أغلبية البائسين

بروجيكت سنديكيت

2016-11-15 09:05

جان فيرنر مولر

 

فيينا - كان باراك أوباما على حق حين قال إن الديمقراطية نفسها كانت على المِحك في الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة التي انتهت مؤخرا. لكن الآن، بعد الانتصار المذهل لدونالد ترامب على هيلاري كلينتون، هل نحن متأكدون أن غالبية الأمريكيين يُعادون الديمقراطية؟ كيف ينبغي أن يتعامل ناخبوا كلينتون مع أنصار ترامب والإدارة الجديدة؟

على الأرجح لو فازت كلينتون، كان ترامب سينفي شرعية الرئيسة الجديدة. لا ينبغي لأنصار كلينتون أن يشاركوا في هذه اللعبة. قد يشير هؤلاء أن ترامب خسر التصويت الشعبي، وبالتالي لا يستطيع أن يزعم أنه حصل على تفويض ديمقراطي ساحق، لكن النتيجة تبقى على ما هي عليه. على كل حال، لا ينبغي عليهم الرد على الهوية السياسية الشعبوية لترامب في المقام الأول بهوية سياسية مختلفة.

بدلا من ذلك، يجب على أنصار كلينتون التركيز على طرق جديدة لمناشدة مصالح أنصار ترامب، مع الدفاع بحزم عن حقوق الأقليات التي تشعر بالتهديد من قبل برنامج ترامب. كما يجب أن يفعلوا كل ما بوسعهم للدفاع عن المؤسسات الليبرالية الديمقراطية، إذا حاول ترامب إضعاف الضوابط والتوازنات.

لتجاوز العبارات المبتذلة المعتادة حول إصلاح الانقسامات السياسية في بلد ما بعد الانتخابات المريرة، نحن بحاجة إلى فهم كيف ناشد ترامب، الشعبوي اللدود، الناخبين وكيف غير من مفهومهم السياسي الذاتي في هذه العملية بالضبط. من خلال الخطاب الصحيح، وفوق كل شيء، يمكن للبدائل السياسية المنطقية أن تغير مفهوم الذات مرة أخرى. واليوم، لم يفتقد أتباع ترامب الديمقراطية إلى الأبد، ولو دعتهم كلينتون "بالميئوس منهم" (فقد كانت على حق لأن بعضهم عازمون على الاستمرار في عنصريتهم، وهم مريضون نفسيا، وكارهون للنساء).

أدلى ترامب بالكثير من التصريحات الهجومية للغاية والكاذبة بشكل واضح خلال هذه الحملة الانتخابية حيث لم يلاحظ أحد تماما الجمل المكشوفة. ومن خلال تجمع كبير في مايو، أعلن ترامب أن "الشيء الوحيد المهم هو توحيد الشعب، لأن الآخرين لا يعنون شيئا." هذا يدل على خطابه الشعبوي: هناك "أناس حقيقيون"، كما صرح، هو فقط من يمثلهم بأمانة، والآخرون يمكن -بل ينبغي- أن يتم استبعادهم. وقد سبق وأن تم تداول هذا النوع من الخطاب السياسي من قبل شخصيات مختلفة مثل الرئيس الفنزويلي السابق هوغو شافيز، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

لاحظ ما يفعله الشعبوي دائما: يبدأ بوصف رمزي للشعب الحقيقي، الذي من المفترض أن يستنتج حقيقة واحدة من ذلك الوصف؛ ثم يدعي، كما قال ترامب في مؤتمر الحزب الجمهوري في يونيو: "أنا صوتكم" (وبدون تواضع، أضاف: "أنا وحدي من يستطيع إصلاح الأمور"). هذه عملية نظرية تماما: على عكس ما يقوله المؤيدون الشعبويون في بعض الأحيان، ليس لذلك أية علاقة بالمساهمات الفعلية من الناس العاديين.

وجود ناس فرادى ومتجانسون الذين لا يرتكبون أي خطأ ويحتاجون فقط لممثل حقيقي لتنفيذ إرادتهم بشكل صحيح هو شيء من الخيال - لكن هل يمكن للخيال حل المشاكل الحقيقية؟ سيكون من الخطأ الاعتقاد أن فنزويلا وتركيا كانتا من الدول الديمقراطية التعددية المثالية قبل مجيء شافيز وأردوغان إلى الحكم. وتمثل مشاعر الحرمان والتهميش أرضا خصبة للشعبويين. في فنزويلا وتركيا، كان عدد كبير من الناس محرومين منهجيا أو مستبعدين من العملية السياسية بشكل كبير. هناك أدلة قوية على أن الفئات ذات الدخل المنخفض في الولايات المتحدة ليس لديها تأثير على السياسة وتعتبر غير ممثَلة بشكل فعال في واشنطن.

مرة أخرى، لاحظ كيف يستجيب الشعبوي لموقف مثل هذا: بدلا من المطالبة بنظام أكثر عدلا، يدعي أن المضطهَدين هم في الواقع "الشعب الحقيقي". ويفترض أن تحُل المطالبة بالهوية المشكلة بعد إهمال مصالح الكثير من الناس. ويمكن القول أن المأساة الحقيقية في خطاب ترامب تكمن في أثره الخبيث - وقد أقنع العديد من الأميركيين على أنهم جزء من الحركة الوطنية البيضاء. وحضر ممثلون لما يسمى مجازا "ببديل اليمين" -العرق الأبيض العصري– بقوة في حملته الانتخابية. وقد أجج شعورا بالظلم المشترك لدى الأقليات المُهانة، ومثل كل الشعبويين، صور ترامب الأغلبية كضحايا الاضطهاد.

لم يكن من الضروري أن تنتهي الانتخابات بهذه الطريقة. لقد قدم ترامب بشكل واضح مطالب ناجحة لتمثيل الشعب. لكن هذا التمثيل ليس مجرد استجابة ميكانيكية للمطالب الموجهة مسبقا. فالمطالبة بتمثيل المواطنين أيضا تشكل مفهومهم الذاتي. ومن المهم أن نبعد هذا التصور الذاتي عن سياسة الهوية البيضاء والعودة إلى عالم المصالح.

لذلك نجد أنه من الأهمية بمكان عدم تأكيد خطاب ترامب برفض أو إعلان عدم أهلية أنصاره حتى من الناحية الأخلاقية. هذا سيسمح للشعبويين بتسجيل نقاط سياسية أكثر بالقول: "أرأيت، النخب حقا يكرهونك، كما قلنا، والآن هم خاسرون سيئون". وبالتالي من الخطأ اعتبار أنصار ترامب عنصريين، كما وصفتهم هيلاري كلينتون، بـ"البائسين" و"الميؤوس منهم". وكما قال جورج أورويل في إحدى المرات : "إذا كنت تريد أن تجعل من رجل عدوا، قل له إن مرضه مستعصي".

وبطبيعة الحال، غالبا ما يتم ربط الهوية بالمصالح. فالذين يدافعون عن الديمقراطية ضد الشعبويين أيضا يجب عليهم في بعض الأحيان أن يتركوا جانبا سياسة الهوية الخطيرة. لكن ليس من الضروري أن تتطلب سياسة الهوية مناشدة العرق. ويعادي الشعبويون دائما التعدديين، لكن المهم بالنسبة لأولئك المعارضين هو صياغة مفاهيم الهوية الجماعية التعددية المكرسة للمثل المشتركة للعدالة.

ويخشى كثير من الناس عدم احترام ترامب للدستور الأمريكي. غير أنه من المؤكد أن معنى الدستور شيء متنازع عليه دائما، وسيكون من السذاجة الاعتقاد بأن المناشدات غير الحزبية من شأنها أن تردعه فورا. ومع ذلك، فقد أراد مؤسسو أميركا بشكل واضح الحد من سلطة أي رئيس، حتى مع دعم الكونغرس وتأييد المحكمة العليا. ويمكن للمرء أن يأمل أن عددا كافيا من الناخبين -بما في ذلك أنصار ترامب– سينظرون إلى الأشياء بنفس الطريقة، والضغط عليه لاحترام هذا المبدأ غير القابل للتفاوض في التقليد الدستوري الأميركي.

* جان فيرنر مولر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة برينستون وزميل في معهد العلوم الإنسانية في فيينا، كتابه الأخير: ما هي الشعبوية

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي