الامام الصادق (ع): يكشف حقيقة دعاة القياس
محمد علي جواد تقي
2017-12-09 05:45
ثمة ظاهرة معروفة في الصراع الحضاري تكشف عن سبب انتشار الظلم والطغيان الانحراف الفكري والاخلاقي، عندما يغيب عن الساحة؛ العدل، والحرية، والفكر الأصيل، والأهم من كل ذلك؛ الشريحة التي تحمل على عاتقها تطبيق هذه القيم والمفاهيم على أرض الواقع، وهذه الحقيقة اتفق عليها معظم العلماء المصلحون، ومن جملة الافكار الدخيلة التي اخترقت كيان الامة في عهد الامام الصادق، عليه السلام؛ القياس، ليكون وسيلة بيد بعض دعاة العلم لاستخراج الاحكام الاسلامية.
إن انتعاش فكرة القياس ومعها المذاهب الفكرية والفلسفية في عهد الامام الصادق، عليه السلام، لم يكن لولا مساندة واضحة من الحكام العباسيين، من جهة، ومن جهة أخرى، من سياسة الإقصاء والتحجيم التي مارسوها ضد أئمة أهل البيت واتباعهم للتقليل من شأنهم وشأن نتاجاتهم العلمية، بالمقابل كانوا يشجعون على ترجمة الكتب الفلسفية القادمة من اليونان، ثم فسح المجال أمام ظهور مذاهب تجانب قيم الدين ومبادئه، مثل؛ الجبرية، والمفوضة، والمرجئة، وغيرها.
بيد أن الامام الصادق، عليه السلام، لم يترك هؤلاء وشأنهم ساعة واحدة، ولاسيما دعاة القياس في الدين، وعلى رأسهم؛ أبو حنيفة (النعمان بن ثابت) الذي عرّف نفسه للتاريخ بأنه أول من رفع راية القياس في الدين بشكل علني في الاوساط العلمية، في محاولة منه لشق طريق جديد لاستخراج الاحكام الاسلامية، حتى وإن ابتعد عن ثوابت الدين وما جاء في القرآن الكريم والسنة الشريفة.
وقد ورد في التاريخ روايات عدّة عن محاولات الإمام الصادق، عليه السلام، ثني أبو حنيفة عن القياس، وتنبيهه بالانحراف الخطير فيما يذهب اليه، ومنها؛ أنه حذره من القياس "لان أو لمن قاس ابليس، حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين، فقاس ما بين النار والطين، ولو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر".
وفي مناسبة أخرى قال له، عليه السلام، مبيناً بطلان القياس في الدين استناداً الى القرآن الكريم، علماً أن أبا حنيفة كان يشغل منصب مفتي الدولة الاسلامية –إن صح التعبير- آنذاك:
يا أبا حنيفة! القتل عندكم أشد أم الزنا؟
فقال: بل القتل.
قال، عليه السلام: فكيف أمر الله في القتل شاهدين وفي الزنا أربعة شهود؟ فكيف يدرك هذا بالقياس؟
يا أبا حنيفة! ترك الصلاة أشدّ أم ترك الصيام؟
قال: بل ترك الصلاة.
قال، عليه السلام: فكيف تقضي المرأة صيامها ولاتقضي صلاتها، فكيف يُدرك هذا بالقياس؟
ويحك يا أبا حنيفة!! النساء أضعف على المكاسب أم الرجال؟
قال: بل النساء؟
فقال له: فكيف جعل الله للمرأة سهماً واحداً وللرجل سهمين؟
ثم قال له، عليه السلام:
ويحك! تقول سأنزل مثل ما أنزل الله؟!
قال: أعوذ بالله أن أقوله.
قال، عليه السلام: بلى، تقوله انت واصحابك من حيث لا تعلمون.
القياس مشكلة نفسية
لمن يطالع سيرة حياة أبو حنيفة أو غيره من دعاة القياس، يلحظ استفحال حالة الغرور والحسد والاعتداد بالنفس الى درجة عالية تدفعهم لأن يكونوا بديلاً عن الحقائق والسنن التي بشّر بها أنبياء الله –تعالى- بل ويعدوا أنفسهم أصحاب دين جديد بما أوتوا من العلم، او اديان متجددة مع الزمن تمكن الناس – بظنهم- من الحصول على إجابات لمختلف الاسئلة والحل لمختلف المشاكل في الحياة، ولذا نجد علماؤنا يؤكدون دائماً على ضرورة تزكية النفس قبل طلب العلم، لان العلم بدون تزكية هو الذي يقود البشرية الى المهالك كما شهدت بذلك الحروب المتطورة والطاحنة مثل؛ الحرب العالمية الثانية، وأمثالها.
وفي كتابه "التشريع الاسلامي، مناهجة ومقاصده"، الجزء الاول، لمؤلفه؛ المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي، يسلط الضوء على هذه المشكلة النفسية التي تمخض منها القياس، فقد نشأت فكرة القياس تاريخياً والتي استولت على الفكر اليوناني، بسبب هذا الغرور الجامح بالعلم، وبعد اكتشاف قوانين الهندسة، حيث زعموا أنّهم قادرون على كشف كل حقائق الكون عبرها، فاندفعوا يقيسون كل كل شيء بمعادلات هندسية، فضلّوا وأضلّوا أجيالاً متمادية من البشر.
يقول عن ذلك براتراند راسل 171بعد أنْ يسمَّي المذهب التعقلي بـ"السنة المأثورة" أو "المذهب الكلاسيكي": الدافع الأول والبسيط الذي كان وراء هذا المذهب اعتقاد حكماء اليونان الساذج بالقدرة المطلقة للتعقل والاستدلال (القياسي). لقد أشبعهم اكتشاف الهندسة غروراً وسكراً حتى زعموا بأنّ منهج القياس الذي استخدم فيها يمكن أنْ يستعمل بصورة مطلقة وكلّية (وفي كل شيء). كانوا يزعمون: أنّ الحقيقة أمرٌ واحدٌ ولا تعدد فيها، وليس عالم الحس سوى غرور وأوهام محضة، ولم يرفَّ لهم جفنٌ بسبب غرابة هذه النتائج. بل كانوا من شدّة الإعتقاد بمنهج القياس قد بلغوا درجة زعموا انّ بإمكانهم إصدار أعظم وأغرب الأحكام فيما يتّصل بالحقائق الكلية دون أنْ يشكّوا في صحتها بسبب معارضتها للتجارب الحسية.
ويستدرك المرجع المدرسي بأن مدرسة القياس لم تجد موطئ قدم لها في الحضارة الاسلامية لان "المسلمون تنبهوا مبكراً إلى هذه الثغرة الواسعة في المنهج اليوناني المنطقي والفلسفي ولذلك لم تتأثّر ثقافتهم به إلاّ عند شريحةٍ معينةٍ منهم"، وربما يقصد أبو حنيفة وأمثاله، ويتابع: "فمعارف التفسير والحديث والرجال والعقائد ظلّت قائمة على أساس منهجهم القرآني المتميّز بالدلائل الفطرية والوجدانية، وإنْ لم تتبلور هذه المناهج بصورة كافية.. بلى، استحدث علم الكلام، واستفاد من المنهج الفلسفي للرّد على شبهات المتفلسفين من المسلين، واستفاد البعض من القياس الذي اعتمد على فهم ملاكات الأحكام، بينما اعتبر الآخرون منهج القياس غير مناسب لفهم احكام الدين، وملاكاتها".
ويكشف المرجع المدرسي السبب وراء عدم استفادة المسلمين من هذه اليقظة العلمية والانكفاء على الذات بدلاً من العودة الى معين الدين متمثلاً بالقرآن الكريم وروايات أهل البيت، عليهم السلام، فكان السبب في ضياع فرصة عظيمة للتقدم والتفوق على العالم، "ولولا التوقّف الحضاري الذي طرأ على المسلمين بعد الحروب الصليبية الطوفان التتري لكانت المناهج القرآنية قد فتحت آفاق المعارف أمام البشرية، ولكن المعروف أنّ قبساً من نور القرآن شعّ على العقل الغربي فأناره، وأنار له العالم، وتقدم في حقول العلوم.
إنكّ تجد رحلة الغزالي من الشك إلى اليقين قد سبقت رحلة ديكارت بقرون، ولكنهّا لم تثمر تلك النتائج التي كانت لرحلة ديكارت".
وإنّ مناقشات علماء المسلمين لعقم المنهج الكلاسيكي سبقت مناقشات بيكون، ولكنها ذهبت أدراج حالة التخلّف التي أصابتهم.
فمثلاً تجد ابن حزم، يرى أنّ أقوال المتكلمين معتزلةً كانوا أم أشاعرة أم سواهم في باب ماهية الله وتركيب الجوهر، وطبيعة المسؤولية الخلقية... جميعها باطلة، وعليه فينبغي للإنسان أنْ يسلّم بامتناع تحرّي الحقيقة في مثل هذه الخفايا بالعقل، وبصورة أخص سر ماهية الله وطرقه الحكيمة".
وعليه؛ فان الاضطراب النفسي هو الذي يسبب الهزات الفكرية الشديدة وينتج عنها افكار واستنتاجات تتوالى عليها الاخطاء والتناقضات، ويشهد التاريخ كيف أن نظرية تدحض أخرى، وفيلسوف يلغي آخر بنظريته الجديدة ورؤيته المغايرة لمن سبقه، حتى وإن كان من تلامذته والمقربين منه، وهذه كانت من الامراض التي عانى منها أبو حنيفة وهو يعيش الى جانب الامام الصادق، عليه السلام، حتى نُقل عنه ذات مرة قوله: "خالفت جعفر بن محمد في كل شيء، إلا في حالة السجود، لم أتمكن من رؤية ما اذا كان يغمض عينيه أم يبقيها مفتوحة..."!!
ما السبيل للخروج من داء القياس؟
اذا كان الامام الصادق، عليه السلام، الذي نعيش هذه الايام ذكرى مولده الشريف، يواجه القياس وسائر الافكار والمذاهب الدخيلة على الامة، بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن خلال الدليل والبرهان، فان أمير المؤمنين، عليه السلام، الذي حذر مسبقاً، من هذه الظاهرة، يرسم لنا طريقاً مضيئاً يغنينا من القياس، وفي قراءة رائعة للمرجع المدرسي لخطبة له، عليه السلام، نستخرج منها هذه خطوتين:
أولاً: التقوى
"لا يهيج عن التقوى رّع قوم، ولا يظمأ عنه سنخ أصلٍ"، يعني لا زراعة تفسد إذا أحيطت بسور التقوى، ولا تظمأ شجرة استقت من ينبوع التقوى لأنّ التقوى حياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
ثانياً: معرفة الانسان حدود نفسه
"وإنّ الخير كلّه فيمن عرف قدر نفسه، وكفى بالمرء جهلاً ألاّ يعرف قدره"، وهنا تكمن مقتلة معظم من أوتوا شيئاً من العلم والمعرفة، فيظن انه بلغ مرتبة تمكنه من إصدار الاحكام والاستنتاج وصياغة رؤى عن الحياة والانسان من بنات أفكاره وتصوراته، في حين لا يجهل العقلاء والحكماء دور التواضع في سمو شأن العالم، وايضاً انشراح قلبه على العلم والمعرفة أكثر فاكثر.