ثورة الإمام الحسن (عليه السلام)
المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي
2017-06-08 05:39
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
لقد لاحظت في بعض الكتب كلاماً يوجب للبعض إثارة السؤال والنقد والبحث، ومن اللائق للكاتب أو الخطيب أن يتحدث أو يكتب بحيث يكون قد أحاط بكافة الجوانب فلا يبقي موضعاً مدعاة لإثارة الإشكال أو السؤال حسب المقدور.
ثم إنه ينبغي للخطيب الجيد ـ كالكاتب الجيد ـ عند ما يريد التحدث أن يلاحظ عدة أمور:
أولاً: طرح المسائل الإسلامية بشكل يتناسب مع التطور اليومي، حتى يتمكن المثقف أو الجامعي من فهم ودرك المسألة جيداً.
ثانياً: أن يكون الموضوع مفيدا لكافة الطبقات والشرائح، وأن يتحدث بأسلوب يستفيد منه الجميع، ولذا فإن الخطابة من على المنبر هي أصعب من الكتابة، لأن المؤلف عادة ما يكتب إلى طبقة خاصة، أما الخطيب الناجح فإنه في الوقت الذي يتحدث فيه للجامعيين يلزم أن يكون حديثه مفهوماً بالنسبة إلى بعض العمال ذوي المعلومات القليلة الذين يستمعون إليه في نفس المجلس.
كما أن عليه ملاحظة هذا الأمر دائماً: وهو أن أذواق المستمعين مختلفة، فمثلاً أحدهم يفكر بطريقة اليوم وآخر يهوى التفكير بالطريقة القديمة، ففي هذه الحالة يتحتم أن تكون الخطابة أو الكتابة بحيث يستفيد منها جميع الأذواق، كما ينزل المطر ويجري على الأرض فيستفيد كل مكان يمر به حسب استيعابه، وقد أشار القرآن المجيد إلى هذه الحقيقة: (أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (1).
لذا يلزم على الخطيب والمتحدث القدير أن يكون مسلطاً بما فيه الكفاية عند عرض موضوعه حتى يتمكن من إفادة المستمعين كافة وإرضائهم ومن أي شريحة كانوا.
ثالثاً: والأهم من كل ذلك هو أن على الخطيب والمتحدث أن يبين ما يقصده بشكل لا يبقى هناك أي إشكال أو سؤال في ذهن المستمع.
فمع أخذ هذه النقاط الثلاثة بنظر الاعتبار نقوم ببيان ثلاثة مواضيع في حياة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) وحكومة معاوية مراعياً الاختصار، وإن كان يلزم الاجتناب عن (الإيجاز المخل) الذي هو مثل (الإطناب الممل)(2)، ولكن علينا أن لا ننسى بأن جيل الشباب اليوم والمثقف يبحث عن المواضيع المبسطة والمختصرة وكما يقال: (الأدب السندويشي).
الموضوع الأول: جوانب من حياة وشخصية الإمام الحسن (عليه السلام).
الموضوع الثاني: كيفية الاستفادة من أسلوب الإمام (عليه السلام) الواضح والدقيق.
الموضوع الثالث: جوانب من حكومة معاوية.
آمل أن يكون هذا الكتاب المختصر مقبولاً عند هذا الإمام العظيم (عليه السلام) وأن يكون مفيداً للقراء الكرام إن شاء الله، والله المستعان.
كربلاء المقدسة-محمد
الفصل الأول: جوانب من حياة الإمام المجتبى (عليه السلام)
عيد الميلاد
في النصف من شهر رمضان المبارك للسنة الثالث من الهجرة(3) هب نسيم لطيف من الرحمة الإلهية على المدينة المنورة، فأصبح الكل مبتهجاً بولادة وليد من نسل الطاهرين في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)..
كان المسلمون جماعات، جماعات يتوافدون على البيت أو مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليباركوا له وللهاشميين ولادة أول أسباطه (صلى الله عليه وآله) من ابنته سيدة نساء العالمين وأمير المؤمنين علي (عليهما السلام).
ومن المناسب جداً إعلان مواليد أئمة الهدى (عليهم السلام) كأعياد دينية في الدول الإسلامية، وعلى الأقل في الدول والمناطق الشيعية واعتبارها عطلاً رسمية.
النبي (صلى الله عليه وآله) وبأمر من الله تعالى سمى هذا المولود المبارك (حسناً)(4)، وقد عق (صلى الله عليه وآله) عنه بكبش وزع لحمه بين المسلمين.
تربى الإمام الحسن (عليه السلام) منذ صغره في أحضان جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمه فاطمة الزهراء (عليها السلام) وأبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما ذاق منذ صغره مرارة الحروب وحلاوة انتصارات صدر الإسلام وشاهد الأجواء الصعبة التي رافقت انتشار الرسالة.
كما أن هناك آيات عديدة في القرآن المجيد تشير إلى فضائل الإمام الحسن (عليه السلام) هو وسائر أهل البيت (عليهم السلام)، فقد أشاد القرآن بإيمانهم وإخلاصهم وتضحياتهم وإيثارهم ومدح تلك الخصائل الإنسانية الإسلامية التي يتحلون بها(5).
كذلك فإن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) قد تحدث في أحاديث كثيرة رويت عنه في المقام السامي للإمام الحسن المجتبى (عليه السلام).
وفي النصوص التاريخية لم ينقل عن شخصية وجوانب حياة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) وبشكل عام عما يتعلق بالمعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) هذه الشجرة الطيبة، إلا الفضيلة والتقوى، والعلم والعمل الصالح، ومن الملفت للنظر أنه ومنذ انطلاق الإسلام وإلى زمان غيبة ولي العصر (أرواحنا فداه) لم يؤثر في التاريخ عن هؤلاء الأربعة عشر المعصومين (عليهم السلام) أنهم سُئلوا سؤالاً وبقي من دون جواب، أو أن أحد الأئمة (عليهم السلام) أجاب بخلاف ما أجاب به إمام آخر، بل إن ما حفظ التاريخ الإسلامي هو: أن كافة المعصومين (عليهم السلام) هم نور واحد ويتبعون خطاً واحداً، ولذا فإن مخالفة واحد من هؤلاء الأئمة (عليهم السلام) كمخالفة جميعهم.
السجايا الأخلاقية
لقد فاضت الكتب التاريخية بالسجايا الأخلاقية والصفات الحميدة للإمام الحسن بن علي (عليه السلام).. وسنتطرق إلى ذكر نماذج مختصرة من سلوكه وتعامله:
هكذا أدبنا الله
1: واحدة من جواري الإمام الحسن (عليه السلام) قدّمت للإمام طاقة ريحان، فقبل (عليه السلام) هدية هذه الجارية وبالمقابل قال لها: «أنتِ حرة لوجه الله».
وكان أحد الأشخاص قد لاحظ هذا التعامل الإنساني الرفيع فسأل الإمام (عليه السلام) بتعجب: لماذا أعتقها في مقابل طاقة ريحان لاتساوي شيئاً؟ وذلك لأن القيمة المادية لجارية واحدة تعادل مئات الدنانير من الذهب مثلاً.
فتبسم الإمام (عليه السلام) معبراً عن رضاه وقال: «هكذا أدبنا الله، لأنه يقول في القرآن المجيد: (وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ) (6)، ورأيت أن الأفضل من هدية هذه الجارية هو أن أعتقها في سبيل الله»(7).
نعم إذا طبقت هذه الخصلة القرآنية الحميدة في المجتمع الإسلامي ماذا سيكون لها من نتائج قيمة في تشكيل المدينة الفاضلة والأمة الإسلامية المتقدمة؟
فإذا فكر كل شخص أن يقابل إحسان الآخر بعمل أفضل منه، بل وقد أمر أهل البيت (عليهم السلام) لا بجزاء الإحسان بالإحسان فقط، بل حثوا على مقابلة إساءة الأفراد بالإحسان، وهذا بالإضافة إلى أن لـه الأجر والثواب في الآخرة فإن الشخص يرى الأثر الحميد لعمله هذا في الدنيا أيضاً.
فقد نقل عن أحد الحكماء قوله: أنا في حيرة من الشخص الذي يتحمل عدة أشهر من الحبس كيف لا يتحمل سماع قول سيئ؟ ومعنى هذه الحكمة هو: أنه إذا سمع إنسان من جاهل قولاً سيئاً فيلزمه العفو والإغماض عنه، وإلا فإذا رد عليه بمثله أو بأكثر فربما يجر ذلك إلى النزاع والمخاصمة ثم ينتهي بالسجن.
لقد أتعبتني بكلامك هذا
2: جاء شخص نمام إلى الإمام الحسن (عليه السلام) وقال: إن فلاناً يقع فيك. فقطب الإمام (عليه السلام) وجهه المبارك وقال لـه: «لقد أتعبتني بكلامك هذا، فقد أسمعتني غيبة شخص مسلم، فيجب الاستغفار لنفسي أولاً، ثم إن قولك إن ذلك الشخص قال فيّ كذا، يلزمني أن استغفر له أيضاً»(8).
وفي هذه القصة القصيرة عدة نقاط ينبغي الالتفات إليها.
أ: قبح النميمة.
ب: قبح الغيبة واستماعها.
ج: استحباب الاستغفار للمذنبين، والعفو والتسامح عن الإنسان المسيء.
إذا عمل كل مجتمع ـ بغضّ النظر عن كونه مجتمعاً إسلامياً أم لا ـ بهذه الصفات الحميدة والأخلاق الإنسانية العالية فلا شك أنه سيخطو خطوات مؤثرة في الرقي والتعالي وتحكيم الأخلاق والفضيلة.
أظنك غريباً
3: ورد في التاريخ أن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) كان راكباً على دابته فصادف في طريقه رجلاً من أهل الشام، وبمجرد أن وقعت عينه على الإمام (عليه السلام) تداعت أمامه دعايات السوء لبني أمية ضد أهل البيت (عليهم السلام) فشرع بسب ولعن الإمام (عليه السلام)!.
فظل الإمام (عليه السلام) ساكتاً وأخذ يحطم بصبره وتحمله كل قيود الغضب، إلى أن أفرغ الرجل الشامي عقدة قلبه وسكت.
عندها سلّم الإمام الحسن (عليه السلام) على ذلك الرجل وابتسم بسمة تعبر عن صفاء قلبه، في الوقت الذي كانت المحبة تموج من بين عيني الإمام، وقال: يا شيخ أظنك غريباً في هذه المدينة، ولعلك اشتبهت بي، فإن كانت لك مسألة أعطيتك، وإن كنتَ ضالاً أرشدتك، وإن كنت جائعاً أشبعتك، وإن كنت عرياناً كسوتك، وكل حاجة لك فإني أقضيها، وتعال معي إلى بيتي لتكون ضيفي إلى أن ترحل.
عندما سمع ذلك الرجل جميل كلام الإمام (عليه السلام) وعذوبته، أحس بالندم وتأنيب الضمير، فأحمر وجهه وبدا الخجل يرتسم على محياه وقبل أن يتكلم أخذ دمع الندامة يتقاطر على خديه وقال بكل أدب: اشهد أنك خليفة الله على أرضه وتلا قوله تعالى:
(اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (9)، ولقد كنت أنت وأبوك من أبغض خلق الله عندي والآن أنتما أحب خلق الله إليَّ، ثم ذهب مع الإمام (عليه السلام) إلى منزله وكان ضيفه ما دام موجوداً في المدينة وأصبح من محبي أهل البيت (عليهم السلام)(10).
ومن هذه القصة نتعلم عدة أمور مهمة:
أولاً: إذا تكلم جاهل بسبب دعاية السوء بكلام غير لائق، فلا ينبغي معاقبته، بل يلزم إقناعه بلسان عذب ووجه منبسط.
ثانياً: يلزم القضاء على جذور العصيان والتمرد، كما يتم القضاء على جراثيم المرض في بدن المريض، وإلا فإن الحبوب المسكنة هي حلول مؤقتة، لذلك لاحظنا أنه (عليه السلام) أخذ يعدد أسباب عدم الرضا ووضع حلاً أساسياً لكل واحد منها، فإن السبب قد يكون الجوع أو العوز أو أي حاجة أخرى فيلزم تداركها، ومن اللائق بالمسؤولين في كل مجتمع سواء كان صغيراً أم كبيراً أن يتعلموا هذه الملاحظات التي أشار إليها الإمام المجتبى (عليه السلام).
ثالثاً: يلزم تحكيم الأخلاق والخير والفضيلة في المجتمع الإسلامي بحيث يمكن أن يجعل من العدو صديقاً، وذلك برد فعل مناسب ومرضي عند الله عزوجل، فترى العدو لا يندم على عمله فحسب، أو يبكي على ذلك، وإنما يغيره إلى محب وصديقاً ومضح.
ومع قطع النظر عن تأكيدات الإسلام الكثيرة على الفضائل الأخلاقية، إذا كان التعامل بين أفراد المجتمع هكذا، وبهذه الخلق السامية، فكم سيكون ذلك مؤثراً في تطور المجتمع وتغييره نحو الأفضل، وإذا كان المسؤولون وأصحاب القرار في العالم يتعاملون هكذا مع معارضيهم، فبالإضافة إلى الأجر الأخروي، كان ذلك من أسباب استقرار واستقامة حكوماتهم في ظل الحرية والعدالة.
محاربة الظلم والفساد
هناك رواية مشهورة عن النبي (صلى الله عليه وآله) حيث قال: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(11).
فبالإضافة إلى كون الإمام حجة الله على أرضه وكل عمل يقوم به هو بأمر الله تعالى وفي صالح الإسلام والمسلمين، فإن الإنسان يمكنه وبقليل من المطالعة والتحليل السياسي لذلك الزمان الذي عاشه الإمام الحسن (عليه السلام) وبمعرفة الشرائط الاجتماعية والدينية والسياسية الحاكمة في مجتمع ذلك اليوم، أن يعرف صواب موقف الإمام الحسن (عليه السلام) ودوره العظيم والذي كان حساساً جداً ومناسباً تماماً، فإنه (عليه السلام) قام بواجبه الشرعي بأفضل صورة من أجل الحفاظ على الإسلام والمجتمع الإسلامي.
وعليه فإذا طرح السؤال التالي: هل إن الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) كان لهما هدفان مختلفان ونمطان متعاكسان من التفكير ففي الجواب نقول: من دون ترديد بأن الإمامين الهمامين (عليهما السلام) كانا على هدف واحد ولكن قاما بأسلوبين مختلفين كل بمقتضى شرائط زمانه وحسب أمر الله عزوجل.
وربما يمكن القول بأن دور الإمام المجتبى (عليه السلام) كان حساساً وصعباً أكثر من دور سيد الشهداء (عليه السلام)، وذلك لأن الإمام الحسن (عليه السلام) كان عليه أن يهيئ الأرضية الصالحة للنهضة المباركة، وأن الإمام الحسين (عليه السلام) قام بتلك النهضة الحقة، لأن النهضة الموفقة تحتاج أولاً إلى إعداد الأرضية والتخطيط المنظم والدقيق، حتى يمكن إجرائها بنجاح، فنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) مثلاً كان شجاعاً مجاهداً لكنه في مكة المكرمة قد قام بتهيئة الأرضية المناسبة للأمة الإسلامية فوضع الأسس في مكة وقام بمرحلة التنفيذ والتطبيق في المدينة.
ومن غير الممكن لأي نهضة أن تصل إلى النتائج من دون الإعداد السابق وتهيئة المقدمات وعلى سبيل المثال:
إذا قام شخص ببناء معهد تعليمي ولكنه خالٍ من الطلاب، أو قام بجمع الطلاب ولكن من دون بناء المعهد، فإن كلا العملين غير صحيح، ولكن إذا قام أولاً ببناء المعهد ثم جمع الطلاب فهذا يُعد عملاً متكاملاً ومفيداً.
إن النهضة الموفقة دائماً تحتاج إلى الإعداد السابق، وكان الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) قد قام بهذا الدور المهم، فلو لم ينهض ولم يقبل بالصلح بتلك الشروط المذكورة في التاريخ، وبشكل عام إذا لم يتخذ الإمام الحسن (عليه السلام) ذلك الموقف المناسب، فإن الإمام الحسين (عليه السلام) لم يتمكن من القيام بنهضته المباركة، والدليل على هذا الكلام أن الإمام الحسين (عليه السلام) لم ينهض فوراً عند تسلمه لمنصب الإمامة بل صبر وتحمل بعد استشهاد أخيه الإمام المجتبى (عليه السلام) تسع سنوات حتى تتهيأ وتعد الأرضية الكاملة للقيام والنهوض.
ولذا يلاحظ في طول التاريخ أن الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) كان قسم منهم قد أقدموا على الحرب والجهاد ضد الطواغيت والقسم الآخر (عليهم السلام) كان يتجنب الحرب ويسعى في إعداد المؤمنين، فلم كان هذا الاختلاف؟
إن النهضة الصحيحة هي عبارة عن الحياة ومقوماتها، فإذا كان البناء والإعمار بحاجة إلى مقدمات وأسس، بحيث إن لم يتوفر الحديد والإسمنت والأبواب والشبابيك وأخيراً العمال، فإنه من غير الممكن أن ترى بناءً قد قام وأخذ شكله، وهكذا يكون البناء الاجتماعي الصحيح.
لقد قام الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) بأداء رسالة واحدة، ولكن نصفها قد أداه الإمام الحسن (عليه السلام) بالإعداد الكامل وتهيئة الأرضية اللازمة، ونصفها الآخر قد قام بأدائه سيد الشهداء (عليه السلام) بقيامه المقدس والدامي.
وقد سبق أن مسؤولية الإمام الحسن (عليه السلام) كانت مهمة وصعبة جداً، ربما أصعب من مسؤولية الإمام الحسين (عليه السلام)، وذلك لأن مسؤولية الإعداد أصعب من تفجير النهضة والقيام المسلح، لأن الشخص الذي يريد بناء وتربية جيل على المفاهيم الصحيحة، فمن دون شك وترديد لابد من أن يلاقي صعوبات عديدة، وربما يهان، كما أنه يحتاج إلى برنامج منظم وزمان طويل ومخطط دقيق على المدى البعيد، والكوادر الصالحة والتقية والاحتياط من أجل المحافظة على هذا الجيل في حال الإعداد والبناء، وعوامل البقاء خلال عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر، وأخيراً فهو بحاجة للاستعداد الكامل لتحمل الكلمات الجارحة وأن يكون بعيداً عن كل مدح وثناء.
أما الإنسان الذي ينهض سواء انتصر أو انكسر، فإنه سيحصل على مدح وثناء الناس، وتميل إليه قلوبهم، بعكس الإنسان الأول الذي خطط وأعد واستعد فإنه عادة يبقى من دون مدح وثناء من قبل الناس، تماماً كالبذرة تحت التراب فإنها تتحرك وتتحرك إلى أن تظهر من تحت التراب وتنمو ويشتد عودها، وتخضر ثم تورق وتزهر وتعطي ثمارها، والناس لا يرون إلا الثمرة وربما نسوا فضل البذرة، أما قبل نموها فلا يظهر شيء منها، فإن البذر تحت التراب لا يظهر منه جمال ولا رائحة ولا لون ولا نضارة ولا طعم، مع أن كل هذه تترتب على حركة البذرة تحت التراب.
ومن هنا يعرف مدى أهمية مسؤولية الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) ودوره العظيم، فإنه كان يشكل القسم المهم من النهضة المباركة، وأن رسالته ورسالة أخيه الإمام الحسين (عليهما السلام) كانت واحدة ولكن تتشكل من قسمين، وهل هذا من أسباب ما ورد من أن الإمام الحسن (عليه السلام) هو أفضل وأعلى مرتبة من الإمام الحسين (عليه السلام) كما صرح بذلك سيد الشهداء (عليه السلام) في يوم عاشوراء حيث قال: «أخي خير مني»(12).
لماذا الجهاد ضد معاوية؟
هنا سؤال يطرح نفسه وهو إذا كان دور الإمام الحسن (عليه السلام) الإعداد والتهيئة للثورة، فلماذا أقدم على محاربة معاوية بحرب محكومة بالفشل حسب الظاهر، ثم قبل بالصلح وانسحب من ميدان المعركة؟
وفي الجواب يمكن القول:
بأن الثوار والنهضويين بحاجة دائماً إلى الحركة والفعالية حتى يتمكنوا من توعية المجتمع، ومن فوائد هذا التحرك جذب العناصر الصالحة واللائقة وكشف معايب العدو، وهذا الأمر ضروري بالنسبة إلى كل نهضة في العالم، فإن كل نهضة تريد أن تثبت أسسها عليها أن توفر لديها:
أولاً: جذب العناصر الصالحة، كي يطمئن الناس إلى أن هذا الشخص أو هذه الجهة لها القدرة على العمل والنهوض والحركة، وبالنتيجة فإنهم سيلتحقون بها.
ثانياً: أن تكشف معايب العدو أو الجبهة المخالفة ومدى قوتها وقدرتها، كما يلزم فضحها وبيان مساوئها كي يتفرق الناس الذين التفوا حولها.
درس من إبراهيم (عليه السلام)
وكنموذج نشير إلى قصة النبي إبراهيم (عليه السلام)، فهو الذي حطم الأصنام، وكان يعلم بأنه لا يمكنه أن يحدث تغييراً جذرياً لدى الناس، فإنه لم يمكنه سوى ما قام به يوم العيد، حيث خرج الناس بأجمعهم إلى خارج المدينة للنزهة فأخذ بتحطيم كافة الأصنام بمفرده، حيث كان الناس كلهم من عبدة الأصنام بدءً من الملك وانتهاءً بأصغر أفراد رعيته، وكان يعرف أن الإنسان بمفرده قد لا يمكنه تغيير الواقع الفاسد بسرعة، كما كان يعلم بأن نتيجة تحطيم الأصنام وعقوبته هي الحكم بالإعدام والموت.
إذن كيف أقدم النبي إبراهيم (عليه السلام) على مثل هذا العمل؟
الجواب: إن إبراهيم (عليه السلام) بعمله الشجاع هذا أراد إيجاد حركة في مجتمعه، وتقريب الناس إلى الحقيقة وفهم الواقع وهو أن الأصنام ليست لها القدرة على عمل أي شيء حتى الدفاع عن أنفسها، فيجب التوجه إلى الله عزوجل الخالق القادر المتعال.
فضح معاوية
نعم هذه هي الخطة التي قام بإجرائها الإمام الحسن (عليه السلام)، وكان تحركه هذا سبباً في فضح معاوية وإظهار واقعه للناس في ذلك الوقت وللأجيال القادمة، لأن حقيقة معاوية كانت خافية على الناس.
والسؤال أنه في أي وقت وكيف تمكن الإمام الحسن (عليه السلام) من كشف معاوية وفضح باطنه وإبراز واقعه الفاسد للناس؟
الجواب: كان فضح معاوية بعد قبول الصلح، لأن معاوية بعد توقيع عقد المصالحة أخذ ينقض العهد ويخالف الشروط وصعد على المنبر وأعلن صراحة: (يا أهل الكوفة أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون؛ ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون؛ ألا إن كل مالٍ أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين)(13).
إن مثل هذه المواقف اللاإنسانية والملحدة لا تظهر إلا في مهب تلك العواصف التي تفضح عدو الله المتلبس بلباس الصلاح، عندها يتبين الصديق من العدو ويظهر المؤمنون من المنافقين، وعلى هذا الأصل المهم قام الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) بحرب معاوية مع علمه بأنه ستنتهي المعركة بالصلح في الظاهر وأنه لم يربح الميدان.
ومن دون شك وترديد فإن الإمام الحسن (عليه السلام) بالإضافة إلى علم الإمامة وارتباطه بالله عزوجل، كان من الناحية العادية في قمة العلم والمعرفة والدراية والسياسة والحكمة، فقد حارب (عليه السلام) كي يجذب العناصر الصالحة والخيرة إلى معسكر الحق الذين كانوا معه آنذاك أو من سوف يلتحق بهذه المدرسة فيما بعد، ومن ناحية أخرى لكي يفضح ويكشف الواقع الفاسد لجبهة الباطل فكان كذلك، وقد وصل الإمام (عليه السلام) إلى نتيجتين مهمتين هما:
أ: كشف الواقع الفاسد لمعاوية وفضحه أمام الجميع بأنه شخص محتال، كذاب، وناقض لعهده ولميثاقه الذي أمضاه، وإنه لم يحارب الناس إلا من أجل الوصول إلى الرئاسة والإمارة، ولم يكن قصده الدين والشريعة، بل إنه عدو لدين الله، بالإضافة إلى الأعمال التي صدرت من معاوية كقتله المؤمنين وتنصيبه ليزيد الفاسق وغير ذلك.
ب: وضوح معالم صورة الإمام الحسن (عليه السلام) الطاهرة يوماً بعد يوم، حيث عرف الجميع أنه الذي يريد تحكيم دين الله والفضيلة والتقوى والهداية، وأخيراً إنه الذي يسير على سيرة جده وأبيه (صلوات الله عليهما) وهو المطبق الوحيد للقرآن الكريم وأن هدفه هو الحرية والعدالة الاجتماعية.
فكان صلح الإمام الحسن (عليه السلام) سبباً لمعرفة الناس لمنهج هاتين المدرستين: مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ومدرسة بني أمية، وأن أيهما أحق بالاتباع.
خلاصة البحث
يمكن أن يستفاد من البحث السابق ثلاث نقاط هي:
1: كان الإمام الحسن وأخوه الحسين (عليهما السلام) يسيران باتجاه واحد ويسعيان إلى هدف واحد وهو محاربة الظلم والفساد والنهضة ضد الباطل، ولكن الإمام الحسن (عليه السلام) كان عليه تهيئة المقدمات، وكان على الإمام الحسين (عليه السلام) القيام بالنهضة والوقوف أمام الطغيان حتى الشهادة.
2: إن الإمام الحسن (عليه السلام) ومن أجل كشف الواقع وفضح الظلم والطغيان، قد قام بإعداد الكوادر الصالحة ضد معاوية، كي تعرف جبهة الحق وتفتضح جبهة الباطل عند الجميع.
3: إن هذا الأمر يلاحظ أيضاً في تاريخ الأنبياء (عليهم السلام) وكنموذج على ذلك ما سبق من قصة النبي إبراهيم (عليه السلام) ـ الذي كان أمة ـ حيث قام بتحرك شديد وتغيير كبير في موازين المجتمع من خلال ما قام به من كسر الأصنام، فإنه (عليه السلام) قد كشف واقعها وواقع نمرود وأتباعه، وذلك لأنه (عليه السلام) لم يكن قادراً من الانتصار على ذلك المجتمع الكبير والمخالف ولكنه تمكن من إيقاظ ذلك المجتمع من نومته وغفلته.
فبحركة واحدة في الناس تمكن من جمع العناصر الصالحة الخيرة حوله وكشف واقع نمرود الفاسد للجميع.
إن النبي إبراهيم (عليه السلام) في هذه القصة لم يكشف واقع نمرود فقط، بل كشف الواقع الفاسد المحيط به والقضاة الذين قاموا بمحاكمته وكان عددهم ثلاثمائة قاض، حيث خاطب القضاة قائلاً: إذا كانت الأصنام عديمة الشعور والإحساس، فلماذا تعبدونها؟.. وإلا فاسألوها عمن فعل بها ذلك؟ فسكت القضاة ولم يحروا جواباً أبداً.
المقابلة بالمثل
هنا قد يطرح سؤال آخر: ألم يكن بإمكان الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) أن يتغلب على معاوية عن طريق المقابلة بالمثل؟ يعني أن يقوم بنفس الأعمال التي قام بها معاوية، مثل شراء الذمم بالمال وغيره، بل نذهب أكثر من ذلك ونسأل: كما قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإعطاء المال لمجموعة من الكفار والأعداء، وقد زوج بعضهم وتزوج منهم، وقسم من الكفار هم (المؤلفة قلوبهم) وقد أعطاهم الرسول (صلى الله عليه وآله) سهماً من الزكاة ومن بيت المال حتى تمكن من تقليل أعدائهم وتثبيت أسس الإسلام فوصل (صلى الله عليه وآله) إلى هدفه المبارك، ألم يكن بإمكان الإمام الحسن (عليه السلام) أن يقوم بمثل ذلك، فيرضي وجهاء الكوفة بالعطاء وأن يتزوج منهم أو يزوجهم بناته كي يتمكن من جذبهم إليه وبذلك يتغلب على عدوه؟
الجواب: إن القيام بمثل تلك الأعمال بالنسبة إلى الإمام الحسن (عليه السلام) كان غير ممكن، أما أنه كيف تمكن معاوية من ذلك ولم يتمكن الإمام الحسن (عليه السلام)؟
فلا يخفى أن الإمام الحسن (عليه السلام) لم يكن ليقدم على الحيلة والمكر أبداً على عكس معاوية، فإن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) الذي قام بإهداء الأموال لبعض الكفار لم يكن في عمله أي حيلة ومكر قطعاً، والفرق يظهر في مشروعية جبهة الحق دون الباطل وفي النية أيضاً، فإن الباطل يمكر بالناس ويخدعهم ويبعدهم عن الحق بهذه الأساليب وغيرها وهذا قبيح، ولكن جبهة الحق تسعى في هداية الناس والتقليل من عدائهم بهذه الأساليب الخالية عن المكر والخديعة بل لاستمالة قلوبهم إلى الخير، وهذا حسن والفرق يكمن في النية ومشروعية الحق دون الباطل، ومن هنا يمكن للفرد المسلم ومن أجل الوصول إلى الحق أن يستميل بعض القلوب فيتزوج منهم أو يزوجهم أو يعطي مالاً إلى بعض الكفار مثل ما أعطى الرسول (صلى الله عليه وآله) لصفوان مائة بعير ولأبي سفيان مائة بعير وهكذا، أو أن يظهر المداراة مع الرجل الفلاني أو المرأة الفلانية، فإن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) قد قام بكل هذه الأعمال لدعم جبهة الحق من دون مكر أو خداع.
أما إذا كان الشخص يسعى إلى إقامة الباطل فإن كافة هذه الأعمال حرام، وتعتبر من المكر والخداع، على عكس ما إذا كان يسعى لإحقاق الحق، وذلك لأن أعمال الناس مرتبطة بنياتهم (إن لكل امرئ ما نوى).
ومن هنا اتضح جواب هذا السؤال: كيف كانت هذه الأعمال ممكنة لمعاوية وغير ممكنة للإمام الحسن (عليه السلام)؟ فإنه يلزم القول:
عناصر المقاومة
إن المقاومة العسكرية تتوقف على إعداد الخطط والطبائع والأفكار وتشكيل الجبهات المنظمة، وكان جيش معاوية في الواقع قسماً من جيش الروم المنظم والذي كان يتمتع بتاريخ يقرب من خمسمائة عام وكان مركزهم سوريا وتركيا وفلسطين و.. وهؤلاء لما أسلموا بقيت معسكراتهم، وعليه فإن معاوية كان قائداً لجيش معد ومنظم، له من القدم التاريخي خمسمائة عام، وعند ما جاء الإسلام تغير لونه وتبدل من المسيحي أو البيزنطي إلى الإسلامي. وترأس معاوية لهذا الجيش ولقيادته باسم الإسلام وكان مطاعاً في جيشه لما سبق، ولأسلوبه الاستبدادي والظالم في القضاء على المعارضة.
جبهة الكوفة:
أما الإمام الحسن (عليه السلام) فكان على رأس جبهة مفتتة، وذلك لأن الكوفة كانت مدينة حديثة تأسست في عهد عمر ولم يمض عليها من ذلك الزمان إلى أيام خلافة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) سوى خمس عشرة سنة، ثم إن الكوفة أصبحت مدينة كبيرة وكانت تضم قوميات مختلفة، ففي تلك المدينة تجمع الفرس والعرب وغيرهم، تماماً مثل كوريا الجنوبية في الوقت الحاضر، بحيث كان يقدر عدد نفوس عاصمتها (سيئول) بثلاثمائة ألف نفر فقط ولكن بعد حدود ثلاثين سنة تجاوز عدد نفوسها الأربعة ملايين. لذا لم تكن مدينة الكوفة ولا سكانها مستعدة للحرب، ومن هنا فإن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) لم يتمكن من خوض الحرب بالاعتماد على هؤلاء، وكذلك الإمام الحسن (عليه السلام).
وهكذا معاوية والمختار(14) والتوابون(15) ومصعب بن الزبير(16) وأخيراً الأمويون، فلم يتمكن أي واحد منهم من الاعتماد عليهم وخوض حرب موفقة واستراتيجية بهم، لأن معنى الحرب لم يكن يوماً ما هو جمع مجموعة من الأفراد المختلفين من سكان البادية وغيرهم وخوض المعارك بالاعتماد عليهم، بل إن الحرب عبارة عن امتلاك الخطط والبرامج العسكرية الدقيقة، بالإضافة إلى معرفة الطبائع المختلفة، ثم طرح الأفكار والخطط المريبة وتشكيل الجبهة الحقة بالإضافة إلى ملاحظة القرابات والصداقات وحساب المتغيرات. وللأسف فإن جبهة الإمام الحسن (عليه السلام) كانت فاقدة للعديد من هذه العوامل والعناصر، ولذا لم يتمكن أحد لا قبله ولا بعده من الاعتماد على أهل الكوفة وخوض الحرب الموفقة والخروج بالانتصار. وعلى سبيل المثال نلاحظ في التاريخ: أن ابن زياد لم يتمكن من البقاء معهم.
وأن المختار قد خانوه عند ما ترأس بعد عبيد الله بن زياد(17).
نعم جاء بعده الحجاج بن يوسف(18) وكان سبب قدرته حماية جيش الشام له.
ولذا فإن الحكومة انتقلت من الكوفة إلى مدينة أخرى، وحتى (زيد الشهيد) و(طباطبا) وغيرهما لم يتمكنوا أن ينجزوا أي عمل مع أهل الكوفة.
لهذا لم يتمكن الإمام الحسن (عليه السلام) من جعل الجبهة المتفرقة والمفتتة جبهة مقاتلة يمكن الاعتماد عليها، حتى إذا ما قام بالمداراة والزواج والتزويج وغيرها، على عكس النبي (صلى الله عليه وآله) في المدينة المنورة فقد كانت موحدة ويمكن الاعتماد عليها، وقد أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى هذا المعنى بقولـه: «صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه، لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم»(19).
ففي هذه الخطبة يظهر الإمام (عليه السلام) تفرق وتشتت أهل الكوفة واتحاد أهل الشام.
إذن ظهر جواب السؤال الذي سبق: لماذا لم يقم الإمام الحسن (عليه السلام) باستخدام نفس أسلوب النبي (صلى الله عليه وآله) من أجل الحصول على النصر؟ وهو أن منطقة الكوفة ـ وبشكل عام العراق ـ في زمانه (عليه السلام) وحتى قبله وبعده لم تكن مستعدة لذلك، ومن هنا نرى العباسيين قد وصلوا إلى الحكم بمساعدة أهل خراسان، لأن خراسان في ذلك الوقت كانت لها القابلية والاستعداد وكانت تشكل جبهة واحدة من الري إلى أفغانستان.
أما أهل الكوفة فلم يمكن الاعتماد عليهم من قبل الولاة، سواء كان حقاً محضاً مثل أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام)، أم كان باطلاً محضاً مثل ابن زياد والحجاج وأمثالهما، لأن أهل الكوفة كانوا جبهة مفتتة ومشتتة وأن أهلها كانوا قد تجمعوا فيها من كل مكان، فلم يمكن الجهاد أو المقاومة بهكذا جبهة، وأن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لم يواجه أناساً كأهل الكوفة وذلك تمكن من الدفاع عن الإسلام ومقاومة المشركين وإرساء قواعد الإسلام بإحكام.
لماذا لم يحارب الإمام الحسن(عليه السلام) حتى الشهادة؟
ألم يكن ممكناً للإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) أن يقوم بالتضحية والفداء في سبيل هدفه المقدس إلى آخر لحظة، كما قام به أخوه الإمام الحسين (عليه السلام)؟
وعلى فرض أنه (عليه السلام) لم يتمكن من الانتصار على معاوية أو أخذ زمام القدرة بيده، فهل كان القتل في سبيل الحق غير ممكن له بنفس الأسلوب الذي قام به أخوه واثنان وسبعون من أصحابه وأهل بيته، فيحارب الأمويين فيَقتل ويُقتل؟
الجواب: نعم كان هذا العمل ممكناً بالنسبة إلى الإمام الحسن (عليه السلام)، لكن لو كان قد أقدم (عليه السلام) على مثل هذا العمل كانت نتيجته تعني فناء الإسلام وطمس آثار النبوة، على عكس الإمام الحسين (عليه السلام) في فترة حكم يزيد.. حيث كانت النتيجة إحياء الإسلام، وذلك لأن هناك فرقاً كبيراً بين معاوية ويزيد، وقلنا قبل هذا بأن الظروف السياسية والاجتماعية في فترة إمامة الحسن المجتبى(عليه السلام) كانت تختلف عما كانت عليه في فترة إمامة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، ولذا فإن نفس الإمام الحسين (عليه السلام) لم يقم قيام مسلحاً في زمن معاوية والتي استمرت بعد أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) عشر سنوات.
إن معاوية كان خبيراً بالأساليب الشيطانية، بالإضافة إلى قدرته الفكرية العالية في استخدام الحيلة والمكر للقضاء على معارضيه، كما كان يمتلك جبهة فكرية عظيمة متشكلة من وعاظ السلاطين والذين كانوا على استعداد تام في نسبة الأحاديث الكاذبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مقابل المال، كأمثال: أبي هريرة(20).. وابن العاص(21).. والمغيرة(22).. وسمرة بن جندب(23).. وغيرهم من المنافقين الذين باعوا ضمائرهم في مقابل المال، وإذا كان الإمام الحسن (عليه السلام) قد حارب معاوية وقُتل لوجدنا اليوم سيلاً من الأحاديث الموضوعة والمنقولة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) ضد الإمام الحسن (عليه السلام) وأنه خرج على دين جده (صلى الله عليه وآله) وكنا نلاحظ كيف يتعامل المسلمون مع تلك الأحاديث، ويزعمون صحتها، كما يتعاملون اليوم بالنسبة إلى مختلف الأحاديث المروية عندهم.
أما يزيد فإنه كان لا يملك تلك الجبهة المضادة والقدرة الفكرية والشرعية الظاهرية، وقد عرف الناس زيفه وزيف بني أمية، وكان كل همّ يزيد وفكره في شهواته وحب سيطرته على البلاد، وكذلك في طعامه وشرابه وركوب الخيل، واللهو واللعب، وفي مثل هذه الظروف يمكن المحاربة مباشرة مع هذا الشخص وتحطيمه معنوياً وفضحه أمام العالم وإن أودى ذلك بحياة الإنسان وتسبب قي قتله في سبيل الله.
ولم يمكن لمثل يزيد أن يخدع الناس ويتظاهر بالدين ويتهم من يحاربه بالخروج على الدين وإن حاول ذلك، وفعلاً أراد يزيد أن يتهم الإمام الحسين (عليه السلام) بذلك لكنه لم يتمكن وعرف الناس ظلمه وجوره.
وفي وقت تعد محاربة ومقابلة شخص يملك جبهة مضادة فعالة وقوية ومختلف أنواع المخططات والأساليب الخداعة، تعد نوعاً من الانتحار، ثم يتعبها فناء وذهاب أصل الهدف، وإذا ما قام الإمام الحسن (عليه السلام) قياماً مسلحاً ضد معاوية إلى آخر لحظة بحيث يؤدي بحياة الإمام وحياة شيعته، فلم يكن هناك أي مانع أمام معاوية من وضع الأحاديث المختلفة على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضد الإمام الحسن (عليه السلام) وشيعته!!.
اختلاقان تاريخيان
1: فئتان عظيمتان من الأمة
الحديث المشهور والذي يجري على ألسنة بعض الناس عن النبي (صلى الله عليه وآله): (الحسن سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من أمتي)، الظاهر أنه من ألاعيب معاوية وأكاذيبه، والشخص الذي وضع هذه الرواية أراد أن يوحي على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن معاوية وجماعته فئة عظيمة من الأمة الإسلامية وستحارب فئة أخرى منها، والإمام الحسن (عليه السلام) يتمكن من الصلح بينهما.
في هذا الحديث نلاحظ كذبتان واضحتان للعيان:
الأولى: إن معاوية وجماعته (الذين عصوا إمام زمانهم الشرعي وحتى القانوني) فئة عظيمة ومحسوبة من الأمة الإسلامية، في الوقت الذي يقول الرسول (صلى الله عليه وآله):
«أعداء علي كفار»(24).. و: «يا علي حربك حربي»(25).. وكذلك قولـه (صلى الله عليه وآله) لعمار: «يا عمار تقتلك الفئة الباغية»(26)، وغيرها.
الثانية: إن الإمام علي (عليه السلام) لم يكن قادراً على الإصلاح، وكان طالب حرب فقط، وقد اقتضت الضرورة الإصلاح من قبله (عليه السلام) لكنه لم يستجب لذلك وأن ابنه الحسن (عليه السلام) قد وفق لإقرار الصلح!!
وهذا أحد الروايات الموضوعة والقصد منها إعطاء صفة الشرعية لمعاوية، وبما أن الكذب والوضع واضح فيها فنصرف النظر عن التوضيح الأكثر بالنسبة إلى ردها.
والآن نعود إلى البحث الأصلي وهو أن التضحية حتى القتل مثل ما قام به سيد الشهداء (عليه السلام) كانت ممكنة للإمام الحسن (عليه السلام) ولكن كانت النتيجة فناء الإسلام الواقعي، على عكس تضحية الإمام الحسين (عليه السلام) حيث كانت نتيجته الإبقاء على الإسلام الأصيل حياً وخالداً إلى الأبد، لأن الإمام الحسين (عليه السلام) كان قد حارب الباطل الذي لا ثقافة له ولم يكن يتظاهر بالشرعية وقد تم تحطيمه معنوياً وفضحه إلى الأبد، في الوقت الذي كان معاوية يتمكن من القضاء على الإمام الحسن (عليه السلام) عسكرياً وتصفيته بالكامل وبث الدعايات للنيل من سمعته، حيث كان يتمتع بالمكر والخديعة وكان يتظاهر بالإسلام نوعاً ما.
2: كثرة الزواج والطلاق
الافتراء الآخر الذي ينسبه بعض المؤرخين إلى الإمام الحسن (عليه السلام) هو موضوع كثرة زواج الإمام (عليه السلام) وكثرة طلاقه، وهذا أيضاً من وضع معاوية وأعوانه، لأن معاوية كان قد تعلم أساليب الحكم من الرومان فكان فاسقاً لا يتورع عن القيام بأي جريمة من شرب الخمر والفحشاء وهتك حرمة الأفراد وغيرها(27).
ومن دون شك وترديد فإن دولته التي شيدت على الجور والاستبداد والسيف ورؤوس الحراب فإنها إلى جانب التهديد والترغيب كانت تستخدم أسلوب التضليل والتزوير، ولذا فقد سعى معاوية إلى اتهام مخالفيه كي يخدش شخصيتهم ويقضي على محبتهم في قلوب الناس، وكان يطلق الإشاعات والدعايات المضللة بين أناس لا يميزون بين الناقة والجمل(28).. وهذا أسلوب جميع الحكام المستبدين والطغاة التي تبتلي بهم الأمم.
وهناك احتمال آخر في مثل هذه الرواية بأنها من وضع منصور الدوانيقي(29) العباسي، لأن أولاد الإمام الحسن (عليه السلام) كانوا يثورون باستمرار ضد حكمه الجائر، فكان يروم إسقاط شخصية الإمام كي لا يميل الناس إلى بنيه المجاهدين، وفي أحد الأيام خطب في الهاشمية(30) على الخراسانيين وذكر كلاماً غير لائق بعلي وبنيه (عليهم السلام) قال فيه: (إن الحسن بن علي صالح معاوية على أن يجعله معاوية ولي عهده، ولذا هادن معاوية وسلّمه جميع الأمور، وتوجه إلى النساء يتزوج يوماً هذه ويطلق أخرى وكان دأبه هكذا إلى أن أغمض عينه عن الدنيا)(31).
أما ما يذكر من الشواهد التاريخية وبعض الروايات التي جاءت في كتب الشيعة أو السنة بهذا الخصوص فإنها ضعيفة السند أو ضعيفة الدلالة ـ على اصطلاح علم الرجال ـ ولا يمكن الاعتماد عليها، وعلى سبيل المثال جاءت رواية في الكافي وعدد من رواتها مجهولون ومن المعلوم لا يمكن الاعتماد على هكذا رواية، كما فصلنا ذلك في الفقه(32) كتاب النكاح، عندها يذكر الراوي أن الإمام (عليه السلام) كان أحياناً يعقد على أربع نساء في مجلس واحد ويطلق أربعاً في نفس المجلس، وهذا الراوي شخص يعرف بأبي طالب المكي وكان مشهوراً بالجنون وقد ابتعد الناس عنه وعن أقواله لشدة هذيانه ونقله خلاف الواقع، فمثلاً جاء في أقواله: (لم يكن شيء أضر من الله على مخلوقاته) وكما ينقل عن عدة من المؤرخين بأنه أوصى (بأن ينثر على جنازته السكر واللوز) والمضحك في الأمر أن وصيه عمل بوصيته فنثر على جنازته السكر واللوز(33)!!
ثم إن الذي يبتلى بالحكام الظلمة والمستبدين ويشاهد كيفية نسبة التهم والافتراءات على مخالفيهم ويرى أسلوبهم في الاستبداد وخلق الأكاذيب والحيل والسكر والنفاق وخاصة عند الأمويين والعباسيين، يعرف صحة ما قلناه، ولا أقل من أن يحتمل أو تكون عنده شبهة بأن هذه الأحاديث من موضوعاتهم، وعلى سبيل المثال: فإن أبا سفيان أتهم شخص النبي (صلى الله عليه وآله) بالجنون، ومعاوية أتهم علياً (عليه السلام) بترك الصلاة، كما أن يزيد بن معاوية أتهم الإمام الحسين (عليه السلام) بالخروج على دين جده (صلى الله عليه وآله)، وهكذا فقد حاربوا أهل بيت النبي الأطهار (عليهم السلام) بكل أسلوب حاقد، وفي هذا يقول أحد الشعراء:
عبد شمس قد أضرمت لبني......هاشم ناراً يشيب منها الوليد
فابن حرب للمصطفى وابن هند.......لعلي وللحسين يزيد(34)
الفصل الثاني: دروس من حياة الإمام الحسن (عليه السلام)
الاستقامة في سبيل الهدف
إذا أراد الإنسان الوصول إلى هدفه، من مقابلة الظلم والطغيان القضاء على الاستبداد، ماذا يمكنه أن يستفيد من نهضة الإمام الحسن (عليه السلام) في مواجهة معاوية؟.
الذي يقوم بالمقاومة المسلحة فقط، والذي لا يقوم بأية مقاومة في مقابل العدو؟ كلا العملين غير صحيح، ولا يمكن أن يكون أي منهما أسوة صحيحة للآخرين.
بل يلزم أن يتخذ الإنسان من نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) أسوة وقدوة، كما يلزم تطبيق سيرتهم حسب موازين الزمان.
ولتوضيح ذلك أكثر نضرب مثالاً في هذا المجال:
إذا لم يسافر الإنسان لأداء فريضة الحج بالطائرة وذلك لأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يسافر بالطائرة ولم يكن هناك على سبيل الفرض طريق آخر، أو أن إنساناً آخر يذهب إلى الحج في يومنا هذا بواسطة الخيل وذلك لأن النبي (صلى الله عليه وآله) فعل ذلك في زمانه، فإن كلا الشخصين قد أخطئا، وذلك لأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يقل أنه بعد أكثر من ألف سنة يجب السفر إلى الحج بواسطة الخيل والجمال.
يلزم علينا أن نفكر أولاً ثم نقدم على عملنا، كما فعل الإمام الحسن (عليه السلام) حيث اتخذ الأسلوب المناسب بعد التفكير الصحيح الذي كان ينبع عن الوحي، فقام بما هو صالح للإسلام والمسلمين، وفي زماننا هذا فإن شرائط التحرك الإسلامي تشبه بزمانه (عليه السلام) فإننا نعيش الآن في وقت هجم علينا كل قوى الكفر، قوى الشرق من جهة وقوى الغرب من جهة أخرى، اليهود من جهة والفساد من جهة أخرى، ولا ينبغي التغاضي عن أمواج الفساد واعتبارها لا شيء.
فاليوم الخمور، القمار، السفور، الفساد الأخلاقي المنافي للعفة والذي يخدش الحياء، وأمثالها، كلها تحسب كقوى الشر وتشكل جبهة مخيفة، ونحن في عصرنا الحاضر نحتاج إلى أكثر مقدار ممكن من العلم والتعقل، والثقافة والوعي، كي نحافظ في المرحلة الأولى على أنفسنا وشبابنا ثم نطور الأمة فكرياً وعملياً.
فيلزم علينا أن نلاحظ ثلاثة أشياء وذلك للحفاظ على جبهتنا مقابلة الباطل:
1: مراقبة أنفسنا.
2: تنمية وتطوير قوانا.
3: سلب القدرة من تلك الجهات التي تواطئوا على ملء الدنيا بالفساد والباطل، وذلك بفضحهم وتوعية الناس.
إن المسلمين في العصر الحاضر، حيث عاد الإسلام غريباً بينهم، بحاجة إلى أسلوب الإمام الحسن (عليه السلام) في العمل، وفهمه ودركه بحاجة إلى أكبر قدر ممكن من العقول الناضجة والفكر والبرنامج والمشورة والوقت الكافي والأخلاق الحسنة والدقة في العمل والاستقامة، كي يتمكنوا من وضع الحركة الإسلامية في مستوى الدفاع أمام الأعداء، وضم أكثر من مليار مسلم(35) تحت لواء الحكومة الإسلامية الواحدة إن شاء الله تعالى.
نماذج من العلماء الصامدين
هنا نشير إلى ثلاثة نماذج من العلماء الصامدين، الذين نجحوا في الحياة، مسلمين وغير مسلمين، فإن الصمود والاستقامة شرط أساسي من أجل السعي لإعادة تحكيم الإسلام، وتحمل الصعاب والمشاكل هو طريق ذلك، فإن الهمة العالية والاستقامة في سبيل الوصول إلى الهدف من أهم عوامل الموفقية.
1: شريف العلماء
العالم الجليل شريف العلماء(36) هو أحد أكبر علماء الشيعة وضريحه في كربلاء المقدسة.
هذا العالم الكبير كان يوماً زعيم الحوزة العلمية في كربلاء وأستاذ علماء الشيعة، وتمكن من تربية مجموعة كبيرة من العلماء من أمثال المرحوم الشيخ مرتضى الأنصاري(37)، وكان يحضر درسه أكثر من ألف عالم ومجتهد.
يقال: إن من أسباب نبوغ هذا العالم الجليل هو أنه ولسنوات عديدة كان يبقى مستيقظاً من أول الليل إلى الصباح ودائماً كان مشغولاً بالمطالعة والبحث في الكتب، ومن دون شك وترديد أن هذه المدة الطويلة من اليقظة في الليل هو عمل صعب جداً، ولكن نفس هذا العمل الصعب تمكن من إيجاد نابغة عظيمة حيث جاء في تاريخه أنه بقي أربع عشرة سنة يقظاً طوال الليل، ولهذا أصبح على رأس كافة فقهاء القرن الأخير وعلمائها، والعجيب أنه قد توفي في فترة شبابه.
إن العمل أيضاً مثل العلم تماماً بحاجة إلى الصمود والاستقامة وتحمل الصعاب، لذا فإن نفس الشيء الذي يلزم في النبوغ العلمي يلزم وجوده في الواقع العملي أيضاً، لأن العلم والعمل مثل جناحي الطائر، فإن كل علم من العلوم يحتاج إلى شيئين: الأول ثقافة العلم، والآخر كيفية إجراءه في الخارج، وإذا ما أراد شخص تعمير المدن وإصلاح الناس فيلزمه زمان طويل من التفكير والتخطيط وأن يسعى دائماً لانتخاب أفضل الطرق التي توصله إلى الهدف، ومن ثم عند إصابته الطريق أن يتحرك ويعمل بجد ويتحمل الصعاب، ومثل هذه الطريقة يمكن أن تكون أسلوباً لإجراء حكم الله في الأرض.
2: ابن سينا
ابن سينا (38) إنه كان نابغة بدليل أنه تمكن من فرض شخصيته العلمية في أوساط المجتمعات البشرية إلى هذا اليوم، يقول: بأنه قرأ مرة كتاب أحد الفلاسفة فلم يفهم معناه فقرأه مرة ثانية فلم يفهمه وكذلك في المرة الثالثة وأخيراً قرأ الكتاب أربعين مرة حتى أدرك معناه، وبهذه الطريقة تمكن ابن سينا الوصول إلى هدفه.
3: إديسون
إديسون(39).. وهو الذي اكتشف القوة الكهربائية وكان قبل ذلك قد قام بتجربة فيزيائية فلاحظ تطاير شرارة كهربائية من جهازه الذي كان تحت التجربة، فكرر العمل مرة ثانية فلم يوفق، وفي المرة الثالثة عزم على الاحتفاظ بتلك الشرارة في إحدى القناني المختبرية فلم يوفق، وهكذا كرر عمله هذا عدة مرات فلم يصل إلى نتيجة، إلى درجة أن أصدقاءه كانوا قد اتهموه بالجنون، ولكنه كان مصمماً وذا إرادة فواصل تجاربه إلى أن تمكن من الاحتفاظ بتلك الشرارة الكهربائية، وجاء في تاريخه أنه ومن أجل الوصول إلى هدفه كرر هذه التجربة أكثر من تسعة آلاف مرة وكان دائماً يتحلى بالصبر وعدم اليأس إلى أن تمكن من الحصول على مراده.
في أحد الأيام قرأت في بعض أعداد مجلة (العربي)(40) بأنه تستخدم في القمر الصناعي الواحد ثلاثة ملايين قطعة وأن عدد العلماء الذين يعملون في صناعة وإرسال والسيطرة على القمر الواحد يبلغ ثلاثمائة ألف عالم(41).
نحن في الحقيقة علينا أن نتعلم من الإمام الحسن (عليه السلام) درساً في كيفية الإعداد، كما يلزم التحمل والغلبة على كافة المشكلات بالرغم من كثرتها، وهذا الأمر أصعب حتى من الثورة نفسها، لأن الثورة عبارة عن مقابلة العدو من أجل المحاربة، على عكس الإعداد الذي تظهر فيه آلاف المشاكل.
الشهادة المفجعة
تمكن معاوية وبواسطة (جعدة) زوجة الإمام الحسن (عليه السلام) من سقي الإمام (عليه السلام) السم القاتل، وكانت النتيجة استشهاد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) والتحاقه بجده وأبيه وأمه (سلام الله عليهم أجمعين) مسموماً شهيداً، وهنا يبرز سؤالان:
1: لماذا الزواج من هؤلاء؟
لماذا تزوج الإمام الحسن (عليه السلام) من جعدة بالرغم من عدم صلاحها ولياقتها؟ فأبوها الأشعث أحد المنافقين وكانت له يد في قتل أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، كما أن أخاها محمد بن الأشعث قد أشترك في قتل الإمام الحسين (عليه السلام) فيما بعد.
في الجواب يمكن القول: بأن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) كان قد تزوج بها قبل أن يقدم أبوها وأخوها على تلك الجنايات، ثم إن هذه الجنايات لم تكن تتحقق بعد، ولا قصاص قبل الجناية.
ولكن لماذا تزوج (عليه السلام) بامرأة من عائلة لا تليق بشأنه مع علمه بأن الأشعث من المنافقين.
وجوابه أن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كانوا مشعل هداية ونور للجميع، ومن الواضح أن وظيفة المشعل هو بعث النور للكل، سواء استفيد من هذا النور أم لا، ونلاحظ ذلك في السنة الكونية الإلهية فمخلوقات الله في النظام الكوني هي بهذا الترتيب فمثلاً الشمس كما تبعث بنورها على حدائق الورود المعطرة كذلك تبعث بنورها على المزابل، وكما أن الغيوم تمطر على المزارع والبساتين كذلك فإنها تمطر على المستنقعات أيضاً.
وفي تاريخ الأنبياء (عليهم السلام) نلاحظ أن عدداً منهم كانت زوجاتهم غير صالحات، فكان نوح ولوط (عليهما السلام) لهما زوجات كجعدة، قال تعالى: ]ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لّلّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ[ (42) وهذا دليل على أن الإمام الحسن (عليه السلام) كان قد عمل بالأمر الإلهي حتى في الزواج كسائر أولياء الله وأنبياء الله العظام (عليهم السلام).
2: لماذا شرب السم؟
كيف تناول الإمام الحسن (عليه السلام) السم، مع علمه بأنه سم قاتل؟ وإذا قلت: بأنه لم يعلم فكيف يمكن الادعاء بأن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) يعلمون الغيب بإرادة الله تعالى؟
الجواب: هو أنه (عليه السلام) قد شرب السم مع علمه بذلك وقد وصلتنا روايات متواترة بأن كافة المعصومين (عليهم السلام) كانوا على معرفة بـ (علم المنايا والبلايا) (43) من النبي (صلى الله عليه وآله) إلى ولي العصر (أرواحنا فداه)، وعليه فإن الإمام الحسن (عليه السلام) في هذه المسألة كان كالنبي (صلى الله عليه وآله) عندما تناول اللحم المسموم الذي قدمته اليهودية مع علمه بأنه كان مسموماً، وبناءً على مجموعة من الروايات فإنه (صلى الله عليه وآله) قد رحل عن الدنيا متأثراً بهذا السم، ومثل أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان يعلم بأن قاتله هو ابن ملجم (لعنه الله) وأنه سيقتله ومع ذلك ذهب إلى المسجد، وكذلك الإمام الحسين (عليه السلام) كان على اطلاع ومعرفة باستشهاده في كربلاء، وهكذا كافة الأئمة (عليهم السلام) كانوا يعلمون بوجود السم المقدم لهم من قبل أعدائهم، ومع ذلك كانوا يتناولون الطعام أو الشراب المسموم وما أشبه.
لماذا لم يعملوا بعلم الغيب؟
إذا ما سُئلنا: لماذا لم يعمل الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بعلمهم الغيبي وأسلموا أنفسهم إلى الموت مع أن القرآن المجيد يقول: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (44)؟!
نقول في جوابه: بأن العلم الحاصل من الأسباب والعوامل الطبيعية يختلف مع العلم الحاصل من الأمور الغيبية، وأن الله تعالى لا يعطي علم الغيب والقدرة الخارقة للعادة ـ الولاية التكوينية ـ لأي إنسان إلا ويأمره بعدم العمل طبق ذلك إلا في الموارد الخاصة حفظا لموازين الكون. وهكذا في العديد من الأمور التي يمنحها الله للمعصومين (عليهم السلام) كما كان موسى (عليه السلام)(45) قادراً على قتل فرعون(46) بواسطة الثعابين..
وأن عيسى (عليه السلام)(47) كان قادراً على قتل هيرودوس(48) بواسطة القدرة الخارقة للعادة، وكان نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) قادراً على قتل الكفار والمشركين بالقدرة الإلهية، ولكنهم لم يقدموا على فعل أي واحدة من هذه الأمور مع وجود البلايا التي تحل بهم من قبل الطواغيت زمانهم، فقد أسلموا أمرهم إلى الله في هداية الناس عن طريق الأساليب المتعارفة وكذلك كانوا الذي يملكون علم الغيب.. فقد كانوا على علم بكثير من الوسائل والطرق الغيبية ولكنهم لم يعملوا طبقاً لها، لأن الله تعالى شاء أن تسير كافة الأشياء بحسب الموازين الطبيعية التي أودعها في العالم إلا في مورد المعجزة، كي يكون هؤلاء الأولياء أسوة وقادة للمجتمع البشري.
يتحدث القرآن المجيد عن النبي بقولـه: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مّا يَلْبِسُونَ) (49)، وإذا ما عمل المعصومون (عليهم السلام) بعلم الغيب الذي لديهم، لم يكونوا اليوم أسوة وقدوة، ولقال الناس مثلاً: إن علياً (عليه السلام) كان يعلم بأنه لن يقتل في حروب النبي (صلى الله عليه وآله) لذلك كان يشارك فيها، ولكننا لعدم علمنا بمصيرنا فإننا لا نشارك في الحرب ضد أعداء الإسلام، وهكذا بالنسبة إلى سائر الموارد.
بل إننا نقرأ في صفحات التاريخ بأن بعض الصحابة والحواريين وحتى الأفراد العاديين والذين هم أقل شأناً من المعصومين (عليهم السلام) لم يعملوا أيضاً بعلم الغيب الذي تعلموه من النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام)، وعلى سبيل المثال فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أخبر ميثماً(50) بكيفية قتله على يد ابن زياد، وعندما جاء ابن زياد إلى السلطة فإن ميثم التمار (عليه الرحمة) كان في مكة، ولكن مع ذلك قدم إلى الكوفة فألقي القبض عليه وتم قتله، وهكذا باقي الصحابة الذين كانوا على اطلاع ومعرفة بعلم المنايا والبلايا.
سؤالان؟
السؤال الأول: ربما يقول البعض بأن الأئمة (عليهم السلام) في أثناء شربهم لكأس السم، لعلهم كانوا يحتملون أن أثره في تلك اللحظة لم يكن حتمياً ولا قطعياً، بل أثره في اللوح المحفوظ (على تفصيل مذكور في علم الكلام) فما هو الجواب؟
الجواب: أولاً، في كثير من الحوادث ورد بأنهم كانوا يعلمون بأثره القطعي وأنه في اللوح المحفوظ ومع ذلك أقدموا عليها، مضافاً إلى أن علمهم (عليهم السلام) شمولي ولا وجه لهذا الاحتمال.
ثانياً: على فرض ذلك فإن احتمال الضرر موجود، ولا يجوز للإنسان أن يعرض نفسه للهلاك الاحتمالي حتى وإن كان احتمالاً واحداً بالمائة، إذن لا يمكن أن يكون هذا الجواب كافياً.
السؤال الثاني: إذا كان المعصومون (عليهم السلام) على علم بشهادتهم ومع ذلك لم يعملوا بعلمهم، إذن فما فائدة هذا العلم بالنسبة إلى الأولياء؟
الجواب:
ألف: ماذا تقولون بقدرة هؤلاء الأولياء (عليهم السلام) بالنسبة إلى الموارد المختلفة؟ بحيث إنهم قادرون على القيام بالدفاع عن أنفسهم والقضاء على الباطل بقدرة القوة الغيبية ولكنهم لم يستفيدوا من ذلك، فما فائدتها؟
ب: العلم والقدرة صفتان عظيمتان ومطلوبتان سواء إذن الله بالعمل بهما أم لا، وهذا مثل علم الله تعالى وقدرته على رفع البلايا عن الأولياء ومع ذلك قد لا يفعل ذلك حتى يمتحن عباده، فيثيب بعضاً ويعلي من مراتبهم ودرجاتهم ويعاقب بعضاً نتيجة عملهم وعصيانهم.
وفي هذا المورد يقول عزوجل في القرآن المجيد: (أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوَاْ أَن يَقُولُوَاْ آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ) (51).
الفصل الثالث: جوانب من حكومة معاوية
حكومة معاوية
إن مسألة الخلافة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وإن كانت قد حصلت فيها انحرافات وتغييرات وتحولات، حيث تركوا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالنص وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكن الثلاثة الذين حكموا قبل أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) لم يجعلوها ملكاً موروثاً يرثها الأبناء من الآباء والأقرباء، ولكن معاوية جعلها ملكاً بالوراثة في ظل الاستبداد والظلم وبرؤوس الحراب والسيف، وقد غيروا من واقع المسلمين وحكامهم الذين كانوا يعرضون عن الملذات الدنيوية إلى من صار همهم الراحة والرفاه، والطعام والشراب، واللهو واللعب، وقد أخمدوا كل صيحة تنادي بالعدالة. عندما وصل معاوية إلى أريكة الحكم بدّل الخلافة ـ حتى شكلها الظاهري والصوري ـ بملك (عضوض) (52) كما ورد ذلك في الأحاديث النبوية الشريفة(53) وفي الفترة المظلمة لحكم معاوية وصلت الحكومة إلى مرحلة الاستبداد حيث كانت تعتمد على الحراب والسيوف والسجون.
ولاية عهد يزيد
وعلى سبيل المثال.. فقد جاء في تاريخه: أنه عندما نصب معاوية ابنه الفاسق يزيد خليفة من بعد وجعله ولي العهد.. قام بزيادة رشوة القادة والمسؤولين الكبار في الحكومة، مما أدى إلى سكوتهم وعدم إبداء أي اعتراض أو انتقاد منهم، ثم أمر الرؤساء والخطباء ورجال البلاط بإعلان تأييدهم ومبايعتهم ليزيد على ولاية العهد.
فقام أحد وعاظ السلاطين المأجورين(54) خطيباً أمام الناس وأشار إلى معاوية وقال: (أمير المؤمنين هذا) ثم أشار إلى يزيد وقال: (فإذا مات فهذا) بعدها وضع يده على قائم سيفه وسحبه من غمده وقال: (ومن أبى فهذا)!! فضحك معاوية ضحكة تدل على رضاه وقال لـه: (اجلس أنت أفضل خطيب ومتكلم)، ثم نهض معاوية وبايع يزيد على أنه ولي العهد وخليفة المسلمين!! وكان هو أول من مد يده لمبايعة يزيد(55).
وبذلك تحققت رؤيا النبي (صلى الله عليه وآله) الصادقة، حيث كان قد رأى (صلى الله عليه وآله) مجموعة من القردة ينزون على منبره، وبعدما استيقظ نزل جبرائيل (عليه السلام) بهذه الآية المباركة (وَمَا جَعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ وَالشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ) (56).
وفي التفسير:
إن الشجرة الملعونة هي بنو أمية(57) ومن هنا أصبحت الحكومة بعد معاوية في أيدي بني أمية يتوارثونها من فاسق إلى فاسق، ومن خبيث إلى من هو أخبث منه، ومن متهتك إلى متهتك آخر، إلى أن جاء بعدهم بنو العباس فكانوا أكثر ظلماً واستبداداً من بني أمية، ثم ورثها واحد بعد آخر، وللأسف فقد استمر حكم هاتين العائلتين الظالمتين سبعة قرون من الزمان.
الأمة الإسلامية في زمان معاوية
أما الأمة الإسلامية فقد تبدلت بأناس يسعون وراء الراحة والرفاه، ويركضون وراء ملذات الدنيا، وقد أقبلوا على الشهوات، وكانت النتيجة أن سقطت وزالت حالة المسؤولية والقيام والنهضة من أوساط هذه الأمة التي وضع أساسها نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) من أجل إصلاح العالم وإنقاذ العباد، كي يعم الإسلام جميع العالم. وبما أن العمل بدأ في صدر الإسلام طبقاً لتخطيط نبي الإسلام العظيم (صلى الله عليه وآله) فإن المسلمين استطاعوا في ظرف أقل من ثلث قرن من السيطرة على ثلث العالم وكان ذلك مدعاة لتعجب المفكرين وحيرتهم من ذلك الوقت وإلى يومنا هذا.
ولكن بعد ذلك فإن الإسلام إما أخذ يسير ببطء جداً، وإما أخذ يسير سيراً قهقرائياً ويتراجع بسرعة، حتى قال أحد علماء الغرب مصرحاً: (من الجدير أن نعمل نصباً تذكارياً من الذهب لمعاوية ونضعه في ساحات أوروبا تجليلاً لخدماته لأنه كان السبب وراء توقف حركة تقدم الإسلام السريعة)(58).
من دون شك وترديد فإن الأمة إذا كانت تعيش حياة بسيطة خالية من التعقيدات والتجملات وكانت لا تعير أهمية قصوى إلى الطعام والشراب والمسكن والملبس والمركب وأمثالها، تكون أكثر قدرة على التقدم والتطور من الأمة التي تعير أهمية لهذه الأمور، وهكذا الأمر بالنسبة إلى القائد، ولذا فإن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) كان يحذر ويقول: «إياكم والتنعم والتلهي والفاكهات»(59)، طبعاً لم يكن قصده (عليه السلام) أن لا يسعى الإنسان وراء تأمين معيشته وسبل راحته، بل كان يقصد من هذه الرواية، بأن على الإنسان السعي لهدف أهم ـ وهو الوصول إلى التكامل الإنساني ـ لا أن يصرف عمره في الملذات والشهوات وكيفية الطعام والشراب.
وعلى كل حال فمن ناحية قد وصلت الحكومة في عهد معاوية وبني أمية إلى أقصى درجة من السقوط والانحدار، ومن ناحية أخرى فإن الأمة الإسلامية قد انزلقت في واد من الجمود والسعي وراء الملذات وطلب الراحة والرفاه، وبهذه الطريقة فقد سقط عاملا التقدم والتطور وأخذت الأمة طريق القهقرى.
ومن ناحية أخرى فإن قضية مهمة ألا وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد زالت من بين المسلمين، فلم يعد يقدر الفرد المسلم على نصيحة الحاكم والولاة وإذا ما تجرأ شخص وفتح فاه بالانتقاد أو الاعتراض.. فإنه يجابه بضرب السياط والسجن والتعذيب والإعدام ومصادرة الأموال وهدم البيوت، بل لم يكتفوا بهذا المقدار وإنما كانت جلاوزتهم من مصاصي الدماء من أتباع بني أمية وبني العباس يسعون لقلع جذور مخالفيهم واستباحة أعراضهم..
وعلى سبيل المثال ففي وقائع اليمن(60).. كربلاء.. الحرة(61)، فخ(62) المؤلمة وغيرها، قد تم وضع السيف حتى في رقاب النساء والأطفال.
كما وأن العباسيين قاموا بحرق دار الإمام الصادق (عليه السلام) (63)، وقتل العلويين بالسيف أو بالسم أو ما أشبه.
ففي مثل هذا الجو من الإرهاب والضغط أقدم الولاة وطلاب الدنيا على كل جناية، ولأجل استمرار حكمهم ومصالحهم لم يتوانوا عن أي خطوة ظالمة وكان يسمونها (باسم الإسلام) مما أدى عملهم هذا إلى تشويه صورة الإسلام والإساءة إلى قدسيته الطاهرة، وعندها ترى أنه لم يدخل الناس في دين الله أفواجاً فقط بل أخذوا يخرجون منه جماعات جماعات ويظهرون انزعاجهم منه، إلى درجة أن شخصاً في أحد الأيام وفي محضر أحد الطواغيت قرأ سورة النصر هكذا: (إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس (يخرجون) من دين الله أفواجاً[ (64) فقال لـه: ويحك اقرأ يدخلون، فقال لـه: نعم كان ذلك في زمان نبي الإسلام أما في زمانك هذا (يخرجون).
مشكلة المسلمين اليوم
إن كل ما يجده المسلمون اليوم من مرارة وعدم استقرار، هو فرع مما زرعه حكام الجور وسقوه، ومن دون أي ترديد فإن الإسلام الأصيل المتمثل بقيادة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بجميع جوانبه وفي كافة مجالات الحياة وبتلك الشمولية التي وعد الله بها عزوجل حيث قال: (ليظهره دينه على الدين كله) (65) لا يكون إلا عند ظهور الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
نعم يمكن اليوم إعادة وإجراء قسم من الأحكام الإسلامية بقدر، ويوجب ذلك السعادة النسبية لحياة الناس وذلك بتحقق عدة شروط:
1: شورى فقهاء المراجع
تحكيم شورى الفقهاء المراجع، بحيث يكون الفقهاء العدول ممن تتوفر فيهم الشروط والذين هم مراجع تقليد الأمة، على رأس الأمور، حتى يقوموا بإدارة زمام الحكومة الإسلامية بعد التشاور فيما بينهم وإرشاد الأمة وإيصالها إلى السعادة، كما أمر بذلك القرآن المجيد (وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ) (66).
2: تعدد الأحزاب
تعدد الأحزاب والجماعات والمنظمات الحرة تحت إشراف مراجع التقليد، على هذا النحو بأن يضم كل مرجع من مراجع التقليد الشباب الراغبين في الانضمام إلى المنظمات الإسلامية الصحيحة، حتى يمنعهم من الانحراف والانزلاق نحو الأحزاب والمنكرات والمفاسد، ولعل تعدد نقباء بني إسرائيل الذين جاء ذكرهم في القرآن (وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (67) من هذا القبيل.
إن مهمة الأحزاب الإسلامية التي هي تحت إشراف مراجع التقليد بالإضافة إلى المحافظة على الشباب من الفتيان والفتيات، تشجيعهم للمنافسة السليمة فيما بينهم من أجل التطور والتقدم ورفع المستوى الاجتماعي وإراءة خدمات أكثر إلى الناس، وذلك لأن الاستبداد وتمركز القدرة بيد شخص واحد أو حزب واحد يوجب استمرار التخلف والتراجع كما نشاهده اليوم في العالم الثالث، لأن النظام الاستبدادي لا يرى إلا نفسه وأنه كل شيء ولا يعترف بوجود منافس لـه، وإذا ما واجه انتقاد أو اعتراض شخص أو جماعة فإنه يسعى لتدميرها وتحطيمها.
بينما نظام الاستشارة يوجب دائماً استمرار التطور والتقدم والتمدن، بحيث نرى قسماً منه اليوم فيما يسمى بالعالم المتحضر.. ولم يُسمع في هذه الدول حدوث انقلابات عسكرية أو حكومات استبدادية تقوم على رؤوس الحراب، أو استبداد شخص أو مجموعة خاصة حاكمة، بل إن الحزب الحاكم دائماً يحاذر من أحزاب المعارضة، وذلك لأن منافسه يملك أيضاً الرأي الحر في الإذاعة والتلفزيون والمطبوعات، فإذا ما انحرف فسوف يفتضح.
3: إزالة الحدود المصطنعة
السعي لإزالة كافة الحدود المصطنعة بين الدول الإسلامية كي يتمكن جميع مسلمي العالم من العيش تحت راية حكومة واحدة إن شاء الله.
4: الأخوة الإسلامية
السعي لإعادة الأخوة الإسلامية فيما بين المسلمين كافة كما جاء ذلك في القرآن المجيد: (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (68)، وعدم وضع فوارق على أساس اللون واللغة والقومية والإقليمية وما أشبه، حيث أضاع المسلمون هذه الأخوة منذ أن دخل الاستعمار بلادهم.
5: الحريات الإسلامية
السعي لإعادة الحريات الإسلامية، فقد ذكرنا ذلك في كتاب الصياغة الجديدة(69).
ومن الجدير ذكره إن هذه الأمور لا يمكن تطبيقها إلا بإعداد الأرضية المناسبة لإجراء وتطبيق القوانين والمقررات الإسلامية مع مراعاة قانون السلم واللاعنف في جميع المجالات.
مسك الختام
وفي الختام نذكر فضيلة واحدة قصيرة وذات دلالة كبيرة من فضائل الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) جاءت على لسان أحد أشد أعداء الإمام (عليه السلام).
فقد جاء في تاريخ هذا الإمام العظيم: أنه بعد شهادته (عليه السلام) حضر جنازته مروان بن الحكم(70) وكان من ألد أعدائه وأعداء أهل البيت (عليهم السلام) فقد حضر مروان الجنازة وأخذ يحملها على كتفه! فكان مدعاة لتعجب وحيرة المشيعين، حتى قال له سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام): «أنت الذي جرعته الغصص في حياته والآن جئت لتحمل جنازته على كتفك».
هنا جرت الشهادة بالحق على لسان عدو الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) هذا لتحكي عن عظمة وجلالة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) على طول التاريخ وإلى الأبد، وكم من المناسب واللائق بالإنسان أن يمتدحه ويثني بالحق عليه عدوه ويشهد له بذلك...
عندما سمع مروان كلام الإمام الحسين (عليه السلام) قال: (لقد أسأت إلى من كان صبره وتحمله يوازي الجبال!)(71).
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.