كفوا الايادي عن بيعة البغدادي

نقد وتحليل كتاب

هشام الهاشمي

2019-03-31 06:25

المراجعات والتراجعات الفكرية معروفة في تاريخ الحركات الدينية المسلحة ورجالها قديما وحديثا وهي على قلتها نسبيا تظهـر عـادة في فـترات الهزيمة وضعف اليقين وعند عدم القدرة على تحمل مشاق الصراع، منها مرحلة المراجعات الفقهية الشكلية وليس العقائدية الفلسفية، ضمن ما يعرف بحب الرياسة او شهوة السلطة او حسد الاقران، وقد تجمع بـين أزمتـين: فقهية دينية واخلاقية سلوكية.

وتلك الظـاهرة هـي حالـة تعـبر عـن قلـق وانشـغال وبحـث عـن التبرير الفقهي النصي والاخلاقي معا، فتنتج عنها غالبا تمرد وافتراق فقهي وعداوة شخصية تظهـر آثارهـا عـلى أصـحابها بمظـاهر مختلفة منها النقد الديني وردود فعل متباينة، وقد تحدث لهـم معارك ميدانية إذا طالـت واشـتدت وكانـت مصحوبة بأنصار ومؤمنين وتدخل خارجي، واقتصاد واعلام وحاضنة.

اسـتهل أبو محمد الهاشمي كتابـه "كفوا الايادي عن بيعة البغدادي" بتحديـد دافـع إنجـاز هـذا الكتاب المتكون من ٢٣١ صفحة، مـبرزا أنه بسـبب التوحش الذي يتميـز به تنظيم داعش وسيطرة الغلاة من العراقيين على اللجنة المفوضة رأس الهرم التنظيمي والمتحكمين بالقرار أمثال أبو محمد فرقان وأبو يحيي الجميلي وعبد الناصر قرداش وحجي عبد الله العفري وأبو زيد العراقي وأبو لقمان الرقي، المتبنين لمذهب الحفاظ على الخليفة اهم من الحفاظ على الخلافة، (البغدادي إبراهيم عواد البدري) وهذا مذهب فيه مخالفة واضحة لسيرة الزرقاوي وأبو عمر البغدادي والمهاجر وابن لادن وعطية الله الليبي، وهو خلاف مذهب قادة القاعدة في العراق وليد الجبوري والحلبوسي وحسام اللامي، حيـث تقـدم مبدأ الحفاظ على شخصية الخليفة على غيرها من شخصيات الخلافة بوصفهـا الأهم والوحيـدة لتسـيير الشـأن الإداري والقيادي والديني والسياسي والمجتمعـي لتنظيم الدولة، دونمـا أي منافـس لها أو بديل، والسـؤال عن أهلية البغدادي ( ابن عواد) لمنصب الخليفة؟ وحاول تشـغيل الوعـي النقـدي عند من يهتم لكلماته او من يثق به ويستمع له، لبحـث شروط ومبادئ من يتولى هذا المنصب وتطبيقاته في كتب التاريخ والفقه والاحكام السلطانية والسياسة الشرعية، بالنسبة لعضو مركز الإفتاء والأبحاث التابعة لقيادة تنظيم داعش ضرورة ملحـة نابعـة لتبرير انشقاقه وصناعة أكثرية موافقة له؛

وقـد اعتمد في منهجيـة الكتاب على مبدأين: - أولهـما: قص حكايات التوحش والغلو، التي شهدها بنفسه او سمعها عن الموتى من المشاهير في قيادات التنظيم وأحيانا يعزز ذلك بشهادة المجاهيل والخصوم، وهـو الراوي الوحيد لذكرياته ولرؤيتـه النقديـة في جميع صفحات الكتاب، وفي الغالب ينزه نفسه عن الغلو والارجاء ويتحدث بمثالية عن نفسه ومعيته وشيوخه، وكأنه ينتمي الى مدرسة الجرح والتعديل المثالية، والتي تعتمد على مقاربة نقدية تتناول التعاريف المفاهيمية وصحيح الرواية للكشـف عـن زيـف مزاعم صحة البيعة للبغدادي ( ابن عواد).

- ثانيهـما: نقـد يرتكـز عـلى المقاربـة الفقهية بين فيها أوجه اسقاط أهلية البغدادي لمنصب الخليفة من حيـث هـو نظـام اداري ديني يحتاج الى مفتي مجتهد.

وختـم المؤلف مقدمـة كتابتـه بالإشـارة إلى النتيجـة المتوخاة منه، وهي الدعوة إلى تحريـر المقاتل التكفيري مـن بيعة شخص البغدادي وليس الفكر التكفيري ودولة الخلافة والسلوك المتوحش العنيف بالضد من الاخر المغاير، وذلـك من صميـم ايمانه بالحركة الثورية الإسلامية، وحاول ان يفرق بين دعوته ودعوة الخوارج بتأويل للنصوص وتوظيف للفتاوي والاثار الفقهي بحسب النسق الديني الذي ينتمي إليه، نحو خلافة مثالية.

في دلالة مفهوم الخلافة: انطلاقـا مـن الجـدل المصاحب للمذاهب الفقهية الدينية، والذي لا يقتصر عـلى اقوال جمهور العلماء، كونها منصب إجرائي اداري تنظيمي، او قضية دينية شرعية من شرائع الدين الواجب، ومـع انهيـار تنظيم داعش عسكريا في ارض الخلافة وخاصة بعد هزيمة الباغوز في شرق نهر الفرات من جهة سوريا، أعلن المؤلف مذهبه في تفسيق البغدادي وكل قيادات الصف الاول ومجلس الشورى واللجنة المفوضة وولاة الدواوين عدا العدناني والانباري والبنعلي والقحطاني وأبو عبد البر الكويتي، واخرين توقف عن الجزم بتفسيقهم ولكن ذمهم بطريقة محتشمة.

واعتـبر المؤلف أن القـراءة الجهادية لنشـأة فروع القاعدة في العراق تمكـن في نشر التوحيد واحياء الحكم بما انزل الله وجهاد الاخر المخالف الـذي يخلـع عليهـا بوصفهـا حركـة جهادية طهورية، باعثهـا هـو تقرير توحيد الحاكمية وتوحيد الطاعة للكتاب والسنة فقط، بينـما هـي في تنظيم داعش كما يرى المؤلف هي لتقرير طاعة القيادات وصولا للبغدادي حتى مع المخالفة الصريحة للكتاب والسنة، وهذا الأصـل الذي تعمل عليه اللجنة المفوضة، حيث قامـت بتوظيـف هذه النماذج واسـتغلالها عـلى نحو يناسـب شرطهـا في الحفاظ على كارزمة ورمزية الخليفة، وبـدا لـه أن أغلبية الكتابـات والأبحاث التي عمل عليها أبو حمزة الكردي وأبو يحيى الجميلي وأبو زيد العراقي، المؤسسة لمنصب يشبه حكم المأمون العباسي، المؤرخة لخلافة إسلامية تتجاهـل شرط أهلية الخليفة، والتعريف بمنصب الخلافة ونمط البيعة.

تلك هي الخطوط العريضة التي توجز الأزمة الفقهية والاخلاقية التـي ألمـت بـالمؤلف بداية ونهاية.

ويلاحظ عليه أن سبب أزمته لم تكن الشك في منهج تنظيم الدولة ولا بعقيدته ولا بإعلان الخلافة ولا بتكفير الظواهر والجولاني ولا حتى بالتوحش في معاملة الاخر المختلف أو إنكار حقه بالوجود، ولهذا فهو لم يركز على إثبات وجود أخطأ في عقيدة ومنهج تنظيم الدولة في معاملاته مع الاخر وانما ركز في معاملاته المتوحشة داخل التنظيم وعلى المتعايش معه من المسلمين السنة.

وذكر تسعة أوجه لإسقاط بيعة البغدادي، رغم أهميتها في نشر غسيل البغدادي وتوحشه وفسوقه، لكن المؤلف اعتمد منهجا شاذا في ذلك، وهو خلاف مذهب جمهور الفقهاء وأيضا خلاف مذهب السلف واهل الحديث في التعامل مع فسوق الامراء.

ويبدو لي سببه أن المؤلف كان يبحـث عـن مثالية الخلافة عند تنظيم الدولة ورمزه البغدادي، فلم ينتقد سبي الأيزيديات وانما ذهب الى انه فعل خلاف الاولى، اهتم بهذا الأمر لأنه فقد ثقته في الهيئات الشرعية والقضاة والحسبة ومعاهد ومراكز التعليم الديني ان تقوم بالنصيحة والإصلاح داخل تنظيم الدولة، وعندما هرب من مناطق حكم التنظيم أراد ان يأتي بالإصلاح كما يشتهي المثالية، بعد نقده لقيادة الهيكل التنظيمي ولطـرق القضاة والحسبة والمعالجات التعليمية، وأقبل على العزلة كطريق وحيد عنده ليوصل إلى الشجاعة لنشر غسيل تفسيق البغدادي ومساعديه من القيادات.

ولهذا سمى كتابه الذي سجل فيه تمرده: "كفوا ايديكم عن بيعة البغدادي".

تجنب المؤلف الإشارة إلى لقائه بالبغدادي او بأحد قيادات اللجنة المفوضة، مكتفية بالحكايات عن الموتى والمجاهيل. ويبدو بأنه لا يستطيع اثبات اللقاء، على اعتبار أن فئة عضويته في مركز الإفتاء والأبحاث في تلك الفترة كانت لا تؤهله للقاء، أو أن الحس الأمني لدى المؤلف قد دفعه إلى إخفاء الحقيقة، يدون المؤلف نموذجا لما كانت تعانيه شريحة الدعاة والفقهاء وطلاب العلم الشرعي حيث اضطر كثيرون إلى ترك ارض الصراع وتوجهوا نحو الشمال فوصلوا إلى ادلب وتركيا والكثير منهم ذهب الى غرب افريقيا والمناطق المجاورة، ويذكر المؤلف كيف انتشر الغلو ويؤرخ لعمليات التمرد بإشارات يجعل لنفسه بها صفة البطل، وذكرت المؤلف بأنه أيده وسانده في هذا التوجه مجموعة كبيرة من المنظرين والدعاة، وقد أكدوا ضرورة الاستمرار في العمل الجهادي لكن بعيدا عن قيادة وامارة البغدادي، حيث لاحقا تأسيس بيعة جديدة، ربما يميل المؤلف الى الالتحاق بتنظيم حراس الدين او أي تنظيم قريب من قيادة سيف العدل او حمزة بن لادن، وبدأ المؤلف استقطاب الفئات المقاتلة من السلفية المبايعة للبغدادي، واستقطاب الشباب الراغبين باستمرار الجهاد.

فيمكن الاعتماد على قاعدة بيانات الأسماء التي ذكرها وتحديثها وتصحيح المعلومات الأمنية واكمال القصص والاعترافات القضائية غير المكتملة، ويبدو لي انه تعمد ذكرها بهذه السردية، ولا اظن انها أنها قد تكون نابعة من عدم علم “المؤلف” بالدور الأمني والاستخباراتي في ملاحقة هذه المعلومات والمدونات، خصوصا مع انقطاعه عن القريب عن التنظيم بفعل قربه واقامته في ارض الصراع وميادين القتال مع مجموعة من المجمدين على خلفية المشاركة في عملية نقد منهج تنظيم الدولة.

وقد قدم المؤلف من الأمثلة على نصاعة صورة ضعف شخصية البغدادي وقوة شخصية وحضور قيادات اللجنة المفوضة وسرد ما ورد في ذلك من مواقف من قضايا متعددة مثل قضية إقامة الحدود بالشبه والطرق المتوحشة في التعامل معها، إذ بين المؤلف أنه تعامل بحكمة مع الامراء او الولاة وكان يرى وجوب السمع والطاعة لهم ملتزما بالبيعة العامة، بخلاف كثير من القادة الميدانيين، وكان يفضل استنفاذ كافة الوسائل في التعامل معهم كمحاولة إقناعهم بضرورة تصحيح مسارهم، وتوجيه النصح إليهم، ومنحهم فرصا للتوبة قبل اتخاذ القرار بخلع البيعة والخروج عليهم، وهذا لا يتنافى مع شدته في الايمان بان ما تقوم به هذه القيادات من أفعال خارج التنظيم هو صحيح، وهو يسرد إيجابيات اعلان الخلافة ويفخر بكسر الحدود بين العراق وسورية، وبإحياء سنن الحدود التعزيرات وكأنه يشير الى القتل بالحرق والقتل بالإغراق وقطع الرؤوس والرجم والقتل بالرمي من أماكن مرتفعة والسبي.. وكأنه يتمنى ان يكون مع من شاركوا في احياء تلك السنن.

يتحدث “المؤلف” بفخر عن نجاح تنظيم الدولة بتصفية بعض مخالفيهم من الفصائل المسلحة في الرقة والموصل، ويتحدث عن قضية انتشار الفلتان والفوضى في بعض المناطق على يد بعض المجموعات ديوان الأمنية واقتحام البيوت على عناصر التنظيم ليلا بدون استئذان التي انتقدها وأدانها بشدة، وبين أن ممارسة البعض لأعمال انتقامية بحق عامة المقاتلين من الجنسيات غير العراقية- من أمثال المجموعات التابعة لتركي بنعلي، والتي اعتادت الأمنية على اعتقالهم ومصادرة أموالهم منهم عنوة وأحيانا قتل بعضهم بغير وجه حق، قد أضرت بهيبة الإدارة الشرعية وبالتنظيم.

ونظرا لأهمية تلك المرحلة من تاريخ تنظيم داعش، فإننا نتمنى أن تتهتم مراكز الدراسات الأمنية والمراكز الخاصة بمكافحة التطرف والإرهاب في دراسة النصوص التي استند لها المؤلف وتنمية الحجج الدامغات في ابطال بيعة البغدادي، والدعوة الى انشاء ببليوجرافيا خاصة بكل الأسماء التي تم ذكرها حيث أدلى بشهادة وافية عن بعضها.

فهل حقا أن المؤلف وصل إلى قناعة الخوارج بضرورة خلع البيعة وحمل السيف ضد الأمير؟ ألم يقـع في كبائر وذنوب لا تكفرها التوبة وخاصة القتل بالشبه؟ وتأكيده على تزكية عقيدة ومنهج القاعدة قبل الظواهري والبغدادي في بحثـه عـن المثالية أثناء أزمته مع أهلية خلافة البغدادي؟

وألم تلتـبس عليـه الأمـور في فهم وتوظيف النصوص بجواز الخروج على الحاكم المسلم، واختياره لطريق الجهاد هو الحل؟

وهل كان منهجـه في الرواية عن المجاهيل والموتى صحيحا قائما على شروط الرواية والشهادة الفقهية والحديثية؟

وهـل اعتصـم بـالكتاب والسنة بفهم الفقهاء الثقات وتمسك بهم أثناء تراجعه عن بيعة البغدادي؟

وهل التراجع والكف عن بيعة البغدادي سوف ينقذه مـن الضـلال والتبعيات الدينية والقانونية والأخلاقية؟

* هشام الهاشمي، كاتب وباحث عراقي مختص بشؤون الجماعات الإسلامية، عضو ملتقى النبأ للحوار

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي