لِمَاذَا الْحَربُ أَيُّهَا الْعُقَلَاءُ؟

نظرة خاطفة من تاريخ الصراع الإنساني

الشيخ الحسين أحمد كريمو

2020-04-22 10:32

نظرة في الجذور

لو راجعنا صفحات التاريخ الإنساني بنظرة فاحصة لوجدنا مَنْ يصفه من عُشاق الخلاف والقتال؛ بأنه تاريخ النزاع، والصِّراع، والحروب، منذ آدم (ع) حيث وقعتْ أوَّل جريمة، وخصام نتج عنها قتل الشَّقي قابيل، لأخيه التَّقي هابيل (ع)، قال تعالى: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة: 30)

وهؤلاء يقولون: أن من هناك بدأت قصَّة الصراع بين البشر فهي سُنَّة منذ بداية الخلق، ولا نملك لها تغييراً وتبديلاً بل علينا تغيير أساليبها وطرق الصراع بما يتلاءم، ويُحقق الأهداف المرجوَّة من الحب والصراع لصالحنا، وقتل أو لا أقل من كسر عدوِّنا، وهذا إذا لم يذهبوا إلى قصة آدم وإبليس في الجنَّة، حيث بدأت من الله حين أمر إبليس الناري، بالسجود لآدم الترابي، فأبى واستكبر، (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (الأعراف: 12)

النظرة السلبية التدميرية

وهؤلاء للأسف نظروا إلى الجانب السلبي، وأخذوا طريق قابيل القاتل المجرم، فصار لهم قدوةً سيئة في حياتهم، وأسوةً لهم في تصرفاتهم، فتمثَّلوا دور قابيل القاتل المجرم، وراحوا يمارسون القتل ويُطوِّرون أسلحته، وطرقه، وأساليبه، وكلها من أجل القتل أكثر، والإبادة الجماعية، والتأثير الأكبر على البشر، حتى صنعوا أنواع وأشكال الأسلحة، إلى أن اكتشف (ألفرد نوبل) البارود، فنقل هذا الاختراع العالم من زمن الصراع بالأسلحة البيضاء، إلى القتال بالسلاح الناري.

وراح الجميع يتسابقون في صناعة الأسلحة الفتاكة، والأسلحة المضادة والحامية منها، فصار سلاح للهجوم، وآخر للدفاع، وتطوَّرت الجيوش فصار لكل نوع سلاح، في البر، والبحر، والجو، وحتى أعماق الفضاء، وأعماق المحيطات، وفي القرن العشرين خاضت البشرية حربين عالميتين يفصل بينهما ثلاثة عقود فقط، ولم تنته الحرب العالمية الثانية إلا بتغيير قواعد الصراع باختراع سلاح جديد لا يُبقي ولا يذر إنه السلاح النووي، والدَّمار الشَّامل وكان هذا في الجيل الثالث للحرب.

وهكذا راحوا يُطوِّرون بهذه الأسلحة التي تُبيدُ كل شيء، وتحرقُ الأخضر واليابس، حتى وصلوا إلى الجيل الرابع وهو (التدمير والفناء الذاتي)، وذلك بسبب الخسائر الكبيرة التي تكبَّدوها في الأرواح من جنودهم في الحروب التي نشروها في الكرة الرضية لتهيئة الأسباب للهيمنة الأمريكية، والسيطرة على مقدرات العالم بإمبراطورية الشَّر العالمي، فتفتَّقت أفكار علماءهم اليهود وأبناء الماسون العالمي، على نظريات كـ(صدام الحضارات)، و(نهاية التاريخ)، لتبرير التدخل في شؤون الدول كافة وفرض رأيها بالقوة، وإلا فأنت ضد الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وكل هذه الأسطوانات الكاذبة التي يُرددونها على أسماع العالم حتى ألفها.

ولذلك جاؤوا في بداية هذا القرن بنظرية (الفوضى الخلاَّقة) من الأرملة السَّوداء، وهي نظرية شيطانية تماماً، لأنها مخالفة للمنطق والعقل ورغم ذلك سوَّقوها على الأمم والشعوب بقوة الإعلام والإعلان الكاذب الدَّجال، وراحوا يمارسونها في منطقتنا اعتباراً من العراق الجريح، فجمَّعوا كل قوى الشَّر في العالم ليُدمِّروه، ولم يسمحوا له إلى اليوم بحكومة عراقية لبناء دولة قوية، ولكن متى، وكيف يبنوه؟ هذا السؤال الذي ليس له جواب، لأن الفوضى تهدم، وتدمِّر، وتخرِّب، ولا تبني، وتعمِّر، وتصنع حضارة في العراق أبداً، وواهم مَنْ ينتظر من أمريكا بناء عراق قوي.

ثم امتدت يد الغدر والفوضى إلى تونس، وليبيا، وسوريا، واليمن، وذلك من أجل تدمير البلدان بنفسها، وبأيدي الجُهَّال من أبنائها، الذين وثقوا بالوهابية المجرمة، وبوعود أمريكا الكاذبة، كل ذلك بتسويق، ودفع، وتجميع، وتمويل من القوى التكفيرية وقطعان الظلام الصهيووهابية المجرمة، وكل ذلك لضرب الدول في الطوق العربي المحيط في فلسطين المحتلة خدمة للصهاينة، ولترسيخ وجودهم في المنطقة، فكل النظريات المخترعة من (نهاية التاريخ)، و(صراع الحضارات)، و(الفوضى الخلاقة)، وأخيراً (التدمير ثم البناء)، ليظهر للعالم وكأنه الاتجاه الوحيد والإجباري للعالم أجمع وللإنسانية كلها، وكان ذلك الجيل الرابع للحرب في فلسفتهم.

وها نحن نرى بوادر الجيل الخامس من الحرب الإمبراطورية -الأمريكية، أو الصينية- وهي الحرب (البيولوجية الجرثومية) تلوح في الأفق منذ بداية ظهور هذا الفيروس اللعين (كورونا) الذي مازال يفتك بالبشر في كل مكان على الكرة الأرضية، فأظهر الوجه القبيح جداً واللاإنساني للحضارة الغربية، كما أنه أنذر وبقوة من الحضارة الرقمية الصاعدة من الشرق (الصين) بالتحديد وأنها لن تقلَّ خطورة من سابقتها، فكلاهما حوَّلوا مفهوم الحضارة من أن تكون خادمة للإنسان، وباحثة عن راحته وسعادته، لتكون هي السيدة والكل خادم لها وقمة الإنسان بما يُقدِّم من خدمات فيها ولها، فصارت الحضارة غاية، والإنسان آلة مسخَّر لخدمتها للأسف الشديد.

الاتجاه الآخر الإيجابي

ولكن في كل عصر ومصر عقلاء، ولا بدَّ من وجود حكماء أيضاً، فالمنطق السَّليم والعقل الواعي يقول: أنه لدينا اتجاه آخر معاكس تماماً لذاك الاتجاه السلبي الذي يدعو للقتل والتدمير وأجيال الحرب، وهو موقف هابيل (ع) المسالم الذي وصفه لنا ربنا سبحانه: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (المائدة: 28)

ويُؤيده موقف آدم وحواء (ع) الإيجابي حيث لم ينتقما ويقتلا القاتل المجرم الظالم لأخيه ولهما بقتل ولدهما البار الصَّالح، هذا هو الموقف الإيجابي في الحياة، موقف السَّلام، فالحرب حالة استثنائية – كما يقول السيد الإمام الشيرازي الراحل – والأصل في الحياة السلام، الذي يدعوا إلى الحب والود، والتعارف، والعيش المشترك بين البشر، كما أمر الله تعالى الجميع: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)

فالرَّب خلقنا لنتعارف لا لنتعارك، ولنتصالح لا لنتخاصم، ولنتسالم لا لنتقاتل فيما بيننا، وهذه هي لبُّ، وأصل دعوة السَّماء لأهل الأرض، وهي خلاصة دعوة جميع الأنبياء والرسل الكرام (ع) للبشر، ولكن البشر مازالوا يقتدون بإبليس وقابيل، ويُهملون دعوات جميع الأنبياء والأوصياء والأولياء وهي لما فيها خير الإنسانية جمعاء.

ظاهرة الحرب هي الأسوء في تاريخ البشر

يقول السيد الإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله) في كتابه الرائع (الصياغة الجديدة لعالم الرفاه): "الحرب أسوأ شيء عرفه الإنسان في تاريخه الطويل، لأنها توجب قتل الإنسان ونقص أعضائه، وفقد قواه وتشويهه، كما توجب هدم العمران، وإثارة البغضاء والشحناء بين البشر، وإيراث الأجيال العُقد النفسية، وأيضاً تُسبب إلقاء المقاتلين في أسر الحرب، ولذا يكون من اللازم تجنب الحرب بأية قيمة، وإذا اضطر الإنسان إلى الحرب - لأن عدوه جرَّه إليها - كان الواجب أن يقتصر فيها على أقصى درجات الضرورة.

وكذلك اللازم على البشر عامة أن يضعوا حداً للحروب نهائياً حتى لا تقع في المستقبل.

الحرب ظاهرة مرضية

والحرب وإن كانت ظاهرة منذ القديم، بل قيل: أنها مؤيدة من قبل القران الحكيم في الجملة، حيث قال سبحانه: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة: 251)

بل قال البعض: بأنها مظهر من مظاهر (تنازع البقاء) الذي هو وصف طبيعي ملازم لجميع الكائنات الحية لا ينفك عنها، وإنه سُنّة من سنن الاجتماع البشري إلا أن اللازم الحيلولة دون وقوعها، فإن المرض أيضاً ظاهرة بشرية منذ القدم، وكذلك احتراق المدينة، أو الدار، أو الدكان، وكذلك جرف السيل، وسائر العوامل الطبيعية التي تؤذي الإنسان، لكن كل ذلك لا يجعل من الحرب أمراً لا بدَّ منه، فليست الحرب حقيقة أولية، وإنما هي ظاهرة ثانوية تقع بسبب شراسة بعض الأفراد.

ولذا قال جماعة من العلماء: إن الحرب في ذاتها قبيحة لما فيها من قتل النفوس والتخريب والتدمير، وقد قال سبحانه مؤيداً لذلك: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)

فإن الظاهر من هذه الآية أن القتال لو كان أمراً طبيعياً لما قال سبحانه: (وهو كره لكم).

فالحرب ظاهرة اجتماعية تمليها الغرائز الفاسدة وليست أمراً طبيعياً في البشر". (الصياغة الجديدة لعالم الرفاه والحب.. السيد محمد الشيرازي: ص246)

ومن هذا المنطلق الرِّسالي، نسمع في كل يوم أصوات من مراجعنا الكرام، وعلمائنا الأعلام، وهم في الحقيقة والواقع صوت العقل، والمنطق، والسماء، ورسالة الأنبياء (ع) في هذه الأرض المنكوبة، وهذه الأيام العصيبة، من حياتها في هذه الظروف الاستثنائية، بمواجهة هذه الجائحة العالمية (كورونا)، حيث يُوجِّهون العالم للعودة إلى صوت العقل وتحكيمه، والضمير وإيقاظه من ثباته وغفلته في البشر ليرجعوا إلى الله، وإلى الفطرة السَّليمة وينادوا بالعيش المشترك قبل الفناء الشامل في ظل الحروب وظاهرتها المتنامية باطراد وبأشكال وأنواع جهنمية فتاكة.

على العقلاء والمفكرين أن يوجِّهوا العالم –خصوصاً المتنفذين من القادة والسَّاسة– إلى ضرورة التوجُّه لصانعة الخير، والحب، والود، والتلاقي، والتعارف بين البشر كلهم جميعاً لأن المصير واحد في ظل هذه العولمة التي جعلت العالم مدينة صغيرة، وملأتها فساداً، فلربما حقَّت عليها كلمة العذاب من باريها –لا سمح الله– فعلى الجميع الاشتراك الفعَّال، والمساعدة في إنقاذ نفسه، وشعبه، والجميع من هذا المصير الأسود لكل البشر.

إنها دعوة السماء وجهها العلماء، لأهل الأرض محذِّرين مما هو أبشع، وأشنع، وأفظع على كل المستويات، فكلنا في سفينة واحدة، فإما يغرق ويهلك الجميع، وإما ينجوا الجميع أيضاً، ولا أحد يظن أنه يستطيع أن ينجو بنفسه كابن سيدنا نوح (ع) كما قال تعالى: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (هود: 43)

لماذا صناعات الحرب؟

في هذه الأيام الكورونية التي فضحت قوى الاستكبار العالمي، وجشع الحكام فيها، لا سيما النيوليبرالية بقيادة الإمبراطورية الأمريكية، فظهروا أنهم عديمو الإنسانية في تصريحاتهم، وتصرفاتهم، لا سيما حديثهم عن ثقافة (القطيع)، عندما طرحوا بلا إنسانية: ليموت كل مَنْ هو فوق سن (65) لأنه عبء عليهم وعلى حكوماتهم، ولا أدري كيف حكموا بذلك وجميعهم فوق هذا السن، ولكنها بيَّنت للعالم أجمع ثقافتهم، وفكرهم الذي مازال يحكمهم كقطيع ورعاة بقر (كوبوي).

ونتساءل مع العقلاء: لماذا يصنِّعون حاملات طائرات عملاقة (جون كندي) تحمل خمسة آلاف مقاتل وجميع أنواع الأسلحة والدمار بحيث تستطيع أن تُدمِّر أي منطقة على وجه الأرض بدقائق معدودة، وتُكلِّف المليارات من الدولارات، ولا يحوِّلونها إلى مشفى عالمي عائم ومتنقل، يحمل الأطباء والدواء على متنها لتساعد البشر على الحياة في كل العالم؟

لماذا صناعة كل هذه الأسلحة للدمار العالمي، والفناء البشري، والفساد الكوني، ولا نفكِّر بإيجابية في حياتنا جميعاً على سطح الكرة الأرضية، وذلك برفع مخصصات البحث العلمي الطبي والتامين الصحي للبشر، وتأسيس مراكز أبحاث عالمية مهمتها البحث عن الأمراض المستعصية كالسرطانات، والسيدا، وغيرها، والمساعدة في تقديم العلاج والدواء حتى الشفاء مجانياً، وكذلك لدراسة حالات الأوبئة والتنبؤ بها والتحضير لها كما يجب، من لقاحات، وأجهزة وقائية، وكشفية واستشفائية مجانية، تُقدَّم لجميع البشر فنصنع الحياة ونشارك في تقدمها وتطورها، ورفاه وسعادة الإنسان فيها.

إنها دعوة الإسلام الحق للسلام والسلم العالمي، فهل يسمع الناس –ولا أظنهم يفعلون– لأن قوى الشَّر العالمي هي الفاعلة فيه الآن، وهي القوى الشيطانية التي تُريد تدمير العالم ليظهر مخلصهم الموعود، لأنهم يعتقدون أنه لن يظهر إلا على الأنقاض، والحرق، والتدمير، هكذا هو (رب الجنود) في التوراة، يعشق القتل، وسفك الدماء الآدمية البريئة، ولكن على عقلاء العالم أن يوقفوهم عند حدِّهم.

ذات صلة

التنمية المتوازنة في نصوص الإمام علي (ع)أهمية التعداد السكاني وأهدافهالموازنة في العراق.. الدور والحجم والاثرفرصة الصعود في قطار الثقافةموقع العراق في سياسة إدارة ترامب الجديدة