اليونيفيل في مفترق طرق

بين المراجعة الشاملة أو الرحيل بلا عودة

د. لطيف القصاب

2025-09-29 04:41

بقلم: فادي نيقولا نصار– معهد الشرق الأوسط
صالح المشنوق– جامعة القديس يوسف– لبنان
ترجمة: د. لطيف القصاب- مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية 

بنهاية شهر ايلول سيتحدد في نيويورك مصير قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)، هذه القوة التي أُنشئت منذ ما يقارب نصف قرن، ومجلس الأمن بصدد مناقشة وجودها أو عدمه، وذلك بعد نحو عقدين من إعادة هيكلتها بموجب قرار مجلس الأمن 1701.

اليونيفيل أصبحت اليوم جزءاً من المشكلة التي أُنشئت لحلها، فعشرة آلاف جندي بقبعات زرقاء من نحو خمسين دولة -بينها دول كبرى في حلف شمال الأطلسي- فشلوا في منع اندلاع النزاع الأخير بين إسرائيل وحزب الله، وإذا استمر النهج نفسه فسيكون الفشل قدر أي نزاع مقبل.

إن مجلس الأمن حاليا مشغول بفكرة تجديد وجود اليونيفيل، أو تقليص ما يُنظر له بوصفه بعثة أممية غير فعّالة، لكن هذا الطرح يتجاهل النظر في فكرة جوهرية تتعلق بمسألة عدم وجود رغبة بهذه البعثة، لا بعدم قدرتها على تحمّل المخاطر، والوفاء بالتزاماتها.

إن قوات حفظ السلام (اليونيفيل) ما تزال قادرة على المساعدة في إنهاء الفصل الطويل الذي مثّله جنوب لبنان بوصفه تهديدا للأمن الدولي شرط أن يتوقّف العالم عن الادعاء بأن (اليونيفيل) بصيغتها الحالية هي الحل الأمثل لهذه المشكلة.

لقد توفرت فرصة نادرة أمام اليونيفيل بعد قرار الحكومة اللبنانية الالتزام بنزع سلاح حزب الله مع نهاية هذا العام، وتبنّيها أهداف الخطة الأميركية المقترحة مؤخرا لمعالجة النزاع مع إسرائيل، وذلك عبر مساعدة الدولة اللبنانية على إعادة بسط سلطتها الكاملة في الجنوب، وضمان انسحاب إسرائيلي سلس وكامل، ومنع عودة الحزب إلى الحدود، في ضوء هذه الفرصة يمكن لليونيفيل أن تساهم في استقرار الجنوب، ومن ثم دعم الزخم المحلي، والدولي لنزع سلاح حزب الله على نطاق أوسع، واستعادة لبنان لسيادته، ومن أجل اغتنام هذه الفرصة لا بد من إعادة هيكلة جذرية لمهمة البعثة، وذلك بإرسال رسالة مفادها أن عصر حفظ السلام المتردّد انتهى، وحلّ مكانه نهج حازم ملتزم بفرض تفويضه الداعم للسيادة بكل الوسائل اللازمة، وإذا عجز مجلس الأمن عن تحقيق هذا التحول، فعلى واشنطن أن تعرقل مشروع تجديد ولاية اليونيفيل، وتوجّه دعمها مباشرة إلى الجيش اللبناني.

ما هو وجه الخطأً في عمل اليونيفيل؟

لقد تركت حرب عام 2006 بين إسرائيل وحزب الله، تركت جنوب لبنان بشكل برميل بارود متفجر، واستجابة لهذا الوضع فقد اعتمد مجلس الأمن القرار 1701، هذا القرار الذي وسّع حجم اليونيفيل من أقل من ألفي جندي إلى ما يمكن أن يصل إلى 15 خمسة عشر ألف، وأناط بها مهمة دعم الجيش اللبناني ليكون القوة المسلحة الوحيدة في حدود الأمر الواقع المحصورة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني، ولمدة من الزمن لاسيما السنة الأولى بدت اليونيفيل مستعدة -بدعم من الناتو- لمراقبة المنطقة العازلة وتأمينها.

لقد حافظ حزب الله في بداية الأمر على وجود عسكري محدود انصياعا للرأي العالمي، واستجابة لما تعرّض له من إرهاق، لكن الحزب وبحلول عام 2007 استطاع أن يقوّض سلطة اليونيفيل إلى حد كبير، وبعد عقد من الزمن، ومع تراجع حملته في سوريا، تبنّى حزب الله موقفاً أكثر عدائية في الجنوب، فعمد على إنشاء مدارج لطائرات مسيّرة، وأبراج مراقبة، وأنظمة أنفاق معقدة، وفي هذه الأثناء كانت اليونيفيل تمارس سياسة غض النظر، وتخضع لقواعد اشتباك حزب الله لا لقواعدها.

ومع اتساع نفوذ الحزب، تآكلت مصداقية اليونيفيل، وتدهورت الأمور لدرجة أن لبنان وإسرائيل دخلا في حرب بعد يوم واحد فقط من هجوم حماس على إسرائيل في ما يعرف بالسابع من أكتوبر، وبخلاف حال البعثة في عام 2006، حين كانت ركناً أساسياً في خطة ما بعد الحرب للبنان، أصبحت اليونيفيل بعد وقف إطلاق النار نهاية عام 2024 شبه مهمّشة!.

المشكلة ليست في حجم التفويض

غالباً ما تُعزى إخفاقات اليونيفيل إلى ولايتها تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يُفترض أنه يقيّدها بحفظ السلام لا بفرضه، وإلى اعتمادها المفترض على تعاون السلطات اللبنانية، هذا التشخيص الخاطئ أنتج وصفة جاهزة تتمثل في أن تعديل ظروف الولاية العسكرية سيجعل من قوة اليونيفيل أكثر صرامة، لكن لا شيء من ذلك يفسّر أسباب فشل المهمة تفسيرا مقنعًا.

عندما جرى تمرير القرار 1701 في آب 2006، لم يصل إلى حدّ تحقيق الرغبة الفرنسية-الأميركية المطالبة بتفويض مشابه للفصل السابع، وهو البند الذي يتيح لمجلس الأمن تحديد ما يشكّل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، وتفويض استخدام القوة لمواجهته، حينها خشيَت الحكومة اللبنانية أن يهدد ذلك شرعيتها. ومع ذلك، تضمّن النص النهائي لغة قوية عادةً ما تتناسب مع اللهجة المستخدمة في الفصل السابع إذ أعلن القرار أن الوضع في لبنان يمثل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، مخولا اليونيفيل "اتخاذ كل الإجراءات الضرورية" لمنع الأعمال العدائية، ومواجهة أي طارئ، لكن النتيجة سرعان ما غدت تفويضاً (هجينا) يجمع بين الفصلين السادس والسابع، ما جعل من وجود اليونيفيل عسكريا وجودا متأرجحا بين حفظ السلام التقليدي (الفصل السادس)، وفرضه بالقوة (الفصل السابع).

لقد كان أداء قوات اليونيفيل بعد القرار 1701 يتناسب مع تفويضها القوي الجديد، فالوحدات الإسبانية، والفرنسية، والإيطالية قامت بدوريات في مناطق تحت سيطرة حزب الله، وقد وثّقت هذه القوات مواقع عسكرية، وتحركت لكشف مخابئ أسلحة مخفية! عملت كل ذلك بحزم ومن دون تراجع على الرغم من احتجاجات السكان الموالين لحزب الله، لكن نقطة التحول جاءت في حزيران 2007، وذلك عندما قُتل جنود من الكتيبة الإسبانية بانفجار عبوة ناسفة، وكذلك في عام 2011 حين استهدفت هجمات قوافل فرنسية، وإيطالية، وهو الأمر الذي استفاد منه حزب الله، وكشف له وهن اليونيفيل، وساعده في الضغط على قوى الناتو ذات التأثير على المشهد السياسي الهش في لبنان، ومن دون الإقرار بمسؤوليته عن تلك الحوادث بطبيعة الحال، وعليه فقد صاغت فرنسا، وهي أكبر المساهمين من حيث النفوذ في اليونيفيل، صاغت خياراتها السياسية بشأن لبنان مرارًا، بما في ذلك مناقشة تصنيف حزب الله بوصفها منظمة إرهابية انطلاقًا من مخاوف تتعلق بسلامة قوات حفظ السلام التابعة لها.

هذا الاعتبار، إلى جانب ميل الأمم المتحدة ذاتها لإعطاء الأولوية لاستمرار وجود البعثة دفع اليونيفيل إلى إعادة توجيه تركيزها نحو أهداف ثانوية مثل الوساطة، والتوثيق، والتواصل المجتمعي لتسويغ تجديد ولايتها.

إن النقد الأعمق لليونيفيل يتمحور حول ما يُنظر إليه بأنه اعتماد مفرط لهذه البعثة على الدولة اللبنانية لتنفيذ مهمتها، فمسؤولو اليونيفيل يحتجون بانتظام على أن المهمة مُكبَّلة بإجراءات تشترط التعاون مع الجيش اللبناني والسلطات الرسمية، لكن هذا التفسير الحرفي المفرط يُسيء إلى روح القرار الأممي، فالصياغة -كما وردت في ديباجة القرار- كانت تهدف إلى الترحيب بطلب الحكومة اللبنانية الذي يقضي بدعم اليونيفيل في تعزيز قدرات الجيش اللبناني، لا إلى تقييد حرية حركة اليونيفيل، والدليل على ذلك أن الوحدات الأوروبية (الإسبانية والفرنسية والإيطالية) بحثت -بشكل مستقل- عن مخابئ حزب الله قبل 2007، دون انتظار أوامر من بيروت، وفي هذا الإجراء المنفرد إقرار واضح بصحة التفسير المتعلق بمقدار التفويض المذكور آنفا. وعلى أي حال فإن هذه المسألة حُسمت لاحقاً مع القرار 2650 عام 2022، الذي أوضح صراحة بأن اليونيفيل لا تحتاج إلى إذن مسبق لتنفيذ مهامها، وأن لها الحق في القيام بدوريات معلنة وغير معلنة.

لقد جرى تصميم التعديلات للرد على بناء القوة العسكرية لحزب الله وتوضيح أي سوء فهم بخصوص حرية عمليات اليونيفيل، وقد كان بالإمكان ملاحظة أهمية هذا التغيير على الفور، لأول مرة منذ عام 2006، ولهذا فقد امتنعت الصين وروسيا عن التصويت للقرار، وأدان حزب الله، وكذلك الحكومة اللبنانية -تحت تأثير الحزب- هذا القرار، ولكن خلافا لذلك كله قلل قادة اليونيفيل من أهمية التعديلات علنًا، وعملوا جاهدين لضمان بقاء قواعد الاشتباك التي تحدد الوضع القائم في جنوب لبنان على الحال الذي هو عليه، وأصر المتحدث باسم اليونيفيل (أندريا تيننتي) بشكل متعجل على أن لا شيء سيتغير في عمل قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة حتى مع التفويض الأخير، وذهب إلى أبعد من ذلك حين قال: بإن القرار لا يحتوي إلا على الصياغة التي استخدمت في عام 2006!.

بعد وقف إطلاق النار في تشرين أول عام 2024، ومع تزايد الضغط على اليونيفيل لإثبات قدرتها مع اقتراب وقت تصويت مجلس الأمن عليها عملت اليونيفيل على دعم الانتقال حيث جرى انسحاب القوات الإسرائيلية، واستبدالها بقوات الجيش اللبناني، وأبلغت البعثة عن اكتشاف العديد من الأنفاق السرية ومخازن الأسلحة. وهنا انتقل (تيننتي) من طمأنة اللبنانيين أن القرار 2650 لن يغير الحقائق على الأرض إلى التأكيد على أن قوات اليونيفيل يمكن أن تتحرك بشكل مستقل في جنوب لبنان لأداء واجباتها في استعادة الأمن والاستقرار بموجب القرار 1701، وإن هذه القوات لا تحتاج إلى مرافقة جنود لبنانيين! لقد أظهر هذا التغيير في السلوك أن الإرادة حينما توجد فإنها قادرة على فتح الطريق.

ولكن من الناحية الواقعية فقد جاء تغيير السلوك متأخرًا وكان تأثيره ضئيلاً، فما زالت اليونيفيل تُبلِغ الجيش اللبناني مسبقًا بمواعيد دورياتها، ويواجه الجنود عادةً سكانًا موالين لحزب الله مصممين على عرقلة تحركاتهم، ما يتطلب منهم استدعاء الجيش اللبناني للتدخل وتهدئة الموقف، من دون محاسبة المعرقلين، وغالبًا ما تفشل الدوريات في تحقيق أهدافها.

إن هذا النمط يوحي بأن اليونيفيل، رغم إدراكها ضرورة إثبات جدارتها لضمان تجديد ولايتها، فإن تفسيرها لمهمتها يستند في المقام الأول إلى غريزة البقاء، لا إلى تطبيق حيثيات القرار؛ لأنها ما تزال تُفضل حتى الآن تجنّب المواجهة مع حزب الله.

خرافة ضعف الإمكانات

إن الادعاءات بأن اليونيفيل تعاني من نقص في الوسائل لا تصمد أمام التدقيق أيضًا، فعدد عناصر اليونيفيل، وتسليحها، وبنيتها القيادية تجعل منها قوة جيدة التجهيز بمعايير حفظ السلام. علاوة على ذلك، فليس واضحا كيف أن زيادة أيٍ من مواردها كان من شأنه أن يغيّر طريقة عملها.

إن المؤشر الأكثر وضوحًا على القدرة هو حجم الانتشار، فبعد حرب 2006 تحوّلت اليونيفيل من تشكيل متواضع يضم 2000 جندي دولي إلى 12,000، وذلك في مطلع عام 2007. ورغم أن مجلس الأمن أجاز رفع العدد إلى 15,000 عنصر، فإن البعثة استقرّت بمعدل 10,000 جندي يشرفون على مساحة 1,060 كيلومترًا مربعًا، ما يجعلها البعثة الأممية ذات الكثافة الأعلى من حيث عدد قوات قياسًا بالمساحة. وعلى سبيل المقارنة فإن بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في الكونغو الديمقراطية (MONUSCO) تنشر نحو 10,000 جندي من أصل سقف مسموح به يزيد قليلًا عن 16,000 عنصر نظامي، وعلى مساحة تبلغ 2.3 مليون كيلومتر مربع. أمّا بعثة الأمم المتحدة في مالي (MINUSMA) فكانت تعمل بنحو 13,000 عسكري وشرطي على مساحة 1.2 مليون كيلومتر مربع. ومن ثم فإن فشل اليونيفيل لا يرتبط بعديد قواتها بل إن خفض عدد قواتها من 12,000 إلى 10,000 مع بقاء الحال على ما هو عليه كشف أن المزيد من الأقدام على الأرض لم تكن ضرورية.

إن الركيزة الثانية للقدرة بعد حجم الانتشار هي التسليح، فإذا كان يمكن وصف اليونيفيل السابقة بأنها خفيفة التسليح، فإن اليونيفيل بعد صدور القرار 1701 لم تعد كذلك؛ إذ باتت تضم وحدات ميكانيكية، ومدفعية، وآليات مدرعة وأنظمة دفاع جوي، وهي تجهيزات نموذجية لمهمة قوية. وقد زاد من قوتها إدخال كتائب من دول الناتو مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، بحيث شكّلت القوات الأوروبية بين 2006 و2010 غالبية التشكيلات.

لقد كانت اليونيفيل مجهزة إلى حدّ أن وزير الدفاع الفرنسي صرّح عام 2006 بأن قوات بلاده في الجنوب كانت على بُعد "ثوانٍ" من إطلاق صواريخها على مقاتلات إسرائيلية من طراز F-15.

أما الركيزة الثالثة للقدرة فهي الهيكل القيادي. ومن أجل تفادي إخفاقات القيادة التي قوّضت بعثات أممية سابقة في الصومال ويوغوسلافيا فقد عمدت فرنسا وشركاؤها الأوروبيون إلى اعتماد هيكل يضمن مرونة عملياتية، وسلسلة قيادة واضحة. وبناء على ذلك جرى إنشاء الخلية العسكرية الاستراتيجية" (SMC) في نيويورك عام 2006 برئاسة جنرال برتبة عالية لتقديم توجيهات على المستوى الاستراتيجي، وقد منح ذلك الدول الأوروبية المساهمة في تلك القوات نفوذًا مهما. لقد كانت هذه الخلية استثنائية إلى درجة أثارت غيرة الدول غير الغربية المشاركة في مسارح عمليات عالية المخاطر في إفريقيا؛ لانها لم تُمنح امتيازات هيكلية مماثلة.

المشكلة في عقلية اليونيفيل

لقد أُوكلت إلى اليونيفيل مهمة أساسية هي دعم إنشاء منطقة عازلة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني، ولتحقيق هذا الهدف، مُنحت هذه البعثة تفويضًا قويًا وموارد وفيرة تتيح لها حرية حركة لا تحظى بها معظم بعثات حفظ السلام الدولية، ومع ذلك، ومنذ إعادة تشكيلها بموجب القرار 1701 عام 2006، سمحت اليونيفيل بأن يقع هذا الإقليم تحت سيطرة حزب الله.

إن قصة اليونيفيل ليست قصة بعثة كُتب لها الفشل منذ البداية أو جرى إهمالها لاحقًا، إنها قصة اختارت البقاء حيّةً على حساب تحقيق النجاح من خلال محاولة استيعاب المخرب الذي كان من المفترض إزالته. إن الجمع بين الحفاظ على الدرجة المنخفضة من الخسائر لدى دول القوات المشتركة في البعثة، وانحياز الأمم المتحدة نحو تطويل مدة المهمة، أنتج عقلية مرتهنة. لقد كانت اليونيفيل مصممة على تحقيق هدف تجديدها، ولكنها غير مستعدة لتحمل التكاليف المترتبة على مواجهة حزب الله، ومن ثم انحرفت عن الأهداف الرئيسية التي كان تفويضها، ومواردها يمكنها من تحقيقها. هذه العقلية تحديدا، لا أي مشكلة تتعلق بلغة التفويض أو قلة الموارد هي من تفسر فشل اليونيفيل.

إنّ ما يهدّد تجديد بعثة اليونيفيل حاليا هو تماهيها مع حزب الله. ولواشنطن أن تستفيد من الوضع الحالي للبعثة، فتدفعها إلى الخروج من اختلالاتها، وتمكنها من إعادة ضبط ستراتيجي، كما أن الانتكاسات التي مني بها حزب الله، بما في ذلك تراجع ترسانته، وفقدانه طرق إعادة التسلح عبر سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، وتصفيات قياداته التي تكيّفت مع تداعيات حرب 2006، قد أوجدت بدورها سياقاً أكثر ملاءمة لتحقيق هذا الغرض.

لقد مهّد وقف إطلاق النار في تشرين أول عام 2024 الطريق أمام حكومة لبنانية جديدة لنشر عشرة آلاف جندي محلي تدريجيا في جنوب لبنان جنباً إلى جنب مع عدد مماثل من قوات البعثة الدولية، كما أن الخطة الأمريكية التي أقرّتها بيروت في مطلع آب أرست أيضاً الأساس لنزع سلاح حزب الله بصيغة مرحلية وانسحاب إسرائيلي من خمسة تلال محتلة في جنوب لبنان، وإذا ساعدت اليونيفيل في منع حزب الله من إعادة فرض وجوده على الحدود ودعمت انتقالاً سلساً مع انسحاب القوات الإسرائيلية فإنها تستطيع تحقيق مكسب كبير، وتسجيل سابقة بارزة في مرحلة مفصلية، وتعزيز مصداقية الجهود الأوسع بقيادة محلية مدعومة أمريكياً لأجل استعادة السيادة الكاملة للبنان، وتقليل مخاطر جولة جديدة من الصراع.

إذا كانت اليونيفيل بصدد النجاح فإنها بحاجة إلى إظهار عقلية جديدة لتنفيذ المهام، ومع دعوة باريس لتجديد اليونيفيل فقد تكون الخطوة الأكثر إقناعًا لقوة حفظ السلام هي الاستجابة لتهديد واشنطن بإضعاف القوة من خلال تقديم ضمانات موثوقة بأنها مستعدة لتحمل التكاليف الناتجة عن مواجهة المعرقلين.

إن تحسين التفويض، وتعزيز القوة مهمة بقدر ما تكون جزءًا من الهدف الستراتيجي الخاص بتغيير عقلية اليونيفيل، ويجب أن يؤدي هذا التغيير بالفعل إلى حدوث تأثير نوعي لدى جميع الأطراف المعنية يفتح الباب لعصر جديد.

إن عمل صياغة جديدة إلى نص التفويض يمكن أن يدعم هذا التحول الستراتيجي، فاستنادًا إلى القرار 2650 الذي اعترف بحرية حركة اليونيفيل، وقدرتها على تسيير الدوريات بشكل مستقل، ينبغي إدراج عبارات إضافية تحدد بوضوح ما يُتوقَّع منها في تنفيذ مهامها، كتفكيك مخازن الأسلحة، وتدمير الأنفاق، وغير ذلك من الأنشطة التي تتجاوز مجرد المراقبة. 

إن الهدف الأساسي ليس إضفاء وضوح قانوني فحسب بل هو أيضا توليد زخم نفسي، وإيصال رسالة إلى حزب الله والإسرائيليين، والجيش اللبناني، والدول المشتركة في البعثة بأن القوة تحوّلت جذريًا في نطاق الدور والموقف وقواعد الاشتباك.

وثمة خطوة حاسمة لترسيخ هذا الوضع الجديد تتمثل بتوسيع منطقة العمليات لتشمل –على الأقل– كل جنوب لبنان، وليس ما دون نهر الليطاني فحسب، وهو الإجراء الذي يتماشى مع وقف إطلاق النار الذي نص على وجوب نزع سلاح حزب الله ابتداءً من منطقة جنوب الليطاني، ثم التوسع ليشمل سائر لبنان، والمسودة الفرنسية المتداولة في مجلس الأمن تشير إلى وعود بإقرار ذلك الغرض عبر توضيح هدف جعل الحكومة اللبنانية الضامن الوحيد للأمن في جنوب لبنان، كما تضمنت المسودة المذكورة آنفا أحكامًا بخصوص انسحاب اليونيفيل لاحقًا، وهو تحول عن النهج السابق الذي كان يميل إلى إدامة بقاء البعثة.

إن التركيبة العامة المشكلة للقوة الدولية تظل مهمة أيضًا، فالنموذج الذي اعتمد بين 2006 و2010، أي عندما شكّلت كتائب الناتو غالبية القوة، ينبغي أن يكون هذا النموذج هو الطريق الذي يجري السير عليه قدما، فحزم هذه القوات واحترافيتها، وعقليتها العسكرية كل ذلك سيُعزّز الزخم المطلوب، وقد أبرزت العمليات الأخيرة بقيادة فرنسا ضد شبكات الأنفاق التابعة لحزب الله أبرزت إمكانات هذه القوات، وتأثيرها في تعزيز مصداقية اليونيفيل. ويجب أن يترافق ذلك مع تغيير في قيادة البعثة، ونبرتها، ورؤيتها. فإذا كان للبعثة أن تنجح، فهي بحاجة إلى قادة لديهم الإرادة لتنفيذ أغراضها بأي وسيلة ضرورية، ولديهم القدرة على إيصال ذلك بوضوح أيضا، فلا شيء يبعث برسالة ولادة بعثة جديدة مثل تغيير اسمها السابق أيضًا.

إن واشنطن تمتلك الورقة الرابحة ويجب ألا تتردد في استخدامها، فإذا لم يكن مجلس الأمن والدول المشاركة، ولبنان واليونيفيل على استعداد لقبول هذا التحول الستراتيجي، فإن ضرر بقاء البعثة أكثر من نفعها، فنصف قرن من الفشل -تقريبا- يكفي لقول وداعًا لبعثة كهذه.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

ذات صلة

إتقان العمل: شرط لبناء الدولة المتقدمةقراءة أولية في مسألة المأسسةترفيه على طبق من مخاطرإلزامية المشاركة في الانتخابات.. العوامل والاسبابسبعة كتب عن الفساد