أَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى
بمناسبة ولادة سيد البلغاء الإمام علي (ع)
علي حسين عبيد
2018-03-31 06:54
قليلون أولئك الأفذاذ الذين خلّدهم التاريخ وأعمالهم وما قدموه للبشرية من إنجازات عظيمة، لا يزال الزمن والألسن تلهج بها ما بقيت الحياة قائمة، وثمة سؤال لا يمكن أن يسقط من حسابات الحاضر والمستقبل، مفاده كيف تُبنى الأمم؟ والجواب ليس عصيّاً على الفهم، ولا معقّدا، ولا يأخذ قارئه في متاهات صعبة المنال أو التجوال، فبالعمل يُبنى كل شيء، بدءا من الإنسان مرورا بالدول والأمم، ولكن كيف تكون هوية هذا العمل وماهيّته، وما قواعده والمرتكزات التي يقوم عليها؟، بالطبع هنالك أعمال لا علاقة لها بالجانب المادي، أي أنها قد تكون فكرية أو معنوية يتم إدراكها بالعقل، ولكن المقصود هنا عمل من نوع آخر أكدّه بقوة الإمام علي عليه السلام في مؤلَّفه الخالد (نهج البلاغة)، فقد قال سيد البلغاء:
(أَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى).
فإنْ كان الفرد والشعب والأمة تروم الغنى، والسؤدد، والعلوّ، ما عليها سوى ترك التمنيات جانبا، واعتماد العمل الجاد ابتكارا وتخطيطا وتنفيذا، خصوصا ونحن نلاحظ تلك الظواهر التي رافقت تكوين المجتمع الذي ننتمي له بالهوية والثقافة والدين والروابط الأخرى، ومنها وربما أكثرها خطرا التقاعس عن العمل، ومحاولة التعويض عن ذلك بالتمني، والميل الى الخمول والكسل، والحصول على أساسيات العيش والبناء بطرق ملتوية، لا نجد فيها جهدا فكريا او عضليا، إنما يرغب كثيرون في تحقيقها من خلال اللجوء الى التمني فحسب، الأمر الذي يؤدي بهم الى الفقر بمعناه الأوسع، أي ليس فقر في المال فقط، بل فقر يشمل جوانب الحياة كافة.
كيف يتحول الأمل إلى عمل؟
من هنا ركّز الإمام علي (ع) نبذ هذه الظاهرة، وتقديس العمل ورفض الأماني كأسلوب نحتكم إليه في بناء أنفسنا أو عائلاتنا أو بلداننا، ومن الأمور التي تمَّ التركيز عليها في (نهج البلاغة)، أهمية وشرطية الجهد الذي ينبغي على الإنسان أن يبذله، مقابل تحقيق أساسيات الحياة السليمة، فلا يمكن أن يعيش الإنسان حياة كريمة ما لم يبذل الجهد الكافي بشقيه المادي (العضلي) والفكري، من اجل تحقيق هذا الهدف، لهذا كان تركيز الإمام علي (ع) في واضحا في هذا الاتجاه لضمان تطور الفرد والمجتمع والدولة معا من خلال العمل بالبناء والجهد الملموس وليس عبر التمنيات غير المحمودة، التي لا ينتج عنها سوى الكسل والخمول.
ولذلك يحذّر أمامنا من هذه الآفة للخلاص من أسلوب زائف لا جدوى فيه، إذ أن هذه الحكمة تؤكد من دون أدنى ريب أن الأمنيات الفارغة، لا تقود صاحبها الى الهدف المبتغى، لذلك ينبغي أن يغادر المجتمع هذا السلوك، وأن لا يتحول الى طبيعة ينتهجها الفرد والجماعة كمنهج او أسلوب متعارف عليه في العيش، لأن الأمنية مهما كانت كبيرة من حيث النوع والكم، تبقى عاجزة لأنها تأتي في إطار التمني فحسب، أما إذا كانت أمنية مقرونة بالسعي والتخطيط والتطبيق العملي بلا كلل أو ملل مع حفظ الحقوق، فهي لا تسمى أمنية فارغة، بل أهدافا يخطط لها الفرد او الجماعة ويسعون الى تحقيقها.
من هنا ليس أمام الفرد والجماعة والأمة بأكملها سوى ترك الأمنيات الفارغة، والتعويل على الأهداف الواضحة والتخطيط لها، ومن ثم التنفيذ الدقيق للوصول إليها، وإذا تحول هذا النوع من التفكير الى عمل، وشاع بين الأفراد والجماعات ومكونات المجتمع كافة، فإن الغنى للفرد والمجتمع يصبح أمرا قادما وقائما لا محالة، وبطبيعة الحال لا يمكن أن يتحقق هذا من دون ترك المنى، ووضعها جانبا إذا كانت طريقا وأعذارا يختبئ وراءها من يبحث عن الدعة ولا تروق له الحياة إلا بالكسل.
وقد أدرج الإمام علي (ع) كل شاردة وواردة لها علاقة بدور العمل في حياة الإنسان والبشرية، إذا أننا سنقرأ المزيد من هذه الحِكَم في نهج البلاغة، كلها تشير الى نوع آخر من التعجيز الذاتي للإنسان، عندما يتحول من منتِج فعّال، الى كائن يعيش على الأمل الفارغ من التخطيط والسعي والعمل، فثمة نوع مؤذٍ من الأمل يجعل صاحبه محلّقا في الخيال كأنه أنجز كل ما يطمح إليه وهو قابع في بيته بلا حراك أو إنجاز، إنه الأمل السلبي بطبيعة الحال، لأننا نقر أن هناك أملا ايجابيا، يقترن بالتخطيط والسعي والعمل الجاد لتحقيق الأهداف، لذلك فإن الأمل الفارغ كالأماني الفارغة كلاهما يقودان البشرية نحو الاتجاهات الخاطئة، فلا منجز ولا تميز ولا تقدم خطوة واحدة إلى أمام.
كيف أفاد الآخرون من حكم الإمام ع
يقول سيد البلغاء ما يفتح الآفاق كلها نحو تقدم البشرية، حيث أخذتها الأمم وجعلت منها دليل عمل لها، فصارت في المقدمة فيما تخلف المسلمون لأنهم عجزوا عن تطبيق ما ورد في هذا الكتاب المائز (نهج البلاغة)، لنقرأ في هذا المجال حكمة عظيمة وقاعدة حياة متقدمة للإمام علي عليه السلام يجيء فيها من أعمق الكلمات والمعاني:
(مَنْ أَطَالَ الْأَمَلَ أَسَاءَ الْعَمَلَ).
ومما لا شك فيه هنا أن طول الأمل يؤدي الى ضعف الإرادة وغياب السعي والتخطيط، لهذا عندما يكون الأمل من دون أساسيات وحقائق يستند إليها، فإن نتيجة هذا النوع من الأمل ستكون نتائجه سيئة حتما، كونها تخلو من التخطيط والفعل والإنتاج أيضا، لذلك تحذرنا الحكمة المذكورة سابقا، من الأمل عندما يتحول من صفته ومزاياه الايجابية الى سلوك سلبي لا يخدم الإنسان، حين يصبح عاجزا مستسلما للراحة والكسل، ولهذا فإن الأمنيات المجرّدة ستكون عاجزة عن تحقيق ما يرغب به الإنسان على ارض الواقع، بل طالما تكون سببا في إعاقة البشر عن الوصول الى أهدافه، لذلك فإن الإنسان الذي يكثر من التعلق بالأمنيات، غالبا ما يكون مصيره الفشل، ولهذا لابد أن يتحلى الفرد والجماعة بإرادة قوية وهمّة عالية، لسبب بسيط أنها تقوده الى تحقيق أهدافه بعيدا عن الأسلوب الذي لا يحث الناس على العمل والإنتاج المتقَن.
وثمة صفات أوجزها الإمام (ع) أحسن الإيجاز وأعمقه، حين يتحلى بها الرجل، فإنه سيكون في الصدارة دائما، فمن يعمل لابد أن تكون منظومة من القواعد التي توجه العمل وتحكمه وفي مقدمة هذه المنظومات، الأخلاق، مقترنة بالهمّة، والصدق، والشجاعة التي تنتج عنها مجموعة إيجابيات تضع مسيرة الأمة والفرد في سلم الارتقاء دائما، هذه الصفات نجدها فيما قاله الإمام علي عليه السلام في (نهج البلاغة:
(قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ وَصِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِهِ وَشَجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ وَعِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِ).