حلب ودمار الحرب يدهس التاريخ ويدك الجغرافيا

عبد الامير رويح

2016-12-21 08:02

تسببت المعارك التي شهدتها سوريا خلال السنوات الماضية، بتدمير مدينة حلب ثاني أكبر المدن بعد دمشق، هذه المدينة المهمة التي كانت تعد وبحسب بعض المصادر عاصمة سوريا الاقتصادية. فقدت اليوم الكثير من المعالم الأثرية والتاريخية بسبب المعارك والقصف، وتحولت الى مدينة أشباح يعمها الخراب والدمار بعد ان كانت قبلة للسياح من كل أنحاء العالم، وشكلت مدينة حلب منذ صيف العام 2012 مسرحا لمعارك مستمرة بين الجيش السوري والجماعات الإرهابية المسلحة المدعومة من دول وأطراف خارجية، والتي كانت تسيطر على الأحياء الشرقية منها، قبل أن يتمكن الجيش من استعادة السيطرة على معظم هذه المناطق.

وتسببت المعارك التي شهدتها حلب بتضرر اكثر من خمسين في المئة من البنى التحتية والابنية جزئياً أو كلياً، وفق ما ذكر مسؤول محلي. حيث اوضح مدير مدينة حلب التابع لمجلس المدينة نديم رحمون "هناك تقييم اولي للأضرار في كامل مدينة حلب يفيد بتضرر اكثر من خمسين في المئة" من الابنية والبنى التحتية مضيفا ان "التقييم الدقيق لا يمكن (تحقيقه) الا عندما نقوم بتغطية كل احياء المدينة". واعتبر ان هذه التقديرات تمثل "النسبة المتفائلة للأضرار".

وبحسب رحمون، فإن التقييم الاولي للاحياء التي استعادها الجيش "شمل البنى التحتية بشكل كامل بنسبة تزيد على سبعين في المئة". واوضح ان "الاضرار التي لحقت بالمباني والمؤسسات الادارية والمدارس تختلف من منطقة الى اخرى، اذ تخطت نسبة الضرر السبعين في المئة في بعض الاحياء ووصلت الى خمسين في المئة في احياء اخرى".

واستعاد الجيش السوري سيطرته على غالبية احياء حلب الشرقية بالاضافة الى اسواق المدينة القديمة التي تعود الى نحو اربعة الاف عام وتضم اكثر من اربعة الاف محل و40 خانا، لم تسلم بدورها من الضرر والاحتراق. واكد رحمون ان "ضرراً كبيراً لحق بهذه الأسواق ويصعب تقديره باعتبار ان حلب القديمة عبارة عن مدينة اثرية لا يمكن عكس قيمتها في رقم". وفي العام 2013، ادرجت منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) الاسواق القديمة على قائمة المواقع العالمية المعرضة للخطر.

ومنذ انقسامها شطرين، شكلت المدينة القديمة في حلب خط تماس بين الجيش ومقاتلي الفصائل. وطال الدمار مواقع تعود الى سبعة آلاف عام، بينها الجامع الاموي الذي تدمرت مئذنته العائدة الى القرن الحادي عشر. وطالت الاضرار ايضا قلعة حلب التاريخية رغم احتفاظ الجيش بسيطرته عليها.

حلب القديمة

على صعيد متصل فلن تجد في حلب القديمة اليوم من يعيد رثاء هذه المدينة أو يهديها أبيات شعر. فالحرب فيها وعليها طغت على تاريخ أبي الطيب المتنبي الذي أقام في الشهباء فمجّدها نثرا. آثار الدمار تغطي معالم التاريخ حيث لن يتذكر كل من تقاتل خلف جدران حلب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري مصنفا فيها تلك المدينة بجنة عدن ويمنح المغادرين لها نارا مستعرة .. "وفيها العظيم العظيم يكبر في عينه منها قدر الصغير الصغير".

لم يعرف المقاتلون تاريخ حلب أو أسواقها القديمة فرسموا على جدرانها تاريخا جديدا يؤهلها للاندثار بعد أن كان بنيانها يحاكي أعظم الأمم ويدخل الثراث العالمي. وفي جولة على حلب القديمة لا يمكن تمييز الركام من الدمار من الموت الذي كان هنا حيث ضرب معول الحرب الذاكرة والتاريخ والأسواق الاقتصادية حتى كأنه ينتقم من ضوضاء مدينة كانت قبل خمس سنوات خزانة سوريا ومصرفها المالي وشعاعها الاقتصادي ومركز ثبات ليرتها.

واستطاعت سنوات الحرب أن تدهس التاريخ وتدك الجغرافيا وألا تبقي حجرا على حجر وتدمر القاعدة التجارية لسوريا وتحرق أجزاء كبيرة من أسواقها وتمحو رموزا تاريخية فتدمر مئذنة الجامع الأموي الذي صمد منذ القرن الحادي عشر. وبدلا من أسواق المناديل والصابون والحبال يأخذك سوق الدهشة حيث الأنفاق وممرات المقاتلين والعبوات المتروكة على جانبي الطريق مع عبارات مكتوبة على الجدران الحجرية القديمة ومنها " طاب الموت يا حلب".

وعلى مقربة من الكنيسة الإنجيلية وقف "أبو محمد" وهو جندي في الجيش السوري يشرح لوفد من الصحفيين كيف سارت المعارك على مدى أربع سنوات في منطقة لا تفصل سوى أمتار قليلة عن المسلحين وقد بدت حفرة كبيرة في المكان. وقال أبو محمد إن المسلحين كانوا يحفرون الأنفاق ويفجرون تحتها عبوات ناسفة مما يتسبب في إحداث حفر ضخمة. وفي مقابل زحمة الأسواق اكتظت المدينة القديمة بالأنفاق التي وصل عمق بعضها إلى عشرة أمتار. وإلى جانب النفق يمكن العثور على أطباق من الأرز والعدس والملاعق وبدا أن احد المقاتلين قد ترك للتو طبقه الطازج وفّر على وجه السرعة تاركاً إلى جانب طعامه سجادة للصلاة وفراش نومه. ومما خلفه المقاتلون منجنيق لرمي العبوات الناسفة وما أطلق عليه مدفع جهنم وهو عبارة عن مدفع يدوي بصاعقين يطلق من منصته قارورة غاز.

وقد بدأ عدد من السكان النازحين بالعودة لتفقد منازلهم ومحالهم الأثرية التي يغلب عليها الطابع القديم لكن مهمتهم بدت شبه مستحيلة بالتعرف على ممتلكاتهم من بين الدمار. ويتنقل رجل خمسيني قال ان اسمه "شيخو" من مكان إلى آخر بحثاً عن طريق يوصله إلى أطلال منزله قائلاً "وجدت منزلي مدمراً. لم اعرفه. لقد محي أثره." وينظر محمد اللبابيدي إلى معمل خراطة الحديد الذي كان يملكه في حلب بحسرة لكنه يقول "محلي مدمر وعدتي موجودة والفضل لله والجيش والقائد." وأضاف "عندي محل طورنجي (خراطة حديد) لم آت إليه منذ خمس سنوات .. والله احترق قلبي وهذه أول مرة اسمع أنهم يسمحون للناس بالدخول فأتيت".

وحضر الفتى عبد الحميد موصلي مع جدته لتفقد منزلهما. يقول عبد الحميد (١١ عاما) استشهد والدي منذ أربعة شهور. أتى من تركيا ليأخذنا فقتل بقذيفة. نحن أربعة أولاد مع أمنا وأنا أكبرهم .. أعاننا الله". ويظهر التقدير الأولي لحجم الدمار أن هناك مناطق دمرت بنسبة سبعين في المئة وأخرى بنسبة خمسين في المئة وهناك مناطق أصابها التدمير الكلي مئة بالمئة. وقال مأمون عبد الكريم مدير عام الآثار والمتاحف في سوريا إن أضرار المباني الأثرية في حلب تعادل كل الأضرار التي لحقت في المدن التاريخية السورية. وأضاف "المشكلة أن جميع المعارك كانت تدور في مدينة حلب القديمة ولقد خسرنا أكثر من ١٥٠ مبنى تاريخي وآلاف من المحلات المتضررة أو المحترقة" وتابع "عندما يعود الأمان والسلام فان فرقنا جاهزة ولدينا العشرات من المهندسين والأثريين جميعهم مستعدين لتقييم الأضرار ووضع خطة لإعادة الإعمار بالتعاون مع اليونسكو طبعا."

وقال عبد الكريم "لقد حلت مصيبة بأسواق حلب والجامع الأموي والكنائس والمباني الأثرية المحيطة بالقلعة. وضع حلب هو أخطر وضع لحق بالبلاد خلال الأزمة السورية أو موقع اثري في سوريا." ودعا المجتمع الدولي للمساعدة في إعادة إعمار حلب "لان الحرب ستنتهي والدمار سيتوقف والأزمة ستنتهي لكن خسارة حلب التاريخية ستكون خسارة أبدية لكل سوريا وللإنسانية." وفي وسط المدينة القديمة عند ما يسمى بساحة الحطب بدا كل شيء كالحطب ما أذهل المدير السابق لمتحف حلب محمد بشير شعبان الذي وقف مذهولاً يتنقل بين الركام. بحسب رويترز.

قال شعبان "أتيت منذ سنة ونصف ولم تكن المنطقة على هذا الدمار. أنا مصدوم وحزين جداً ومتفاجىء من المشهد الذي رأيته .. دمروا الحضارة .. دمروا التراث .. دمروا الإنسانية." وأضاف "هنا كانت أجمل الدور العربية وأعرقها .. فيها خانات وحمامات أثرية. كله تم تدميره .. هذه الكنيسة الإنجيلية متضررة بشكل كبير." وتشكل سيطرة الجيش السوري على جزء كبير من حلب إحدى أهم المكاسب في الحرب التي اندلعت في سوريا عام ٢٠١١ وقتلت أكثر من ٣٠٠ ألف شخص وشردت ما يزيد على نصف سكان سوريا. وقالت وكالات أنباء روسية نقلاً عن وزارة الدفاع إن الحكومة السورية تسيطر الآن على ٩٣ بالمئة من حلب .

تاريخ جديد

من جانب اخر لم يكن الإسكندر الأكبر أو خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح أو البيزنطيون والمماليك والأيوبيون يدركون أن قلعة حلب التي خاضوا عليها أعتى الحروب وتحصنّوا في قلاعها سوف تدخل بعد خمسة آلاف عام تاريخاً آخر هو عصر الحرب السورية. وقلعة حلب هي إحدى أهم وأكبر القلاع في العالم حيث احتلتها حضارات عديدة وأقام بنيانها الأيوبيون ويعود تلها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.

وعلى مدى خمس سنوات من الحرب السورية تحولت القلعة إلى نقطة تماس على خط القتال إذ تحصّن الجيش السوري في داخلها من جهة وتمركز المسلحون في محيطها. ويقول العميد فواز إسماعيل خلال تفقده القلعة "كان كل جهدهم (المسلحون) أن يأخذوا القلعة ولو أخذوها لكان كل شيء خلص .. انتهت حلب." وقال أحد حماة القلعة من الجيش "كنا نحو 25 شخصاً نحمي القلعة. كنا نبّدل مع شباب موجودين في الأسواق عبر نفق تم حفره وعندما فجرّوا فندق الكارلتون شعرنا وكأن زلزالاً وقع في المكان .. لا تزال جثث شبابنا تحت الفندق."

وقلعة حلب في المدينة القديمة التي أدرجتها اليونسكو على لائحة مواقع التراث العالمي عام 1986. وقد سبق هذا التصنيف العالمي تشييد مدرج على سطح القلعة يتسع لحوالي ثلاثة آلاف متفرج فيما يرجّح أحد الباحثين وجود آثار رومانية تحت هذا المدرج الحديث الذي لم ينقبّ فيه من قبل. ويضيف العميد فواز أن القلعة بقيت طوال الحرب تحت سيطرة الجيش السوري ويقول "القلعة اليوم بشكلها العام مقبولة وان كانوا رموها بالنار كثيراً .. حامية الموقع كانوا في الداخل طوال الوقت."

وخاض الجيش السوري حربا شرسة لحماية القلعة معتبرا ًأن سقوطها سوف يعني سقوطاً مدوياً لكل المدينة لكون القلعة تشرف من تلتها العالية على حلب بشكل دائري. وقال جندي من الجيش السوري من قوة حماية القلعة "حاول المسلحون السيطرة عليها مرات عدة خلال الهجمات من محيط القلعة وأكثر من ثلاث مرات تسللاً عبر الأنفاق ولكن محاولاتهم باءت بالفشل بفضل صمود حامية هذه القلعة." ودارت معارك ضارية منذ اليوم الأول لدخول المسلحين المدينة وغيرّت معالم أسواق المدينة القديمة والمقاهي التي كانت منتشرة بكثرة أمامها.

وخلّفت عشرات التفجيرات والهجمات دماراً كبيراً حيث كانت المجموعات المسلحة تسيطر على معظم الأسواق وكان الجيش السوري يعتمد على الأنفاق للوصول إلى داخل القلعة ونقل المؤن والإمدادات والذخيرة لقواته المتحصّنة في داخلها لأكثر من أربع سنوات. وتعتبر القلعة واحدة من المعالم السياحية والدراسات الأثرية وكثيراً ما يستخدم مدرجها لإقامة الحفلات الموسيقية والفعاليات الثقافية. لكنها في شهر أغسطس آب من عام 2012 وخلال أحداث معركة حلب تعرضت لبعض الأضرار لاسيما عند بواباتها الخارجية نتيجة اشتباكات بين الجيش السوري ومسلحي المعارضة في محاولة للسيطرة عليها.

وقد أجرت مؤسسة آغاخان للثقافة والجمعية الأثرية في حلب عمليات حفظ واسعة عام 2000 لمعظم مقتنياتها الأثرية وبينها البوابة المحصّنة التي يمكن الوصول إليها عبر الجسر المقنطر. وهذه السمة كانت من إبداع المماليك في القرن السادس عشر. ومن الأجزاء التي تحبس الأنفاس في القلعة قاعة الأسلحة والقاعة البيزنطية وقاعة العرش ذات السقف المزين المرمم حيث تعتبر القلعة مثالاً للهندسة العسكرية العربية وقد شبّهتها الكاتبة والرحالة الأثرية جرترود بل بالفنجان داخل صحنه.. حيث الفنجان هو القلعة والصحن هو مدينة حلب.

وترتفع القلعة عن مستوى المدينة حوالي 33 مترا فوق تل بيضاوي الشكل يحيط بها سور حجري فيه 44 برجاً دفاعياً من مختلف الأحجام بطول يصل إلى 900 متر وارتفاع حوالي 12 متراً. وقال مدير عام الآثار في سوريا مأمون عبد الكريم إن الوضع في القلعة جيد بالمقارنة مع ما حدث في حلب من هول ودمار. وأضاف "هناك أضرار لكنها أضرار تحت السيطرة. الوضع جيد داخل القلعة لكن المصيبة هي في أحياء حلب القديمة حيث توجد أضرار حقيقية .. هناك مأساة ستحتاج إلى الكثير من الوقت والأموال وحكماً سوف تحتاج الى تعاون دولي كون حلب مدرجة على لائحة التراث العالمي."

وفوق بقايا فندق الكارلتون نبت العشب البري وقد سُمح للمواطنين للمرة الأولى بدخول القلعة وتفقد أثارها فيما عمد مسؤولون سوريون إلى تفقد الأضرار وعملت الجرافات على إزالة السواتر الترابية التي أقفلت الطرقات في الأسواق القديمة وصولاً إلى الجامع الأموي. وعلى مدخل القلعة علقت صورة للرئيس بشار الأسد ذيلّت بعبارة "حلب في عيوني". وأمام مدخل القلعة علقت صور للمدينة القديمة كتب تحتها "لأجل من رحلوا". وجلست مجموعة من عناصر الجيش السوري على مدرج القلعة الأثري لأخذ قسط من الراحة فيما عمد زملاؤهم إلى إشعال بقايا الخشب والتدفئة وشرب المتّة أمام خان الشونة الأثري. بحسب رويترز.

وقال جندي سوري وهو يضع الخشب في حاوية "كنّا هنا في عملية فك الحصار .. كنّا في كر وفر .. نتقدم خطوة ونعود خطوتين إلى أن استطعنا تحرير المدينة وتوحيدها." وعلى مقربة كانت عجوز تتجول في القلعة وهي تتمتم بحرقة "حسبي الله ونعم الوكيل". وقال محافظ حلب حسين دياب بينما كان يتفقد المنطقة "سنبدأ بإعادة إعمار ما دمرته يد الاٍرهاب. حجم الأضرار كبير وسنبدأ بإعادة الترميم والتأهيل إن شاء الله."

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي