اليمن وسياقات التصعيد الراهن.. هل يتجه الجنوب نحو الانفصال بدعم إماراتي؟
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
2025-12-25 03:39
بعد فترة هدوء نسبي استمرت منذ تشكيل مجلس الرئاسة، الذي نُقلت إليه صلاحيات الرئيس السابق، عبد ربه منصور هادي، في نيسان/ أبريل 2022، شهدت مناطق جنوب اليمن، ولا سيما محافظتا حضرموت والمهرة، تصعيدًا أمنيًا كبيرًا منذ 2 كانون الأول/ ديسمبر 2025. فقد سيطرت فصائل عسكرية، أبرزها قوات "النخبة الحضرمية" التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم من الإمارات العربية المتحدة، على مدن رئيسة، تقع تحت إدارة الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا، في وادي حضرموت، مثل سيئون والمكلا، إضافة إلى منشآت نفطية في المسيلة والهضبة، وسط انسحابات لقوات مدعومة من المملكة العربية السعودية من هذه المناطق الغنية بالنفط.
وفي المهرة، جرى تسليم منشآت حكومية (مثل القصر الجمهوري، وميناء نشطون) إلى قوات تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي من دون قتال. وقد امتدت سيطرة الأخير إلى شبوة؛ لتصبح بذلك جميع الموانئ والسواحل الجنوبية والشرقية من المخا إلى نشطون تحت نفوذه. وعلى الرغم من أنه حاول أن يصوّر هدف التحركات بأنه "أمني عسكري بحت"[1]، وهو يسعى لتصحيح الخلل "في هذه المنطقة الاستراتيجية" التي أصبحت، في زعمه، "ممرًا رئيسًا لتهريب السلاح للحوثيين"، وتنظيم القاعدة[2]، فإن رئيس المجلس، عيدروس الزبيدي، كشف صراحة عن نيته الانفصال، مشيرًا إلى العمل على بناء "مؤسسات دولة الجنوب العربي القادمة". وقد وصفت الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، والتي غادر غالبية أعضائها العاصمة المؤقتة عدن إلى الرياض[3]، ما حصل بأنه "انقلاب على الشرعية الدستورية"، محذرةً من تقويض الدولة وتهديد وحدة البلاد[4].
أولًا: خلفيات الصراع بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة الشرعية في اليمن
ليست هذه المرة الأولى التي يحاول فيها المجلس الانتقالي الجنوبي - الذي تأسس عام 2017، بدعم عسكري ومالي إماراتي، ويسعى لانفصال محافظات الجنوب عن اليمن - التقدم عسكريًا وسياسيًا في عملية الفصل. لكنه اليوم يستغل الشرعية السياسية التي اكتسبها بضم ممثلين عنه إلى مجلس الرئاسة، من دون أن يتنازل عن برنامجه الانفصالي. فقد شهدت مدينة عدن، في آب/ أغسطس 2019، صدامات مسلحة بين القوات الحكومية الموالية للرئيس السابق عبد ربه منصور هادي، وقوات المجلس الانتقالي؛ أفضت إلى طرد القوات الحكومية من مدينة عدن التي أعلنت عاصمة مؤقتة، عقب سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيون) على صنعاء في أيلول/ سبتمبر 2014. وشكّل حينها مقتل قائد اللواء الأول التابع للمجلس الانتقالي، العميد منير محمود المشالي (اليافعي)، في 1 آب/ أغسطس 2019، الشرارةَ التي أشعلت فتيل المواجهات المسلحة بين ألوية الحماية الرئاسية الموالية للحكومة الشرعية، وقوات الحزام الأمني الموالية للمجلس، على الرغم من أن الحوثيين اعترفوا بمسؤوليتهم عن الهجوم الذي قتل فيه اليافعي، والذي استهدف منصة عرض بمعسكر الجلاء، غربيّ عدن، وأودى بحياة ثمانية عشر شخصًا[5].
لكن نائب رئيس المجلس، هاني بن بريك، ألمح حينها إلى أن حكومة هادي ضالعة في الهجوم. وحمّل صراحة حزب التجمع اليمني للإصلاح المسؤولية عن ذلك، واعتبره مندرجًا ضمن مخططه للسيطرة على عدن؛ ما شكّل مقدمة لتحرّك يهدف إلى طرد الحكومة من عدن[6]. وبالفعل دعا المجلس، في 7 آب/ أغسطس 2019، إلى النفير العام، والزحف نحو القصر الرئاسي بمنطقة معاشيق الذي كانت الحكومة تتخذه مقرًا مؤقتًا لها. وفي حين وجد المجلس في الحادثة ذريعة لتوسيع نطاق سيطرته في الجنوب وإضعاف سلطة هادي، وظفت الإمارات الحادثة من أجل تحقيق أهدافها المتمثّلة في القضاء على نفوذ حزب التجمع اليمني للإصلاح، والقوى العسكرية والقبلية التي أيدت "ثورة فبراير 2011". وقد شاركت عربات مشاة إماراتية، مع قوات المجلس، في السيطرة حينها على عدن.
في تلك الفترة، حاولت السعودية التوفيق بين الحفاظ على تحالفها مع الإمارات في مواجهة حكومة الحوثيين في الشمال، والتزاماتها تجاه السلطة الشرعية؛ فبادرت إلى التوسط لإنهاء الأزمة وإعادة الأوضاع الى ما كانت عليه قبل أحداث آب/ أغسطس 2019. وأنجزت الوساطة السعودية اتفاق الرياض في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019[7]، ونصّ على عودة قوات الطرفين إلى مواقعهما السابقة، وتسليم مواقع رئيسة؛ مثل مطار عدن والقصر الرئاسي إلى القوات السعودية، وتشكيل حكومة جديدة نصفها من المجلس الانتقالي[8]. لكن التوترات ظلت قائمة؛ إذ ظل المجلس ينتهز كل فرصة تقربه إلى الانفصال.
في نيسان/ أبريل 2022، دُفع هادي إلى التنازل عن السلطة، وتشكيل مجلس رئاسي نقلت إليه صلاحياته وصلاحيات نائبه، علي محسن الأحمر. وكانت سلطة هادي تتآكل تدريجيًا أمام الحوثيين في الشمال والمجلس الانتقالي الذي أخذ نفوذه يتزايد في العاصمة المؤقتة عدن، وبعض المحافظات الجنوبية. وأدى بروز دور "قوات العمالقة" في الساحل الغربي قبل إعادة تموضعها شرقًا في محافظتَي شبوة ومأرب، وقوات العميد طارق محمد صالح، ابن شقيق الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح في الساحل الغربي، وباب المندب - وهي القوى التي تحظى بدعم الإمارات - إلى رسم مشهدٍ سياسي وميداني جديد في اليمن. وقد عكس تشكيل المجلس الرئاسي حينها موازين القوى هذه، من خلال تمثيل الجنوب بأربعة أعضاء، وجاء سبعة من أعضائه الثمانية من خلفية عسكرية وأمنية؛ ثلاثة منهم يتولون قيادة تشكيلات عسكرية تمتد من الساحل الغربي إلى المحافظات الجنوبية، وتوجهاتهم السياسية مختلفة، ولا يعلنون ولاءهم للسلطة الشرعية، على الرغم من أنهم يشاركونها معاداة الحوثيين[9].
ثانيًا: سياقات التصعيد الراهن
لا يمكن فصل العملية العسكرية التي أطلقها المجلس الانتقالي الجنوبي، في 2 كانون الأول/ ديسمبر 2025، تحت اسم "المستقبل الواعد"، عن التباينات التي برزت في الآونة الأخيرة في العلاقات بين السعودية والإمارات بشأن ملفات إقليمية عديدة، أبرزها السودان؛ إذ تدعم أبو ظبي ميليشيات الدعم السريع، بينما تدعم الرياض الجيش السوداني. وقد شكّلت العملية العسكرية، التي أطلقها المجلس، تغييرًا جذريًا في خريطة السيطرة داخل البلاد، مع تداعيات إقليمية مهمة؛ فقد أعلنت قياداته، بحلول 9 كانون الأول/ ديسمبر 2025، استكمال سيطرة قواتها على محافظة المهرة المتاخمة لسلطنة عُمان ومحافظة حضرموت التي تتشارك حدودًا واسعة مع السعودية، لتُصبح قواته بذلك مهيمنة على معظم محافظات الجنوب ومناطقه المأهولة، وممسكة بنحو 80 في المئة من الاحتياطي النفطي اليمني[10].
وتُعدّ محافظتا حضرموت والمهرة مناطق نفوذ للسعودية، تسيطر فيها قوى قبلية وعسكرية قريبة منها ومعتمدة في دعمها عليها. لذلك، فإن تمدد المجلس الانتقالي فيها يُعتبر بمنزلة استهداف مباشر للنفوذ السعودي. وتحظى محافظتا المهرة وحضرموت، علاوة على ذلك، بأهمية استراتيجية لدى السعودية؛ إذ تمثّل جزءًا من خطط مستقبلية لإنشاء خطوط لنقل النفط عبرهما في اتجاه بحر العرب، بما يفيد في تجنب مضيق هرمز الذي قد يتعرض للإغلاق في أوقات الحرب. وتفكر السعودية أيضًا في الاستفادة من الموقع الاستراتيجي للمحافظتين الحدوديتين اليمنيتين، لإنشاء موانئ فيهما توفّر بدائل مهمة من خطوط التجارة تتصل مباشرة بالمحيط الهندي[11]. وقد طالبت السعودية بالانسحاب الكامل للقوات التابعة للمجلس الانتقالي من المواقع التي سيطرت عليها، وتمكين قوات "درع الوطن" - وهي قوات محلية، مدعومة سعوديًا، تتبع لمجلس الرئاسة اليمني - من تسلّم المعسكرات وإدارة المهمات الأمنية فيها، رافضة أي محاولات لفرض أمر واقع بالقوة[12].
لكن شكوكًا تحوم حول استجابة قوات المجلس الانتقالي للدعوات السعودية، وكذلك حول قدرة الرياض، هذه المرة، على احتواء الموقف، كما فعلت في الماضي؛ نظرًا إلى تنامي الصدوع في العلاقة مع أبو ظبي. ويدلّ على ذلك عدم تمكّن الوفد الرسمي، الذي أوفدته السعودية إلى محافظة حضرموت للقاء القيادات السياسية والقبلية، من إعادة فتح مسار الحوار للحد من مخاطر التصعيد العسكري؛ إذ تجاهل المجلس الانتقالي الاتفاق الذي جرى التوصل إليه في 3 كانون الأول/ ديسمبر، واندفع للسيطرة على المحافظات الشرقية للجنوب[13].
عكس المجلس الرئاسي عندما تشكّل في عام 2022 توافقًا بين السعودية والإمارات وحلفائهما من القوى السياسية والعسكرية لتقاسم السلطة والنفوذ في المحافظات التي تقع خارج نطاق سيطرة الحوثيين. أما الآن، ومع التباعد الإماراتي – السعودي، فقد كان متوقعًا أن يتعرض المجلس الرئاسي لهزة مثل التي حصلت في الجنوب؛ ما يعني أن هذا المجلس حاول التمسك بالشرعية، التي امتلكتها حكومة هادي رغم ضعفها، وهي آيلة إلى التآكل. لذلك، فقد يتجه اليمن نحو التقسيم وإنشاء دولة مدعومة إماراتيًا، في الجنوب[14]، التي قد تكون في الوقت نفسه حليفًا محتملًا لإسرائيل، المعنية بدورها بتقسيم اليمن، الذي تحوّل - خلال حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 - إلى إحدى الجبهات الأكثر نشاطًا ضدها.
خاتمة
يُؤذِن استيلاء المجلس الانتقالي الجنوبي على الجزء الأكبر من جنوب اليمن -بما في ذلك مناطق ذات أهمية استراتيجية مثل جزيرة ميون عند مضيق باب المندب، وجزيرة سقطرى في المحيط الهندي- بتحوّل كبير في الصراع المستمر منذ سيطرة الحوثيين على صنعاء عام 2014[15]. وعلى الرغم من أن تنازع النفوذ في الجنوب كان قائمًا منذ سنوات، فإن التطوّرات منذ 2 كانون الأول/ ديسمبر 2025 تُعدّ بمنزلة إنهاءٍ فعليٍّ لحضور السلطة الشرعية في المجلس الرئاسي والحكومة اليمنية في المحافظات الجنوبية والشرقية، ومن ثمّ محاولة إخراج هذه المحافظات، وقواها الحزبية والسياسية، من سيطرة الحكومة؛ فقد باتت الأخيرة تفتقر عمليًا إلى نفوذ مؤثّر على أرض الواقع، مع تصاعد قوة المجلس الانتقالي في الجنوب، وتنامي نفوذ الحوثيين في الشمال.
تطمح الحكومة الشرعية اليمنية، بدعم سعودي، إلى إعادة الوضع في حضرموت والمهرة وسائر أنحاء محافظات الجنوب إلى ما كانت عليه قبل 2 كانون الأول/ ديسمبر 2025. لكن السعودية، غير الراضية عن التطورات الأخيرة، تحاول في الوقت ذاته تجنّب مواجهة عسكرية مباشرة مع القوات المدعومة إماراتيًا. وإذا استمر المجلس الانتقالي في فرض الوقائع على الأرض بعد كل أزمة، فإن هذا يعني الاقتراب التدريجي من الانفصال، أو ما يُسمى "استعادة دولة الجنوب الفدرالية المستقلة"، التي يطمح إليها المجلس. لكن ثمة عوائق في الطريق، منها رفض الحوثيين سيناريو الانفصال؛ ما يعزز احتمالات الانزلاق إلى فوضى ممتدة، تعيد اليمن إلى دوامة صراع مفتوح يصعب على أي طرفٍ حسمه عسكريًا. ويُضاف إلى ذلك وجود طموحات وطامحين محليين آخرين في المحافظات الجنوبية المختلفة. لذلك، فإن حصول الانفصال في الجنوب قد يفتح الباب على مزيد من التشظي والانقسامات.