أموال من السماء؟
بروجيكت سنديكيت
2016-05-09 05:56
كويتشي حمادة
طوكيو - الاقتصاد العالمي يعاني، والعملة الموحدة تكبّل منطقة اليورو ولا تحررها، فاليابان تتألم من تباطؤ تطبيع السياسة النقدية الأمريكية، وتعاني الأسواق الناشئة حول العالم عواقب سوء الإدارة الاقتصادية الصينية. ولكن لا ينبغي أن تدفع الظروف العالمية المعاكسة، مهما كانت مزعجة، بمسؤولي البنوك المركزية إلى إهمال مخاطر السياسات غير المجرَّبة، وعلى رأسها سياسة طباعة النقود أو «إنزال النقود بالهليكوبتر» التي يقترحها الكثيرون الآن.
ابتكرها ميلتون فريدمان عام 1969 وكانت جزءا من تجربة فكرية ــ وليست اقتراحا فعليا ــ أطلِق عليها هذا الاسم إشارة إلى مشهد تناثر النقود حديثة الطبع من مروحية تصدر طنينا. ولكن الهدف من سياسة إنزال النقود بالهليكوبتر ــ أو ما أطلق عليه رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بن برنانكي مؤخرا «برنامج مالي ممول بالنقود» (MFFP) ــ هي ببساطة توزيع نقود مطبوعة حديثا على المستهلكين مباشرة، عن طريق خفض الضرائب على سبيل المثال.
استبعد مسؤولو البنوك المركزية بصورة متكررة على مدار نصف القرن الماضي استخدام البرنامج المالي الممول بالنقود. ولكن في البيئة الحالية ذات الطلب الكلي الضعيف باستمرار، والتضخم الأقل من المستهدف، ونمو الناتج البطيء أو المنعدم، كان الاقتصاديون حول العالم يبحثون في يأس عن تدخل إلهي، وهو بحث أدى بالبعض إلى مهبط الهليكوبتر.
من بين أبرز مناصري البرنامج المالي الممول بالنقود أدير تيرنر الذي يقدم كتابه الأخير Between Debt and the Devil تجربة فكرية فطنة عن استخدام أموال الهليكوبتر. يبدو أن تيرنر وزملاءه من الداعمين للبرنامج المالي الممول بالنقود يعتقدون أن وضع المزيد من النقود في أيدي العامة فكرة مرحَّب بها عمليا دائما. فهي في نظرهم ليست طريقة مباشرة فورية لتعزيز الطلب الحقيقي فقط، بل وتبدو أيضا أفضل من المحفز المالي الممول بالديون، بسبب كل من القيود السياسية على الحكومات المثقلة بالديون، وأثر البرنامج المالي الممول بالنقود الأكثر مباشرة ــ ومن ثم الأسرع ــ على الإنفاق على نطاق الاقتصاد.
ولكن يمكن للبرنامج المالي الممول بالنقود إنتاج الكثير جدا من الطلب بسهولة. الضمان الوحيد ضد اندفاع تضخمي في هذا السيناريو هو حرص صناع السياسات.
ولكن دافعهم لتحديد التضخم قد لا يكون قويا بصورة خاصة. كانت لدى الحكومات عبر التاريخ في الحقيقة دوافع سياسية قوية لتسييل العجز، مع تقليل التضخم اللاحق عبء الديون (ومصادرة المدخرات المستعارة بفعالية). ولهذا فإن التضخم أكثر انتشارا في التاريخ من الانكماش. ومع ذلك لا يدرك أي اقتراح للبرنامج المالي الممول بالنقود هذه النزعة، ولا يشمل أيها كذلك احتياطيات لتجنبه.
والبنوك المركزية مستقلة بطبيعة الحال عن الحكومة على وجه التحديد من أجل ضمان البراجماتية التامة لسياساتها، بدلا من أن تشكلها السياسات الحزبية. ولكن في واقع الأمر، ظل هذا السلوك غائبا بصورة متكررة. فمن لا يزال حتى اليوم يعتبر رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق آلان جرينسبان نموذجا للحصافة؟
ولكن تَظَل الهيئات المالية تفرض الخطر الأكبر، وهي تنزع إلى التأثر بشكل أكثر بالاعتبارات السياسية. ومن المؤسف أن البرنامج المالي الممول بالنقود يعمل عبر التوفيق بين التوسع النقدي والتوسع المالي على تمكين الهيئات المالية فعليا على حساب الهيئات النقدية.
يعتقد تيرنر أن اليابان خصوصا ستستفيد من سياسة إنزال النقود بالهليكوبتر. فالبرنامج المالي الممول بالنقود في رأيه هو الحل المثالي لتحفيز الطلب، دون تضخيم عبء الديون الياباني الثقيل بالفعل. ولكن عبء الدين العام الياباني خطِر تحديدا بسبب قدرته على تحفيز التضخم، عبر تسييل الدين. وفي هذا السياق، يبدو طرح البرنامج المالي الممول بالنقود ــ وهو سياسة من المحتمل أن تزعزع الأسعار أكثر ــ أمرا بالغ الخطورة.
لقد ارتكبت اليابان هذا الخطأ من قبل. ففي عام 1931، بعد أكثر من عقد من الانكماش العميق، استخدم وزير المالية كوريكيو تاكاهاشي توسعا ممولا بالديون من أجل إحداث انتعاش اقتصادي محلي.
ولكن تاكاهاشي كان يعرف متى ينبغي كبح الإنفاق، وحاول عام 1934 فعل ذلك بالتحديد. ولكن تركيزه على خفض الإنفاق العسكري تسبب في معارضة قوية من قِبَل ضباط الجيش، الذين اغتالوا تاكاهاشي عام 1936. وسمح خليفته بتضخم الميزانية العسكرية، التي مولتها النقود المصنوعة حديثا. فحفز هذا تضخما سريعا لم يصبح تحت السيطرة سوى بعد إعادة الإعمار في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
واليوم، يفضي منهج رئيس الوزراء شينزو آبي في التوسع النقدي ــ المحوري لبرنامج التعافي الاقتصادي «آبينومكس» (اقتصاد آبي) ــ إلى نتائج إيجابية، وخاصة في سوق العمل. تبلغ نسبة الوظائف إلى المتقدمين 1.28، وهو أعلى مستوى لها منذ عام 1991. وترتفع أجور العمال بدوام جزئي لأول مرة في تاريخ اليابان أسرع من أجور الموظفين بدوام كامل.
إضافة إلى أن أسعار المنتجات الغذائية قد بدأت في الزيادة. تولِّد الشركات اليابانية أرباحا قوية (وربما تكون سوق الأسهم اليابانية حتى مقدرة بأقل من قيمتها الحقيقية). وبرغم نمو الناتج المحلي الإجمالي ببطء شديد، بل وبالسالب من حين لآخر، إلا أن الدخل القومي الإجمالي يستمر في الارتفاع بثبات. ويبدو من الواضح أن على اليابان الاستمرار في هذا المسار الواعد، بدلا من المخاطرة بإشعال شرارة التضخم.
والواقع أن حتى تيرنر عَرَض اقتراحا بديلا يلائم هذا السيناريو، فهو يوصي اليابان بمواصلة أسلوب التيسير النقدي الذي تتبعه حاليا ــ والذي يمكنه تعزيز الطلب مع الحفاظ على بعض الوقاية من التضخم ــ وتأجيل الزيادة المزمعة في ضريبة الاستهلاك. وبينما لا يتلازم كل من المحفز المالي والتوسع النقدي بالضرورة دائما، يبدو هذا الاقتراح في ظل الظروف الحالية في اليابان منطقيا.