اليسار يتنازل
بروجيكت سنديكيت
2016-07-13 06:25
داني رودريك
لندن ــ في حين يترنح العالم تحت وطأة صدمة الخروج البريطاني، يتبادر إلى أذهان أهل الاقتصاد وصناع السياسات أنهم استخفوا استخفافا شديدا بهشاشة النموذج الحالي للعولمة. وتتخذ الثورة الشعبية التي يبدو أنها تجري الآن أشكالا مختلفة ومتداخلة: إعادة التأكيد على الهويات المحلية والوطنية، والمطالبة بقدر أكبر من السيطرة الديمقراطية والمساءلة، ورفض الأحزاب السياسية الوسطية، وانعدام الثقة في النخب والخبراء.
كانت ردة الفعل العكسية هذه متوقعة. فقد حَذَّر بعض خبراء الاقتصاد، وأنا منهم، من العواقب المترتبة على دفع العولمة الاقتصادية إلى ما وراء حدود المؤسسات التي تتولى تنظيم الأسواق وتثبيت استقرارها ومنحها الشرعية. وكان الإفراط في عولمة التجارة والتمويل، بهدف خلق أسواق عالمية متكاملة بسلاسة، سببا في تمزيق المجتمعات المحلية.
والمفاجأة الأكبر هي ميل ردة الفعل السياسية المؤكد نحو اليمين. ففي أوروبا، كان القوميون والشعبويون من مناهضي الهجرة هم الذين ارتفعوا إلى الصدارة، مع تقدم اليسار في قِلة فقط من الأماكن مثل اليونان وأسبانيا. وفي الولايات المتحدة، تمكن زعيم الدهماء اليميني دونالد ترامب من إزاحة المؤسسة الجمهورية، في حين عجز اليساري بيرني ساندرز عن التغلب على الوسطية هيلاري كيلنتون.
وكما يعترف إجماع المؤسسة الجديدة الناشئة على مضض، تعمل العولمة على إبراز الانقسامات الطبقية وزيادتها حدة بين أولئك الذين يملكون المهارات والموارد اللازمة للاستفادة من الأسواق العالمية وأولئك الذين لا يملكون. وتقليديا، كانت الانشقاقات في الدخل والطبقة، على النقيض من انشقاقات الهوية القائمة على العِرق أو الدين، تعمل على تعزيز اليسار السياسي. لماذا إذن عَجَز اليسار عن تشكيل أي قدر يُذكَر من التحدي السياسي للعولمة؟
تتلخص إحدى الإجابات في أن الهجرة طغت على "صدمات" العولمة الأخرى. إذ يُفضي التهديد المتصور الذي تفرضه التدفقات الجماعية من المهاجرين واللاجئين من الدول الفقيرة وتقاليدهم الثقافية الشديدة الاختلاف إلى تفاقم انقسامات الهوية التي استغلها ساسة اليمين المتطرف بإتقان غير عادي. ليس من المستغرب إذن أن يربط الساسة اليمينيون من ترامب إلى مارين لوبان رسالتهم في التأكيد على النزعة الوطنية بجرعة غنية من الرمزية المناهضة للمسلمين.
وتقدم لنا الديمقراطيات في أميركا اللاتينية نقيضا ينبئنا بالكثير. فقد خبرت هذه الدول العولمة في الأغلب باعتبارها صدمة مرتبطة بالتجارة والاستثمار الأجنبي، وليس صدمة هجرة. فأصبحت العولمة هناك مرادفة لما يسمى سياسات إجماع واشنطن والانفتاح المالي. وظلت الهجرة من الشرق الأوسط أو أفريقيا محدودة وذات تأثير سياسي ضئيل. ولهذا، اتخذت ردة الفعل الشعبوية في أميركا اللاتينية ــ في البرازيل وبوليفيا والإكوادور، وعلى النحو الأكثر مأساوية في فنزويلا ــ شكلا يساريا.
والقصة مماثلة في الاستثناءين الرئيسيين لانبعاث اليمين في أوروبا ــ اليونان وأسبانيا. ففي اليونان، كان خط الصدع السياسي الرئيسي سياسات التقشف التي فرضتها عليها المؤسسات الأوروبية وصندوق النقد الدولي. وفي أسبانيا، كان أغلب المهاجرين حتى وقت قريب قادمين من بلدان مماثلة ثقافيا في أميركا اللاتينية. وفي كل من البلدين، كان أقصى اليمين يفتقر إلى الأرض الخصبة التي يحظى بها في أماكن أخرى.
ولكن التجربة في أميركا اللاتينية وجنوب أوروبا ربما تكشف عن نقطة ضعف أكبر تعيب اليسار: غياب أي برنامج واضح لإعادة صياغة الرأسمالية والعولمة بما يتناسب مع القرن الحادي والعشرين. فمن حزب سيريزا في اليونان إلى حزب العمال في البرازيل، فشل اليسار في إنتاج أفكار سليمة اقتصاديا وتحظى بالشعبية على المستوى السياسي، بعيدا عن السياسات التحسينية مثل تحويلات الدخل.
يتحمل الاقتصاديون والتكنوقراط على اليسار جزءا كبيرة من المسؤولية. فبدلا من المساهمة في مثل هذا البرنامج، تنازلوا بسهولة شديدة لأصولية السوق واعتنقوا مبادئها المركزية. والأسوأ من ذلك هو أنهم قادوا حركة العولمة المفرطة في مراحل حاسمة.
وبوسعنا أن نقول إن تتويج حرية حركة رأس المال ــ وخاصة من النوع القصير الأجل ــ كقاعدة سياسية من قِبَل الاتحاد الأوروبي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وصندوق النقد الدولي، كان القرار الأكثر مصيرية بالنسبة للاقتصاد العالمي في العقود الأخيرة. وكما أظهر راوي عبد العال، الأستاذ في كلية هارفارد لإدارة الأعمال، فلم يكن هذا الجهد بقيادة منظري السوق الحرة، بل قاده في أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين التكنوقراط الفرنسيون من أمثال جاك ديلور (في المفوضية الأوروبية) وهنري تشافرانسكي (في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية) والذي كان على صِلة وثيقة بالحزب الاشتراكي في فرنسا. وعلى نحو مماثل، في الولايات المتحدة، كان التكنوقراط بالاشتراك مع الحزب الديمقراطي الأكثر ميلا إلى اعتناق مبادئ جون ماينارد كينز، مثل لورنس سامرز، هم الذين قادوا حملة إلغاء القيود التنظيمية المالية.
ويبدو أن التكنوقراط الاشتراكيين في فرنسا استخلصوا من تجربة ميتران الفاشلة مع التدابير الكينزية في أوائل الثمانينيات أن الإدارة الاقتصادية المحلية لم تعد ممكنة، وأنه لم يكن هناك أي بديل حقيقي للعولمة المالية. وكان أفضل ما أمكن القيام به استنان قواعد تشمل أوروبا بالكامل والعالم، بدلا من السماح للدول القوية مثل ألمانيا أو الولايات المتحدة بفرض قواعدها.
والنبأ السار هنا هو أن الفراغ الفكري على اليسار يجري شغله الآن، وأنه لم يعد هناك أي سبب للاعتقاد في طغيان ادعاء "عدم وجود بدائل". ولم يعد لدى الساسة على اليسار أسباب تُذكَر لعدم الاستفادة من قوة النيران الأكاديمية "المحترمة" في الاقتصاد.
ولنتأمل هنا بعض الأمثلة: فقد دعت أنات أدماتي وسيمون جونسون إلى تنفيذ إصلاحات مصرفية جذرية؛ واقترح توماس بيكيتي وتوني أتكينسون قائمة غنية من السياسات للتعامل مع التفاوت بين الناس على المستوى الوطني؛ كما كتبت ماريانا ماتزوكاتو وها جون تشانج حول كيفية نشر طاقات القطاع العام لتشجيع الإبداع الشامل؛ واقترح جوزيف ستيجليتز وخوسيه أنطونيو أوكامبو إصلاحات عالمية؛ وساق براد ديلونج، وجيفري ساكس، ولورنس سامرز الحجج لصالح الاستثمارات العامة الطويلة الأجل في البنية الأساسية والاقتصاد الأخضر. وهناك ما يكفي من العناصر لبناء استجابة اقتصادية عملية من اليسار.
الفارق الحاسم بين اليمين واليسار هو أن اليمين يتغذى على تعميق الانقسامات في المجتمع ــ "نحن" في مقابل "هم" ــ في حين يتغلب اليسار عندما يكون ناجحا على هذه الانقسامات من خلال الإصلاحات التي تقيم الجسور عبرها. ومن هنا كانت المفارقة أن الموجات المبكرة من الإصلاحات من قِبَل اليسار ــ الكينزية، والديمقراطية الاجتماعية، ودولة الرفاهة الاجتماعية ــ هي التي أنقذت الرأسمالية من نفسها وبالتالي أصبحت زائدة عن الحاجة فعليا. وفي غياب مثل هذه الاستجابة مرة أخرى، فسوف يُترَك المجال مفتوحا على مصراعيه للشعبويين وجماعات اليمين المتطرف، التي ستقود العالم ــ كما كانت تفعل دوما ــ إلى انقسامات أعمق وصراعات أكثر تواترا.