الإمام الهادي: تربية العلماء القادة ومحاربة الخُرافة
محمد علي جواد تقي
2020-02-29 04:40
تميّزت ولاية الإمام الهادي، عليه السلام، على الأمة بتميز المرحلة السياسية والاجتماعية، وايضاً المستوى الفكري والثقافي الذي بلغته، فجاءت الخطوات التي اتخذها استجابة للواقع الراهن آنذاك، مع استشراف بعيد للمستقبل، فقد تولّى الإمام الهادي مهمتين؛ الاولى: تربية العلماء والقادة، والثانية: التصدّي للانحرافات الفكرية والعقدية.
عندما دخلت الأمة قرنها الثالث حصلت تطورات وتغيرات كبيرة على الصُعد؛ الاجتماعية والسياسية والفكرية الى جانب التطور الاقتصادي نظراً لاتساع رقعة الدولة الاسلامية آنذاك، ففي الوقت الذي كان يواصل الحكم العباسي منهج القمع والاضطهاد بحق المعارضين لهم، وفي مقدمتهم الشيعة، كانوا يروجون لثقافة الميوعة وحياة الدِعة والتخلّي عن المسؤولية الاجتماعية، فقد صدّرت القصور العباسية فنون الطرب والغناء والمجون والفجور الى المجتمع الاسلامي آنذاك، وبموازاة هذا، كانت المحاولات جارية على قدم وساق لخلق البدع في العقيدة الاسلامية، والتي بدأت في زمن مبكر من تاريخ الاسلام وامتدت مع حياة الأئمة المعصومين، عليهم السلام، ولان من شأن هذه البدع تمييع القيم والنظم السماوية التي جاء بها النبي الأكرم للأمة وللبشرية، فانها لاقت استحسان الحكام الأمويين ومن بعدهم العباسيين لما وجدوه فيها من اسباب التهرّب من الالتزام بالاحكام والقوانين الإلهية، وتبرير سياساتهم القائمة على المصالح الشخصية وتلبية رغباتهم وشهواتهم.
ولعل ثمة حكمة إلهية في تمديد عمر إمامة الامام الهادي لثلاثة وثلاثين عاماً لتكون كافية لانجاز هذه المهمة الرسالية والحضارية، علماً أنه، عليه السلام، تولّى الإمامة بعد أبيه الامام محمد الجواد، وهو ابن ثمان سنين.
العلماء القادة
ورث الامام الهادي من الأئمة المعصومين، جيل من العلماء والفقهاء ممن كانوا يروون عنهم ويحفظون سيرتهم ويحملون منهجهم، وقد تميز دوره، عليه السلام، في أنه ربّى جيلاً من "العلماء الوكلاء"، ممن لا يقتصر نشاطهم في حدود حلقات الدرس وتلقي العلوم الدينية، وإنما يتحملوا أعباء متابعة شؤون الناس وحاجاتهم، ومشاكلهم، وما يعترضهم من فتن وإشكالات في مختلف نواحي الحياة، وقد انتشر هؤلاء في البلاد الاسلامية المترامية الاطراف على مساحة "تضم اليوم تسعة وسبعين دولة، واذا نظرنا الى التاريخ نجد أن تعيين الوكلاء من قبل الامام لم يكن يعرف عند الأئمة قبل الامام الهادي، الذي كان يوكل نواباً له في كل المناطق الاسلامية". (التاريخ الاسلامي- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي)، وفي كتابه "رجال الطوسي"، ترجم الشيخ الطوسي مئة وخمسة وثمانين تلميذاً و راوياً ممن درسوا على يد الإمام و رووا عنه، وعندما نطالع بعض تلكم التراجم نجد في رسائل الإمام الهادي الى وكلائه ما تتضمن تفاصيل دقيقة في كيفية صرف الأموال على مستحقيها، ومتابعة شؤون الوكلاء وطبيعة علاقاتهم الاجتماعية، الى جانب التأكيد للشيعة بنزاهتهم وصدقهم وولائهم، بما يعزز المصداقية لهم في المجتمع.
ومن ابرز الأسماء اللامعة: أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي، وهو أول من سكن مدينة قم، وجاء في المصادر أنه شيخ القميين، ووجيههم وفقيههم، وايضاً؛ الفضل بن شاذان، "يعد من أساطين العلماء، ومن ابرز رجالات العلم والفكر في عصره، كتب في مختلف العلوم والفنون والمعارف الاسلامية، وألف فيها ما يزيد على مئة وثمانين مؤلفاً". (سيرة الإمام الهادي)، كما من القامات ايضاً؛ ابراهيم بن محمد الهمداني، الذي وردت التزكية بحقه من الامام الهادي بخط يده.
تعزيز المناعة العقدية والفكرية
وجود شريحة من العلماء الرساليين ممن يحملون هموم الأمة، له مدخلية في إنجاح هذه المهمة لحاجة افراد الأمة الى قامات مثل هشام بن الحكم، ومحمد بن مسلم، ومؤمن الطاق، وجابر بن يزيد الجعفي، الذين عاصروا الامام الصادق، عليه السلام، وخاضوا بين يديه المناظرات العلمية والفكرية مع أصحاب البدع والزندقة والتشكيك، ولابد ان نأخذ بعين الاعتبار الفترة الزمنية بين الامام الصادق، والامام الهادي حيث اشتدّ عود المذاهب والفرق التي انتهج كلٌ منها طريقاً عدّه هو الحق، وهو الذي يمثل الاسلام دون سواه، لاسيما اذا عرفنا أن الاعتزال –على سبيل المثال لاالحصر- تحول الى المذهب الرسمي للدولة الاسلامية في عهد المأمون العباسي، و راح رموز المعتزلة يجوبون البلاد وينشرون عقيدتهم وما يحملونه من افكار، أكثرها خطورة "خلق القرآن"، وأن لا وجود لكلام الله –تعالى- في الكتاب المجيد، ولا علاقة بين الآيات القرآنية والاحداث التي وقعت في المجتمع الاسلامي الأول.
كما اشتد التوجه الى الخرافات في العقيدة في اوساط الامة بسبب سياسات الجور والظلم التي مورست بحق المسلمين مما خلق لديهم مشاكل وعقد نفسية، ومشاعر مثل؛ الخوف، واليأس، والضِعة، وهو ما انعكس مباشرة على الحالة الايمانية لتكون الثغرة لاصحاب المذاهب بان يتدعوا سبلاً وهمية للخلاص من الواقع السيئ.
ويمكن الاشارة الى أبرز الفرق التي عزم الامام الهادي على مواجهتها:
1- فرقة الغُلاة
هم جماعة من المسلمين ادعوا الحب والولاء لأهل البيت، عليهم السلام، بالطريقة التي يريدونها لا التي خطّها أهل البيت انفسهم للمسلمين، ولم تظهر في عهد الامام الهادي، وإنما هي ممتدة منذ عهد أمير المؤمنين، عليه السلام، عندما ظهرت جماعة يألهونه، الامر الذي سارع الامام الى استنكاره بأشد الاجراءات نافياً صلته بموالاة من هذا النوع به، بل وعاقب هؤلاء بأشد العقوبات.
وجاء في الروايات التاريخية أن المغالين اشتدّ عودهم في عهد الامام الهادي، وأشارت الرسائل منه، عليه السلام، الى رموز الشيعة بضرورة التبرؤ من هؤلاء، وذمّ شيوخهم بالتكذيب واللعن.
ويتضح لنا أبرز دوافع هؤلاء من وراء هذا المسلك، انهم كانوا طلاب دنيا و زعامة، اكثر مما تتعلق المسألة بالعقيدة والولاية، فقد ظهر من كتبهم "إنهم ادعوا لأنفسهم النبوة وادعو للأئمة الألوهية وقالوا بالتناسخ وبإباحة المحارم وغير ذلك"، (حياة الامام الهادي، دراسة وتحليل- الشيخ محمد جواد الطبسي)، بما يعني أن هؤلاء كانوا يظهرون لعامة الناس شيء إزاء الأئمة المعصومين، ويضمرون أشياء اخرى مناقضة تماماً، وهي الحصول على منصب الإمامة والوصاية على مقدرات الناس وأموالهم ليعبثوا بما يشاؤون.
2- فرقة الواقفة
وهؤلاء ظهروا في عهد الامام الكاظم، وتحديداً بعد ساعات من انتشار نبأ استشهاده، عليه السلام، في سجن هارون العباسي، فادعوا أن الإمامة توقفت عنده، ولا أمام بعده، وأنه لم يمت، بل غاب ورفعه الله كما رفع عيسى بن مريم!
أما عن الدافع الاساس وراء هذه البدعة، فانه لم يكن سوى مبلغ سبعين ألف دينار كانت عند أحد اتباع الامام، وهو؛ زياد بن مروان القندي الانباري، وكان يفترض ان يسلمها الى الامام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، فاتفق مع صاحبين له؛ علي بن أبي حمزة، وعثمان بن عيسى، على الامتناع عن أداء الأمانة بدعواهم الباطلة ضد الامام الرضا، وضد التشيع، وقد استمر وجود هذه الفرقة في حياة الامام الهادي، وفي البدء حاول، عليه السلام، إعادتهم الى جادة الصواب، وتوضيح خطأ اعتقادهم، فكان التوفيق للهداية لعدد منهم، منهم؛ ادريس بن زياد الذي استبصر واهتدى الى نور الحق بعد لقائه بالإمام الهادي في سامراء. (سيرة الامام الهادي- الشيخ عبد الله اليوسف)، و"بالاضافة الى سعي الامام الهادي لهداية المنتمين لهذه الفرقة المنحرفة، كان من جهة اخرى يعلن موقفه القاطع والحازم ضدها، حتى وصل الأمر الى إجازته لشيعته بالقنوت عليهم في الصلاة".
3- فرقة الصوفية
وهؤلاء ايضاً ظهروا في بواكير التاريخ الاسلامي، وتحديداً في عهد أمير المؤمنين، حيث أظهروا الزهد والتقشف، والميل المتطرف الى العبادة والتنسّك، في ظنهم أنهم يتأسون به، عليه السلام، بينما كانت الغاية القصوى لهم، التنصّل عن المسؤولية الاجتماعية والالتزام بنهج أهل البيت، عليهم السلام، حتى بلغ الانحراف الفكري بهم، أنهم كانوا يعترضون على طريقة حياة الأئمة، كأن يعترضوا على اختيار الامام الصادق للملابس الجديدة، كما اعترضوا على الامام الرضا، وعلى سائر الأئمة.
وفي عهد الامام الهادي، عليه السلام، اتخذ منهم موقفاً حازماً بالتصدي بمسلكهم ومنهجهم، والتبرؤ منهم، داعياً المسلمين لعدم الاقتراب منهم والتأثر بأفكارهم، وذات مرة، في مسجد النبي الاكرم، بالمدينة المنورة، بينما كان الامام جالساً إذ دخل عليه جماعة من الصوفية، فشكلواحلقة مستديرة وهم يهللون، فقال الامام لمن حوله من الشيعة: "لا تلتفتوا الى هؤلاء الخداعين، فانهم خلفاء الشياطين، ومخربوا قواعد الدين، يتزهدون لراحة الاجسام، ويتهجدون لتقييد الأنام، ويتجوعون عمراً حتى يذبحوا للأيكاف حمراً، لا يهللون إلا لغرور الناس، ولا يقللون الغذاء إلا للالتباس والاختلاف، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنّم والتغنية، فلا يتبعهم إلا السفهاء، ولا يعتقد بهم إلا الحمقاء".
الامام الهادي، عليه السلام، وبعد ترحيله من المدينة المنورة بقرار جائر من المتوكل العباسي، واصل مهامه القيادية في تربية العلماء ومواجهة الفتن العقدية، و ايضاً؛ فضح حقيقة النظام الحاكم، وأنه لا يمثل الشرعية مطلقاً، وبقدر اجراءات الحصار والتضييق والتنكيل بالإمام في سامراء، كان، عليه السلام، يزداد شأنه علواً، وفي قلوب الناس حبّاً و ولاءً له وهو ينشر العقيدة الحقّة الخالية من الشوائب والخرافات التي حاول البعض إلحاقها بالاسلام وتحويلها الى قيم اجتماعية ومتبنيات فكرية.
هذا الدور القيادي والريادي هو الذي ضاعف المخاوف لدى المتوكل العباسي والسلطة العباسية ومن يلوذ بها، فكادوا بالامام الهادي، حتى أن التاريخ يذكر لنا أن المتوكل نفذ ثلاث محاولات لاغتيال الامام، عليه السلام، بعد اعتقاله، فكانت الثالثة استشهاده عليه السلام.