذا ما برعت به زينب ابنة أمير المؤمنين، عليهما السلام.
ربما يمكن لأحدنا تفهّم المحيط الاجتماعي في محل سكناه، ويتعامل بحذر وحكمة مع بعض الظواهر الخاطئة، والحالات النفسية الشاذة العالقة بشخصية البعض، مثل؛ عقد النقص والحقارة، او الحسد، او الميل الشديد نحو العنف والقسوة، فيسعى للتغيير بما يتمكن، او على الأقل يقدم لهم البديل الأفضل بسلوكه وأخلاقه، بيد إن المهمة تزداد صعوبة اذا كان هذا الشخص مرجع دين –مثلاً- او عالم فيزيائي كبير، او قائد عسكري، لأن ليس من السهل أن يقرّب امثال هؤلاء المسافة بين نشئتهم وظروفهم الاجتماعية، ومستوى تفكيرهم، ومستوى تفكير بعض الناس الذين يعيشون حالة متدنية من التعليم والثقافة والتربية، إلا شخصٌ واحد انفرد عبر التاريخ –من بعد رسول الله خاتم الانبياء- وبرع في هذه المهمة المستحيلة، ألا هو؛ أمير المؤمنين الذي اكتفى "من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه"، ونجح بشهادة الموالين والمخالفين وغير المسلمين بأنه أجاد وأحسن في هذه المهمة بصورة مثالية يصعب تكرارها، وهو القائل لذلك المدّعي الزهد وأنه يريد أن يتقمّص شخصيته، عليه السلام، فنهره قائلاً: "وحيك! إني لست كأنت إن الله –تعالى- فرض على أئمة العدل أن يقدروا انفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره".
وقبل أن تتمثل العقيلة زينب شجاعة أمّها وإبائها، وبلاغة أبيها فصاحته، فانها أثبتت جدارة فائقة في أن تكون من أئمة العدل بأن تكون بين الناس ساعيةً لنشر الحقيقة والوعي مهما كانت الظروف والتحديات، والعقيلة المصونة في دار أمير المؤمنين، حينما كانت تعيش في الكوفة، خبرت أخلاق أهلها، لاسيما شريحة الأجلاف القاسية قلوبهم، والمنافقون والانتهازيون، وتحديداً المتمرسين على القتل وقطع الرؤوس وسمل العيون، وحتى بقر بطون النساء وقتل الاطفال الرضع ولا يرفّ لهم جفن، وربما سمعت بأسماء في الكوفة مثل؛ الشمر، أو حرمله، او غيرهم من السفاحين، كون الكوفة كانت بالاساس عبارة عن قاعدة عسكرية ضخمة للدولة الاسلامية، يغلب على سكانها المقاتلون والفرسان ومحترفي الحرب والقتال من القادمين من مختلف البقاع، فأن تقبل زينب أن تكون أسيرة و مسبيّة بين يدي أولئك الأجلاف والسفاحين، لهي مسألة من الصعب تفهمها، إلا شخص زينب نفسها الحاملة لمشعل الرسالة المحمدية من بعد أخيها الامام الحسين، عليه السلام. وصدق الامام السجاد، عليه السلام، عندما وصفها بأنها "عالمة غير مُعلَّمة، وفَهِمَة غير مُفهَّمة"، أي ان علمها وفهمها للامور أمر رباني، كما هي من صفات المعصوم، وهذا العلم والفهم للأمور هو الذي مكنها من تقبل هذه المهمة العظيمة التي يؤكد العلماء بأن لولا هذه المهمة والدور الذي اضطلعت به، لما كان يبقى للحسين ولقضيته وتضحياته شيء في ذاكرة التاريخ والاجيال.
البطولة، والتضحية، والصبر، عناوين تحتاج لمصاديق عملية على الارض، لاسيما اذا تعلّق الأمر بامرأة، وليس رجل، كون هذه العناوين من مداخل الرجل وصفاته –على الاغلب- في ميادين المواجهة بالحياة، تبقى بعض الاستثناءات للمرأة، وقد جسدت عقيلة بني هاشم كل عناوين المواجهة المحتدمة مع الباطل وبنجاح باهر بما أثمر عن صورة متكاملة للمرأة المسلمة والمؤمنة التي لا تسكت على الظلم، وتقف بحزم وشجاعة بوجه أعتى خلق الله وأكثرهم قساوة وغلظة، وفي نفس الوقت تكون في أحسن حالات رباطة الجأش والتماسك النفسي والعصبي، فلا يظهر عليها سوى ادارة الموقف والصراع بحكمة ودراية، سواءً كان بعد معركة مثل معركة الطف، حيث الايتام والأرامل الملتاعين بالسياط والسباب والشتائم، او أن تكون في مرحلة لاحقة، و زمان آخر، تواجه الظواهر اللاأخلاقية، واللاإنسانية في المجتمع، وتصدح بقول الحق مهما كلفها الأمر.
وصدق أحد علماء الدين في العراق عندما دان بالفضل في الثقافة الحسينية لدى الجيل الجديد الى تلكم الأمهات البواسل اللاتي زرعن في نفوس اطفالهنّ حبّ الامام الحسين، والايمان بقضيته الرسالية، فصار أطفال الأمس رجال اليوم الذين يقودون الهيئات الحسينية، والمواكب، بل ويظهر الخطباء المفوهون، والكتاب والأدباء والباحثون في أمر القضية الحسنية، فمن لتلك الأمهات ذلك؟
بالمقدار البسيط لما قدمته الأم العراقية خلال العقود الماضية ننعم اليوم بشريحة من المثقفين بالثقافة الحسينية، فاذا تضاعفت الجهود اليوم و تركزت اكثر على معالجة ظواهر اجتماعية وسلوكيات منحرفة، نضمن ليس فقط شباب وشابات متعافين أخلاقياً ونفسياً، بل ونضمن الساحة السياسية في قادم الأيام بأن لا يكون فيها ممن يبيع ويشتري بالضمائر والذمم، كما فعلت بعض الأمهات والنسوة في الكوفة في عهد أمير المؤمنين فيخرجْن شباب، بعد عشرين عاماً –من سنة 40عندما اغتيل أمير الؤمنين، وحتى سنة61 يوم عاشوراء- يخذلون مسلم بن عقيل والامام الحسين، سبط رسول الله، وينصرون ابن زياد والأمويين.