نظام الصين البديل
اندبندنت عربية
2024-08-04 05:27
بقلم: إليزابيث إيكونومي
لم تتمكن الصين بعد من إقناع غالبية سكان الكوكب بأن نواياها وقدراتها هي المطلوبة لتحديد وجه القرن الحالي وإرساء أسسه. لذا، على أميركا وحلفائها وشركائها التوصل إلى بديل إيجابي ومقنع.
في هذه المرحلة، لم يعُد يخفى أن الرئيس الصيني شي جينبينغ يطمح إلى إعادة هيكلة العالم. فهو يريد تفكيك شبكة تحالفات واشنطن وتطهير الهيئات الدولية مما يصفه بالقيم "الغربية"، ويرغب في إطاحة الدولار الأميركي وإسقاطه من عليائه وتقليص سيطرة واشنطن الخانقة على التكنولوجيا الحيوية. وفي نظامه الجديد المتعدد الأقطاب، سترتكز المؤسسات والأعراف العالمية على المفاهيم الصينية ذات الصلة بالأمن المشترك والتنمية الاقتصادية، والقيم الصينية حول الحقوق السياسية التي تحددها الدولة، والتكنولوجيا الصينية. ولن تضطر الصين بعد الآن إلى النضال من أجل الزعامة، وستضمن حصولها على دور محوري.
وبحسب شي، فإن هذا العالم أصبح قريب المنال. ففي "المؤتمر المركزي للعمل المتعلق بالشؤون الخارجية" الذي عقد في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تفاخر بأن بكين (بحسب ما ذُكر في بيان صحافي حكومي) "دولة كبرى واثقة من ذاتها ومعتمدة على نفسها ومنفتحة وشاملة"، أنشأت "أكبر منصة للتعاون الدولي" في العالم ومهدت الطريق أمام "إصلاح النظام الدولي". وأكد أن مفهومه للنظام العالمي، باعتباره "مجتمعاً ذا مستقبل مشترك للبشرية"، تطور من "مبادرة صينية" إلى "إجماع دولي"، وينبغي تحقيق هذه الرؤية من خلال تنفيذ أربعة برامج صينية هي "مبادرة الحزام والطريق" و"مبادرة التنمية العالمية" و"مبادرة الأمن العالمي" و"مبادرة الحضارة العالمية".
ولكن خارج الصين، غالباً ما تلاقي هذه التصريحات الجريئة المتبجحة تجاهلاً أو رفضاً، بما في ذلك من قبل مسؤولين أميركيين، يميلون إلى الاستخفاف بفاعلية استراتيجية بكين. ومن السهل أن نرصد السبب وراء ذلك، إذ يبدو أن عدداً كبيراً من خطط الصين تفشل أو تأتي بنتائج عكسية. في الواقع، يقيم عدد كبير من جيران الصين علاقات أوثق مع واشنطن، بينما يشهد الاقتصاد الصيني تراجعاً. ربما كان شي راضياً عن أسلوب دبلوماسية "الذئب المحارب" القائم على المواجهة، لكن هذا النهج لم يكسب الصين سوى عدد قليل من الأصدقاء على الساحة الدولية. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن بكين لا تحظى بشعبية كبيرة على المستوى العالمي: على سبيل المثال، أجرى مركز "بيو" للأبحاث دراسة عام 2023 لاستطلاع المواقف حيال الصين والولايات المتحدة في 24 دولة في ست قارات. ووجدت الدراسة أن 28 في المئة فقط من المشاركين لديهم رأي إيجابي حول بكين، فيما اعتبر 23 في المئة أن الصين تسهم في السلام العالمي. وفي المقابل، عبّر ما يقارب 60 في المئة من المشاركين عن وجهة نظر إيجابية حيال الولايات المتحدة، في حين قال 61 في المئة إن واشنطن تسهم في السلام والاستقرار.
لكن رؤية شي أضخم مما تبدو عليه للوهلة الأولى. فمقترحات الصين من شأنها أن تمنح السلطة لبلدان عدة شعرت بالإحباط وتعرضت للتهميش بسبب النظام العالمي الحالي، بيد أنها في الوقت نفسه ستقدم أدواراً عالمية قيّمة إلى الدول التي تحظى حالياً بتأييد واشنطن. إن مبادرات بكين مدعومة باستراتيجية تشغيلية متكاملة ومنضبطة ومزودة بموارد جيدة، استراتيجية تتضمن التواصل مع الحكومات والشعوب في جميع البلدان على ما يبدو. وحصدت هذه الأساليب دعماً جديداً لبكين، خصوصاً في بعض المنظمات المتعددة الأطراف وبين الدول غير الديمقراطية. في الواقع، تنجح الصين في جعل نفسها قوة للتغيير المحمود، في حين تصور الولايات المتحدة باعتبارها المدافع عن الوضع الراهن الذي لا يحظى سوى بإعجاب عدد قليل من الدول.
وعوضاً عن تجاهل قواعد اللعبة التي تمارسها بكين، يتعيّن على صناع السياسات في الولايات المتحدة أن يتعلموا الدروس منها. ومن أجل الفوز في ما سيشكل منافسة طويلة الأمد، يجب على الولايات المتحدة أن تستولي على شعلة التغيير التي تسعى الصين إلى حملها حالياً. تحتاج واشنطن إلى أن توضح وتعزز رؤيتها الخاصة لنظام دولي متغير وأن تحدد دور الولايات المتحدة فيه، وهو نظام يشمل بلداناً ذات مستويات اقتصادية وأنظمة سياسية مختلفة. وعلى غرار الصين، يتعيّن على الولايات المتحدة الاستثمار بصورة كبيرة في الأسس التكنولوجية والعسكرية والدبلوماسية التي تضمن الأمن في الداخل والقيادة في الخارج.
ومع ذلك، في وقت تلتزم البلاد هذه المنافسة، يجب على صناع السياسة في الولايات المتحدة أن يفهموا أن استقرار العلاقات الثنائية على المدى القريب يتماشى مع الأهداف الأميركية النهائية عوضاً عن عرقلتها. ويتعيّن عليهم الانطلاق من القمة التي عقدت العام الماضي بين الرئيس جو بايدن وشي، والحد من الخطابات التحريضية المناهضة للصين وإرساء علاقة دبلوماسية أكثر فاعلية. بهذه الطريقة، ستتمكن الولايات المتحدة من التركيز على المهمة الأكثر أهمية ألا وهي الفوز في المنافسة على المدى الطويل.
رؤية أكثر وضوحاً
يبدأ كتاب قواعد اللعبة [أي قائمة الخطط والاستراتيجيات] في بكين برؤية واضحة المعالم لإعادة هيكلة النظام العالمي. فالحكومة الصينية تريد نظاماً لا يقوم على التعددية القطبية فحسب، بل أيضاً على السيادة المطلقة، والأمن المرتكز على التوافق الدولي وميثاق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان التي تختلف من دولة إلى أخرى وفق ظروفها، والتنمية باعتبارها "المفتاح الرئيس" لجميع الحلول والحد من هيمنة الدولار الأميركي والتعهد بعدم التخلي عن أي بلد أو ترك أي أحد خلف الركب. وتتناقض هذه الرؤية، بحسب رواية بكين، بصورة صارخة مع النظام الذي تدعمه الولايات المتحدة. ففي تقرير صادر عام 2023، زعمت وزارة الخارجية الصينية أن واشنطن "تتمسك بعقلية الحرب الباردة" و"تجمع التكتلات الصغيرة معاً من خلال نظام التحالف الخاص بها" من أجل "زرع الانقسام في المنطقة وتأجيج المواجهة وتقويض السلام". وتابع التقرير أن الولايات المتحدة تتدخل "في الشؤون الداخلية الخاصة بالدول الأخرى"، وتستخدم مكانة الدولار باعتباره عملة احتياطية دولية لإكراه "الدول الأخرى على خدمة الاستراتيجية السياسية والاقتصادية الأميركية"، وتسعى إلى "ردع التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي في الدول الأخرى". وأخيراً، قالت الوزارة إن الولايات المتحدة تعزز "الهيمنة الثقافية"، وأعلنت أن "الأسلحة الحقيقية في التوسع الثقافي الأميركي هي خطوط إنتاج شركتي ماتيل وكوكا كولا".
على النقيض من ذلك، تزعم بكين أن رؤيتها تخدم مصالح غالبية شعوب العالم. فالصين تحتل مكانة محورية، ولكن كل دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة، لديها دور تؤدّيه. في فبراير (شباط) خلال مؤتمر ميونيخ للأمن لعام 2024، على سبيل المثال، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي إن الصين والولايات المتحدة مسؤولتان عن الاستقرار الاستراتيجي العالمي. وفي منحى مقابل، تمثل علاقة الصين بروسيا استكشافاً لنموذج جديد من العلاقات بين الدول الكبرى، فيما تشكّل الصين والاتحاد الأوروبي أكبر سوقين وحضارتين في العالم، ويتعين عليهما أن يقاوما إنشاء كتل تقوم على أسس أيديولوجية. وباعتبارها ما أطلق عليه وانغ "أكبر دولة نامية"، تعمل الصين على تعزيز التضامن والتعاون مع الجنوب العالمي لزيادة تمثيله في الشؤون العالمية.
لقد صُمّمت رؤية الصين لتكون مقنعة وجذابة لجميع البلدان تقريباً. فالدول غير الديمقراطية ستجد أن قراراتها مقبولة ومعترف بها، بينما ستحصل الدول التي تُعتبر من الديمقراطيات، ولكنها ليست قوى كبرى على تمثيل أقوى في النظام الدولي وحصة أكبر من فوائد العولمة. وحتى القوى الديمقراطية الكبرى تستطيع أن تفكر في ما إذا كان النظام الحالي كافياً لمواجهة تحديات اليوم أو ما إذا كانت الصين تقدم بديلاً أفضل. وقد يرفض بعض المراقبين في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم الخطاب الصيني الطموح أو يسخرون منه، لكن ذلك لا يصب في مصلحتهم ربما ومن الممكن أن يحمل في طياته بعض الأخطار، ذلك أن الاستياء من النظام الدولي الحالي أدى إلى خلق جمهور عالمي أكثر تقبلاً لمقترحات الصين مقارنة بما كانت عليه الحال قبل وقت ليس بعيداً.
الركائز الأربع
على مدى أكثر من عقدين من الزمن، أشارت الصين إلى "مفهوم أمني جديد" يتضمن معايير مثل الأمن المشترك وتنوع الأنظمة والتعددية القطبية. ولكن في الأعوام الأخيرة، تعتقد الصين بأنها اكتسبت القدرة على تعزيز رؤيتها. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، أطلق شي خلال العقد الأول من حكمه ثلاثة برامج عالمية متميزة: "مبادرة الحزام والطريق" (BRI) عام 2013 و"مبادرة التنمية العالمية" (GDI) في 2021 و"مبادرة الأمن العالمي" (GSI) عام 2022. ويسهم كل منها على نحو ما في تعزيز عملية إعادة تشكيل النظام العالمي ودور الصين المحوري في جوهره.
كانت "مبادرة الحزام والطريق" في البداية بمثابة منصة لبكين لمعالجة حاجات البنية التحتية المادية في الاقتصادات الناشئة والمتوسطة الدخل مع الاستفادة من فائض قدرات الصين في مجال البناء. وتوسعت هذه المبادرة منذ ذلك الحين لتصبح محفزاً يدفع إلى الأمام استراتيجية بكين الجيوستراتيجية المتمثلة في نشر أنظمة الصين المتعلقة بالتكنولوجيا الرقمية والرعاية الصحية والتقنيات الصديقة للبيئة في جميع أنحاء العالم، والترويج لنموذجها التنموي وتوسيع انتشار كياناتها العسكرية وقوات الشرطة وتعزيز استخدام عملتها الوطنية.
في المقابل، تركز "مبادرة التنمية العالمية" على نطاق أوسع على التنمية في مختلف أنحاء العالم، وتضع الصين بصورة مباشرة في مركز القيادة. ومن خلال عملها في كثير من الأحيان مع الأمم المتحدة، تدعم تلك المبادرة المشاريع الصغيرة الرامية إلى التخفيف من حدة الفقر ومعالجة الوصول الرقمي وتغيّر المناخ والأمن الصحي والغذائي. وهي تعزز ميل بكين إلى إعطاء الأولوية للتنمية الاقتصادية باعتبارها أساساً لحقوق الإنسان. على سبيل المثال، توجه إحدى الوثائق الحكومية المتعلقة بالبرنامج اتهامات إلى الدول الأخرى بـ"تهميش قضايا التنمية من خلال التركيز على حقوق الإنسان والديمقراطية".
واستطراداً، وضعت بكين "مبادرة الأمن العالمي" كإطار لتقديم "الحكمة الصينية والحلول الصينية" في سبيل نشر "السلام والاستقرار العالميين" على حد تعبير عدد من الباحثين الصينيين. وبحسب شي، فإن هذه المبادرة تدعو الدول إلى "رفض عقلية الحرب الباردة ومعارضة الإجراءات الأحادية وتجنب السياسات الجماعية [أي استخدام التحالفات أو التكتلات السياسية لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية] والمواجهة بين الكتل". ويؤكد شي أن المسار الأفضل يتمثل في إنشاء "بنية أمنية متوازنة وفاعلة ومستدامة" تعمل على حل الخلافات بين الدول من خلال الحوار والتشاور وتدعم عدم التدخل في شؤون الآخرين الداخلية. ولكن في الواقع، خلف هذا الخطاب، صُمّمت "مبادرة الأمن العالمية" لإنهاء أنظمة التحالف الأميركية وترسيخ الأمن كشرط مسبق للتنمية وتعزيز السيادة المطلقة والأمن غير القابل للتجزئة (أو فكرة أن سلامة دولة ما ليس من المفترض أن تكون على حساب الدول الأخرى). واستخدمت الصين وروسيا هذه الفكرة لتبرير الغزو الروسي لأوكرانيا، فأشارتا إلى أن هجوم موسكو كان ضرورياً لمنع التهديد المتصور الذي يشكله توسع "الناتو" على روسيا.
لكن استراتيجية شي جينبينغ لم تكتسب زخماً إلا في العام الماضي، مع إطلاق "مبادرة الحضارة العالمية" GCI في مايو (أيار) 2023. وتعمل هذه المبادرة على تعزيز فكرة أن البلدان التي تختلف من ناحية الحضارة ومستويات التنمية سوف تكون لها نماذج سياسية واقتصادية مختلفة. وتؤكد المبادرة أن الدول هي التي تحدد الحقوق، وأن الحوار في شأن حقوق الإنسان لا يمليه بلد أو كيان واحد مفرد. وعلى حد تعبير وزير الخارجية السابق تشين غانغ: "لا يوجد نموذج واحد يصلح تطبيقه على الجميع في مجال حماية حقوق الإنسان". وبذلك فإن اليونان، بتراثها الفلسفي والثقافي ومستوى التنمية الذي تتمتع به، قد تتعامل مع حقوق الإنسان بصورة تختلف عن الصين من حيث المفهوم والتطبيق. وكلا المنظورين مقبولان على حد سواء.
في الواقع، يعمل القادة الصينيون جاهدين على إقناع الدول والمؤسسات الدولية برؤيتهم العالمية. وتتسم استراتيجيتهم بأنها متعددة المستويات، فهي تهدف إلى عقد صفقات مع كل دولة على حدة ودمج مبادراتهم أو مكونات منها في منظمات متعددة الأطراف وإدراج مقترحاتهم في مؤسسات الحكم العالمية. وتعتبر "مبادرة الحزام والطريق" نموذجاً لهذا النهج. لقد انضمت 150 دولة تقريباً إلى هذا البرنامج الذي يروج علناً للقيم الأساسية في رؤية الصين، مثل أهمية التنمية والسيادة والحقوق السياسية التي توجهها الدولة والأمن المشترك. وترافقت هذه الصفقات الثنائية مع مساعي المسؤولين الصينيين الرامية إلى ربط "مبادرة الحزام والطريق" بجهود التنمية الإقليمية الأخرى، مثل الخطة الرئيسة للاتصال "آسيان 2025" التي أنشأتها "رابطة دول جنوب شرق آسيا" (آسيان).
واستكمالاً، نجحت الصين أيضاً في دمج "مبادرة الحزام والطريق" بصورة فاعلة في أكثر من 20 وكالة وبرنامجاً للأمم المتحدة. وعملت بجد خصوصاً لمواءمة تلك المبادرة مع أجندة الأمم المتحدة البارزة للتنمية المستدامة لعام 2030. وأصدرت إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة التي يترأسها مسؤول صيني منذ أكثر من عقد من الزمان، تقريراً عن دعم "مبادرة الحزام والطريق" للأجندة المذكورة. وحصل هذا التقرير على تمويل جزئي من صندوق الأمم المتحدة الائتماني للسلام والتنمية الذي تأسس في البداية بتعهد صيني بقيمة 200 مليون دولار. ولا شك في أن مثل هذا الدعم يسهم في زيادة الاهتمام الشديد الذي أبداه عدد من كبار مسؤولي الأمم المتحدة، بمن في ذلك الأمين العام، حيال "مبادرة الحزام والطريق".
إن التقدم المحرز في مبادرات "التنمية العالمية" و"الأمن العالمي" و"الحضارة العالمية" ما زال في بداياته ومحدوداً نسبياً بصورة مفهومة. حتى الآن، لم يقدم سوى عدد قليل من القادة من دول مثل صربيا وجنوب أفريقيا وجنوب السودان وفنزويلا، دعماً خطابياً طناناً لفكرة "مبادرة الحضارة العالمية" التي تنص على وجوب احترام تنوع الحضارات ومسارات التنمية، ويمتد هذا الدعم لرؤية الصين التي تتسم بنظام لا يعطي الأولوية إلى قيم الديمقراطيات الليبرالية.
واستطراداً، حصلت "مبادرة التنمية العالمية" على دعم دولي أكبر مقارنة بـ"مبادرة الحضارة العالمية". وبعدما أعلن شي عن المشروع أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أنشأت الصين "مجموعة أصدقاء مبادرة التنمية العالمية" التي تضم الآن أكثر من 70 دولة. وطوّرت "مبادرة التنمية العالمية" 50 مشروعاً وتعهدت بتوفير 100 ألف فرصة تدريب للمسؤولين والخبراء من الدول الأخرى لزيارة الصين والتعرف إلى أنظمتها. وصممت فرص التدريب هذه لعرض التقنيات المتقدمة والخبرات الإدارية والنموذج التنموي في الصين. علاوة على ذلك، نجحت الصين أيضاً في ربط "مبادرة التنمية العالمية" رسمياً بأجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030، وعقدت ندوات ذات صلة بتلك المبادرة مع "مكتب الأمم المتحدة للتعاون في ما بين بلدان الجنوب". بعبارة أخرى، تعمل بكين على دمج البرنامج في نسيج النظام السياسي الدولي.
في المقابل، نالت "مبادرة الأمن العالمي" تأييداً خطابياً أكبر. ووفقاً لوزارة الخارجية الصينية، فإن أكثر من 100 دولة ومنظمة إقليمية ومنظمة دولية أعربت عن دعمها لهذه المبادرة، كذلك حثّ المسؤولون الصينيون مجموعة "بريكس" (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) و"آسيان" و"منظمة شنغهاي للتعاون" على تبني هذا المفهوم. خلال اجتماع منظمة شنغهاي للتعاون في سبتمبر (أيلول) 2022، روّجت الصين لـ"مبادرة الأمن العالمي" وحصلت على الدعم من جميع الأعضاء باستثناء الهند وطاجيكستان.
نجاح واسع وجاذبية جماهيرية
على النقيض من الولايات المتحدة، تستثمر الصين بكثافة في الموارد الدبلوماسية اللازمة لتسويق مبادراتها. ولديها سفارات ومكاتب تمثيلية في جميع أنحاء العالم أكثر من أي دولة أخرى، وكثيراً ما يتحدث الدبلوماسيون الصينيون في المؤتمرات وينشرون سلسلة من المقالات حول مبادرات الصين المختلفة في وسائل الإعلام المحلية.
ويحظى هذا الجهاز الدبلوماسي بدعم شبكات إعلام صينية مترامية الأطراف. فشبكة تلفزيون الصين العالمية "تشاينا غلوبل تي في نتوورك" CGTN، لديها ضعف عدد المكاتب الخارجية التي تمتلكها شبكة "سي إن إن" CNN، في حين تمتلك وكالة أنباء الصين الجديدة الرسمية "شينخوا" أكثر من 180 مكتباً على مستوى العالم. وعلى رغم أن وسائل الإعلام الصينية كثيراً ما ينظر إليها في الغرب على أنها مجرد أدوات دعائية فجة وغير موضوعية، فإنها قادرة على تقديم صورة إيجابية عن الصين وقيادتها. وفي دراسة نشرت عام 2024، أجرى فريق من الباحثين الدوليين استطلاعاً لآراء أكثر من 6 آلاف شخص في 19 دولة لمعرفة ما إذا كانت الصين أو الولايات المتحدة أكثر فاعلية في الترويج لنموذجها السياسي والاقتصادي ودورها كزعيم عالمي. في البداية، فضّل المشاركون الولايات المتحدة بغالبية ساحقة، إذ أعرب 83 في المئة من المشاركين عن تفضيلهم للنموذج السياسي الأميركي، فيما بلغت نسبة الذين أيدوا النموذج الاقتصادي الأميركي 70 في المئة، ووصلت نسبة الذين فضّلوا القيادة الأميركية إلى 78 في المئة. ولكن عندما عُرضت على المشاركين رسائل من وسائل الإعلام الصينية، سواء كانت رسائل من الحكومة الصينية وحدها، أو رسائل من مصادر حكومية صينية وأميركية في مقارنة مباشرة، أظهر المشاركون تفضيلاً للنماذج الصينية لا الأميركية.
ولتعزيز أهدافها، تعتمد بكين أيضاً بصورة كبيرة على قوة الشركات المملوكة للدولة والقطاع الخاص في البلاد. على سبيل المثال، إن شركات التكنولوجيا في الصين لا توفر التغطية [والبنية التحتية] الرقمية لمجموعة متنوعة من البلدان فحسب، بل تمكّن الدول أيضاً من محاكاة النموذج السياسي الخاص ببكين. ووفقاً لمنظمة "فريدوم هاوس"، شارك ممثلون من 36 دولة في دورات تدريبية أجرتها الحكومة الصينية حول طريقة التحكم في وسائل الإعلام والمعلومات على الإنترنت. وفي زامبيا، تسبب تبني "الطريقة الصينية" في إدارة الإنترنت، على حد تعبير وزير سابق في الحكومة، إلى سجن عدد من الزامبيين لأنهم انتقدوا رئيس البلاد عبر الإنترنت. وكشف خبراء في "المجلس الألماني للعلاقات الخارجية" German Council on Foreign Relations عن أن الصناديق الوسيطة الخاصة بشركة "هواوي" [وهي عبارة عن أجهزة في الشبكات الحاسوبية تعالج حركة البيانات وتفحصها وتصفّيها] حجبت مواقع إلكترونية في 17 دولة. وكلما زاد عدد الدول التي تتبنى المعايير والتقنيات الصينية القامعة للحريات السياسية والمدنية، تمكنت بكين من تقويض دعم النظام الدولي الحالي لحقوق الإنسان العالمية.
إضافة إلى ذلك، عمل شي على تعزيز دور الأجهزة الأمنية الصينية كأداة دبلوماسية. في الواقع، يجري جيش التحرير الشعبي الصيني مناورات مع عدد متزايد من البلدان ويقدم التدريب العسكري في جميع أنحاء الدول النامية. فخلال العام الماضي على سبيل المثال، أحضرت الصين أكثر من مئة من كبار المسؤولين العسكريين من نحو 50 دولة أفريقية ومن الاتحاد الأفريقي إلى بكين لحضور منتدى السلام والأمن الصيني- الأفريقي الثالث. واتفق الصينيون مع المشاركين الأفارقة على إجراء مزيد من التدريبات العسكرية المشتركة، وأيدوا "مبادرة الحزام والطريق" و"مبادرة الأمن العالمي"، جنباً إلى جنب مع خطة التنمية المحددة في أجندة الاتحاد الأفريقي لعام 2063، كوسيلة لتحقيق التنمية الاقتصادية وتعزيز السلام وضمان الاستقرار في القارة. وتساعد هذه الترتيبات معاً في إنشاء الإطار الأمني التعاوني الذي ترغب فيه الصين والمتمحور حول بكين.
لقد عززت الصين استراتيجيتها من خلال التحلي بالصبر واغتنام الفرص. في الحقيقة، تخصص بكين موارد هائلة لمبادراتها، مما يطمئن الدول الأخرى إلى أن دعمها سيكون طويل الأمد ويسمح للمسؤولين الصينيين بالتصرف بسرعة والاستفادة من الظروف المواتية. على سبيل المثال، أعلنت بكين للمرة الأولى عن نموذج من "طريق الحرير الصحي" عام 2015، لكنه لم يحظَ باهتمام كبير. ولكن في 2020، استخدمت الصين جائحة كورونا لبث الحياة مجدداً في المشروع. وألقى شي خطابا رئيساً أمام جمعية الصحة العالمية لكي يروّج للصين كمركز للموارد الطبية. واستطراداً، أنشأت بكين شراكات وعلاقات بين المقاطعات الصينية وبلدان مختلفة وجعلت الأولى ترسل معدات الحماية الشخصية والمهنيين الطبيين إلى الأخيرة. علاوة على ذلك، استغلت الصين الوباء لتعزيز تقنيات الصحة الرقمية الصينية والطب الصيني التقليدي (اللذين يعتبران من الأولويات بالنسبة إلى الرئيس شي) باعتبارهما نهجين فاعلين لعلاج الفيروس.
وفي الآونة الأخيرة، استخدمت الصين الغزو الروسي لأوكرانيا وما نتج منه من عقوبات غربية للدفع نحو تقليل الاعتماد على الدولار في الاقتصاد العالمي. وأصبحت تجري غالبية تجارتها مع روسيا الآن بالرنمينبي، وتعمل بكين من خلال "مبادرة الحزام والطريق" والمنظمات المتعددة الأطراف، مثل مجموعة "بريكس" (التي أعربت 34 دولة عن اهتمامها بالانضمام إليها)، على تعزيز عملية إزالة الدولرة [التخلي عن الدولار]. وفي سياق متصل، قال الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا خلال زيارة للصين عام 2023: "في كل ليلة أسأل نفسي لماذا يتعين على كل البلدان أن تبني تجارتها على الدولار. لماذا لا نستطيع التداول على أساس عملاتنا الخاصة؟".
العائدات والفوائد
من الواضح أن بكين أحرزت تقدماً في كسب تأييد لفظي من الدول الأخرى، وكذلك من منظمات الأمم المتحدة ومسؤوليها. ولكن في ما يتعلق بإحداث تغيير فعلي على أرض الواقع وحشد الدعم من مواطني البلدان الأخرى والتأثير في إصلاح المؤسسات الدولية، فإن سجل الصين أكثر تبايناً.
تسير "مبادرة التنمية العالمية" على الطريق الصحيح. فوفق تقرير أصدره المركز البحثي التابع لوكالة أنباء "شينخوا" حول التقدم المحرز على مدى عامين، فإن 20 في المئة من برامج التعاون الـ50 الأولية التي أنشأتها هذه المبادرة اكتملت، فضلاً عن ذلك اقتُرح 200 برنامج إضافي. بعض المشاريع محلي للغاية وطويل الأجل، لكن البعض الآخر سيكون له تأثير فوري أكبر، مثل مشروع توليد الطاقة من الرياح في كازاخستان الذي سيلبي حاجات الطاقة لأكثر من مليون أسرة.
على رغم أن "مبادرة الأمن العالمي" لا تزال في مراحلها الأولى نسبياً، سارع وانغ، وزير الخارجية الصيني، إلى الادعاء بأن التقارب الذي توسطت فيه بكين عام 2023 بين إيران والسعودية كان مثالاً لمبدأ "مبادرة الأمن العالمي" المتمثل في التشجيع على الحوار. ومع ذلك، حققت الصين نجاحاً أقل في استخدام مبادئ هذه المبادرة في محاولاتها لإنهاء الحرب في أوكرانيا والصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. علاوة على ذلك، أعربت دول عدة عن قلقها من أن تكون "مبادرة الأمن العالمي" بمثابة نوع من التحالف العسكري. فقاومت نيبال على سبيل المثال عدداً من المناشدات الصينية للانضمام إلى هذه المبادرة لأنها لا تريد أن تشكّل جزءاً من أي تحالف أمني، على رغم أنها من أوائل المستفيدين من مشاريع المبادرة المذكورة.
في منحى مقابل، تمكّنت "مبادرة الحزام والطريق" من تغيير المشهد الجيوستراتيجي والاقتصادي في معظم أنحاء أفريقيا وجنوب شرقي آسيا، وبصورة متزايدة في أميركا اللاتينية. توفر شركة "هواوي"، على سبيل المثال، 70 في المئة من جميع عناصر البنية التحتية لاتصالات الجيل الرابع في أفريقيا. إضافة إلى ذلك، تجاوزت استثمارات الصين في "مبادرة الحزام والطريق" لعام 2023 استثماراتها في 2022. ومع ذلك، هناك دلائل تشير إلى أن تأثير "مبادرة الحزام والطريق" ربما وصل إلى حال تباطؤ وركود. في ديسمبر (كانون الأول)، انسحبت إيطاليا، أكبر اقتصاد في المبادرة (إلى جانب الصين نفسها)، وانخفض الحضور في "منتدى مبادرة الحزام والطريق" لعام 2023 إلى 23 زعيماً لا غير، بعدما كان 37 في 2019. إضافة إلى ذلك، تراجع تمويل الصين لـ"مبادرة الحزام والطريق" بصورة حادة منذ ذروته عام 2016، وتواجه دول كثيرة مستفيدة من المبادرة صعوبة في سداد قروضها لبكين.
وعلى نحو مماثل، فإن استطلاعات الرأي العام تعطي أيضاً صورة مختلطة ومتباينة. أشار استطلاع أجراه مركز "بيو" إلى أن الاقتصادات ذات الدخل المتوسط، خصوصاً في أفريقيا وأميركا اللاتينية، تميل على الأرجح إلى تبنّي وجهات نظر أكثر إيجابية حيال الصين ومساهماتها في الاستقرار مقارنة بالاقتصادات ذات الدخل المرتفع في آسيا وأوروبا. ولكن حتى في هذه المناطق، فإن المواقف تجاه الصين ليست إيجابية بصورة ثابتة.
على سبيل المثال، تكشف دراسة استقصائية أجريت عام 2023 على 1308 شخصيات من النخب في دول "آسيان"، عن أنه على رغم النظر إلى الصين على أنها الجهة الفاعلة الأكثر تأثيراً في المستويين الاقتصادي والأمني في المنطقة، أعرب المشاركون بغالبيتهم في كل دولة، باستثناء بروناي، عن قلقهم إزاء النفوذ الصيني المتزايد. فضلاً عن ذلك، في سبعة من أصل 10 بلدان، أوضح المشاركون في الاستطلاع بمعظمهم أنهم يستبعدون أن تعود "مبادرة الأمن العالمي" بالنفع على منطقتهم. وعندما سُئلوا عما إذا كانوا سينحازون إلى الصين أو الولايات المتحدة إذا اضطروا إلى الاختيار، فإن الغالبية في سبع دول من أصل دول "آسيان" الـ10 اختارت الولايات المتحدة.
واستطراداً، تشير استطلاعات الرأي التي أجراها "معهد أفروباروميتر" لعامي 2019 و2020 إلى أن الصين تتمتع بسمعة أكثر إيجابية في أفريقيا، حيث يرى 63 في المئة من الأفارقة الذين شملهم الاستطلاع في 34 دولة أن الصين لها تأثير خارجي إيجابي. لكن نسبة المشاركين الذين يعتقدون بأن الصين هي النموذج الأفضل للتنمية المستقبلية لا تتخطى الـ22 في المئة، وانخفض التأييد للنموذج الصيني مقارنة باستطلاعي عامي 2014 و2015.
وقدّم استطلاع للرأي في 2021، شمل 336 من أصحاب الآراء المسموعة من 23 دولة في أميركا اللاتينية، نتائج معبرة بصورة مماثلة. ففي حين يعتقد 78 في المئة من المشاركين بأن تأثير الصين الإجمالي في المنطقة كبير، فإن 35 في المئة فقط لديهم رأي جيد أو جيد جداً حول الصين. (وأعرب المشاركون عن آراء مشابهة في شأن الولايات المتحدة). وكان هناك دعم للتعامل مع الصين في مجالات التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر، مقابل دعم ضئيل للمشاركة في التعاون المتعدد الأطراف والأمن الدولي وحقوق الإنسان.
وأخيراً، فإن الدعم المقدم للصين والمبادرات التي تدعمها في الأمم المتحدة متباين. على سبيل المثال، وفق دراسة مفصلة عن الاستثمار الصيني في مشروع "طريق الحرير الرقمي" DSR في أفريقيا، على رغم أن ثماني دول أفريقية مشاركة في هذا المشروع أيدت اقتراح الصين الجديد في شأن بروتوكول الإنترنت (IP) الرامي إلى زيادة سيطرة الدولة على شبكة الإنترنت، كان عدد الدول الأفريقية المشاركة التي لم تعرب عن دعمها له أكبر. وفي التصويت في فبراير (شباط) 2023 حول إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، صوّتت 141 دولة لمصلحة قرار إدانة الغزو، مقابل سبع دول ضده، وامتنعت 32 دولة عن التصويت، بما في ذلك الصين وجميع الأعضاء الآخرين في "منظمة شنغهاي للتعاون" باستثناء روسيا، مما يشير إلى رفض واسع النطاق لمبدأ "مبادرة الأمن العالمي" المتمثل في الأمن غير القابل للتجزئة. ومع ذلك، فازت الصين بدعم 25 دولة من أصل 31 دولة ناشئة ومتوسطة الدخل (لا تشمل الصين) في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في محاولة ناجحة لمنع مناقشة معاملة بكين لسكانها من أقلية الإيغور. ويذكر أنه في تاريخ المجلس، لم تُمنع المناقشة إلا مرة واحدة من قبل.
مواجهة النار بالنار
قد يبدو أن الدعم لجهود الصين محدود وسطحي بين شرائح عدة في المجتمع الدولي. ومع ذلك، لا يزال قادة الصين يعبّرون عن ثقة كبيرة برؤيتهم التحويلية، وهناك زخم كبير وراء المبادئ والسياسات الأساسية المقترحة في مبادرات "التنمية العالمية" و"الأمن العالمي" و"الحضارة العالمية" بين أعضاء مجموعة "بريكس" و"منظمة شنغهاي للتعاون"، وكذلك بين الدول غير الديمقراطية والدول الأفريقية. وقد تبدو انتصارات الصين داخل المنظمات الأهم، مثل الأمم المتحدة، متواضعة، لكنها تتراكم، مما يمنح بكين سلطة مهمة داخل المؤسسات الكبرى التي يقدرها عدد كبير من الاقتصادات الناشئة والمتوسطة الدخل. علاوة على ذلك، تتمتع بكين باستراتيجية تنفيذية ضخمة لتحقيق التحول المنشود، إلى جانب القدرة على تنسيق السياسات على مستويات متعددة في الحكومة على مدى فترة طويلة.
أحد أسباب نجاح جهود بكين هو أن النظام الحالي الذي تقوده الولايات المتحدة لا يحظى بشعبية في معظم أنحاء العالم، إذ إنه يتمتع بسجل ضعيف في مواجهة التحديات العالمية مثل الأوبئة، أو تغيّر المناخ، أو أزمات الديون، أو نقص الغذاء، وكلها تؤثر بصورة خاصة في الفئات السكانية الأكثر ضعفاً. وتعتقد بلدان عدة بأن الأمم المتحدة ومؤسساتها، بما في ذلك مجلس الأمن، لا تمثّل بصورة كافية توزيع القوى في العالم. إضافة إلى ذلك، لم يثبت النظام الدولي قدرته على حل الصراعات الطويلة الأمد أو منع نشوب صراعات جديدة. ويُنظر إلى الولايات المتحدة على نحو متزايد على أنها لا تعمل بطريقة تتماشى مع المؤسسات والأعراف التي ساعدت في إنشائها، فهي فرضت عقوبات واسعة النطاق من دون موافقة مجلس الأمن، وأسهمت في إضعاف الهيئات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية، وانسحبت من الاتفاقات العالمية خلال إدارة ترمب. وأخيراً، فإن تأطير واشنطن للنظام العالمي بصورة دورية باعتباره منقسماً بين الأنظمة الاستبدادية والديمقراطيات، يؤدي إلى إبعاد كثير من البلدان، بما في ذلك بعض الدول الديمقراطية.
وحتى لو لم تتحقق رؤيتها بالكامل، فمن دون وجود بديل جدير بالثقة، ستكون الصين قادرة على استغلال هذا الاستياء لإحراز تقدم كبير في إضعاف النظام الدولي الحالي بصورة ملموسة. إن المعركة الصعبة التي خاضتها الولايات المتحدة من أجل إقناع الدول بتجنب استخدام معدات الاتصالات الخاصة بشركة "هواوي" هي بمثابة درس قيّم في معالجة المشكلة على نحو استباقي قبل ظهورها. وسيكون من الأصعب بكثير تغيير النظام العالمي الذي قلل من قيمة حقوق الإنسان العالمية وأعطى الأولوية إلى الحقوق التي تحددها الدولة، وقلل من الاعتماد على الدولار في النظام المالي، ورسخ أنظمة التكنولوجيا التي تسيطر عليها الدولة على نطاق واسع، وفكك التحالفات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة.
ولذلك يجب على الولايات المتحدة أن تتحرك بحزم لتؤكد دورها كقوة محفزة لتغيير النظام. عليها أن تقتدي بصفحة من كتاب قواعد اللعبة الصينية وأن تغتنم الفرص، وتسعى إلى تحقيق ميزة استراتيجية في ظل تعثر اقتصاد الصين وتعرّض نظامها السياسي للضغوط. كذلك، يتعين عليها أن تعترف، وفق ما أكده شي مراراً وتكراراً، بأن العالم يشهد تغيرات "لم نشهد مثلها منذ مئة عام"، ولكن يجب عليها أن توضح أن هذه التحولات لا تشير إلى تراجع الولايات المتحدة، بل تتماشى مع رؤية واشنطن الديناميكية للمستقبل.
ويجب أن تبدأ الرؤية بالمضي قدماً في ثورة اقتصادية وتكنولوجية من شأنها أن تحول المشهد العالمي في القطاع الرقمي وفي مجال الطاقة والزراعة والصحة بطرق شاملة تعزز الرخاء العالمي المشترك. وسيتطلب هذا وضع معايير وإنشاء مؤسسات جديدة تعمل على دمج الاقتصادات الناشئة والمتوسطة الدخل في سلاسل التوريد العالمية المرنة والمتنوعة وشبكات الابتكار والنظم البيئية للتصنيع النظيف وأنظمة إدارة المعلومات والبيانات. ينبغي على واشنطن أن تقود حواراً عالمياً حول رؤيتها للتغيير المدفوع بالتكنولوجيا والقائم على المعايير العالية وسيادة القانون والشفافية والمساءلة الرسمية والاستدامة، وهي معايير الحكم الرشيد المشترك غير المثقلة بالتحيز الأيديولوجي. ومن المرجح أن تحظى مثل هذه المناقشة بشعبية واسعة، تماماً مثلما يحظى تركيز الصين على أهمية التنمية بقبول واسع النطاق.
وأرست واشنطن بعض العناصر الأساسية لهذه الرؤية من خلال مجلس التجارة والتكنولوجيا المشترك بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ والشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار. ومع ذلك، فإن الدول الأكثر انفتاحاً على رؤية الصين التحويلية تحديداً، وهي الدول التي تمثل معظم أعضاء مجموعة "بريكس" و"منظمة شنغهاي للتعاون" والاقتصادات الناشئة والمتوسطة الدخل غير الديمقراطية، استُبعدت إلى حد كبير من المعادلة. بالتعاون مع هذه الدول، يجب على واشنطن النظر في ترتيبات إقليمية مماثلة لتلك التي وضعتها مع شركائها الآسيويين والأوروبيين. ويتعين عليها ضم مزيد من البلدان إلى الشبكات التي تنشئها لبناء سلاسل توريد أقوى، مثل تلك التي أنشأها قانون الرقائق والعلوم. وينبغي توفير سبيل نحو العضوية لبلدان، مثل كمبوديا ولاوس، استُبعدت من الترتيبات القائمة ذات الصلة مثل الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. وهذا من شأنه أن يوسع التأثير التنموي للولايات المتحدة، مما يسمح لها بتوفير مسار إنمائي مختلف عن مسار بكين في "مبادرة الحزام والطريق" و"مبادرة التنمية العالمية"، وخلافاً لمبادرات الصين، يمنح الدول المشاركة فرصة للمساعدة في تطوير القواعد الدولية.
واستطراداً، يقدّم الذكاء الاصطناعي فرصة فريدة للولايات المتحدة لإظهار نهج جديد أكثر شمولاً. ومع الاعتراف بصورة متزايدة بإمكانات الذكاء الاصطناعي الكاملة، ستكون هناك حاجة إلى معايير دولية جديدة وربما مؤسسات جديدة لتسخير آثاره الإيجابية والحد من آثاره السلبية. يتعين على الولايات المتحدة، وهي الدولة الرائدة في مجال ابتكار الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، أن تتفاعل بصورة استباقية مع دول أخرى غير حلفائها وشركائها التقليديين لتطوير القواعد التنظيمية. على سبيل المثال، ينبغي توسيع الجهود المشتركة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في ما يتعلق بالتدريب على المهارات اللازمة لوظائف الذكاء الاصطناعي المستقبلية لتشمل الغالبية في العالم. ويمكن للولايات المتحدة أيضاً أن تدعم التعاون بين قطاعها الخاص القوي ومنظمات المجتمع المدني ونظيراتها في البلدان الأخرى، وهو نهج متعدد الأطراف [يتضمن أصحاب مصلحة متعددين] تتجنبه الصين عادة لأنه يتناقض مع أسلوب دبلوماسية "رئيس الدولة" [نهج دبلوماسي يقوم فيه الرئيس بدور مهيمن ومركزي في إدارة العلاقات الدولية].
سيتطلب هذا الجهد من واشنطن أن تعتمد بصورة أكثر فاعلية على القطاع الخاص والمجتمع المدني في الولايات المتحدة، مثلما أشركت الصين الشركات المملوكة للدولة والقطاع الخاص في مبادرتي "الحزام والطريق" و"التنمية العالمية"، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تعزيز الشراكات الدولية النشطة التي تبدأها الدولة ولكن تحركها المؤسسات والمجتمع المدني. وبالمقارنة مع الصين، تُعدّ الولايات المتحدة مصدراً أكبر وأفضل للاستثمار الأجنبي المباشر والمساعدات في معظم أنحاء العالم، بما في ذلك أفريقيا وأميركا اللاتينية. لم تستغل واشنطن بعد التقارب الكبير في المصالح بين أهدافها الاستراتيجية وأهداف القطاع الخاص الاقتصادية، فلم تخلق مثلاً بيئات سياسية واقتصادية في الخارج تمكّن الشركات الأميركية من الازدهار. وبما أن الشركات والمؤسسات الأميركية هي جهات فاعلة خاصة، فإن فوائد استثماراتها لا تعود بالنفع على الحكومة الأميركية. إن إضفاء الطابع المؤسسي على الشراكات بين القطاعين العام والخاص يمكن أن يربط بصورة أفضل بين أهداف الولايات المتحدة ونقاط قوة القطاع الخاص الأميركي ويساعد على ضمان عدم تجاهل المبادرات خلال التحولات السياسية في واشنطن. وعلى نحو مماثل، يتعين على المسؤولين الأميركيين زيادة فاعلية جهود المؤسسات الخاصة في الولايات المتحدة التي تستثمر مليارات الدولارات في الاقتصاديات الناشئة والدول ذات الدخل المتوسط، ودعمها من خلال الشراكات مع الحكومة.
تتطلب الحوكمة العالمية الأكثر شمولاً أيضاً أن تأخذ واشنطن في الاعتبار التنازلات المحتملة في ظل توسّع اقتصادات البلدان الأخرى وقدراتها العسكرية مقارنة بالولايات المتحدة. على المدى القريب، على سبيل المثال، يمكن أن يساعد رسم حدود سياسة العقوبات الأميركية بصورة أوضح في إبطاء الزخم وراء جهود بكين الرامية إلى تقليل الاعتماد على الدولار. لكن يجب على واشنطن استغلال هذا الوقت لتقييم مدى استمرار هيمنة الدولار على المدى الطويل والنظر في الخطوات التي يجب على المسؤولين الأميركيين اتخاذها، إن وجدت، لمحاولة الحفاظ على هذه الهيمنة. وربما تحتاج رؤية واشنطن أيضاً إلى دمج الإصلاحات في نظام التحالف الحالي. إن الحقائق الصعبة المتمثلة في قدرة الصين العسكرية المتنامية ودعمها الاقتصادي لروسيا خلال الحرب الأخيرة ضد أوكرانيا توضح أن واشنطن وحلفاءها يجب أن يفكروا من جديد في الهياكل الأمنية اللازمة لإدارة عالم تعمل فيه بكين وشركاؤها من ذوي التفكير المشابه كحلفاء عسكريين يستخدمون القوة الناعمة لكنهم قد يلجأون إلى القوة الصلبة في ظروف معينة.
الصين على حق: النظام الدولي يحتاج إلى الإصلاح
وكما هي الحال مع الصين، تحتاج الولايات المتحدة إلى زيادة الإنفاق على الجوانب الأساسية في قدرتها التنافسية وأمنها القومي في سبيل تحقيق النجاح على المدى الطويل. وعلى رغم أن السياسات الدفاعية غالباً ما تكون ضرورية، إلا أنها لا تمنح حماية إلا على المدى القصير. وهذا يعني أنه يجب على واشنطن أن تزيد مستوى التوظيف لديها لمجاراة جهاز السياسات الخارجية في بكين. في الواقع، هناك نحو 30 سفارة وبعثة أميركية تفتقر إلى سفير أميركي، يجب ملء كل هذه المناصب الشاغرة. لقد اتخذت الولايات المتحدة الخطوات الأولى لتعزيز قدرتها التنافسية الاقتصادية من خلال برامج مثل قانون الحد من التضخم وقانون الرقائق والعلوم، ولكنها تحتاج إلى استثمار مستدام في البحث والتطوير والتصنيع المتقدم. ويتعين عليها أيضاً أن تتبنى سياسات الهجرة التي تجتذب أفضل المواهب من مختلف أنحاء العالم وتحافظ عليها. إضافة إلى ذلك، يتعين على واشنطن أن تؤكد من جديد التزامها الاستثمار في أسس قدراتها العسكرية وتحديثها على المدى الطويل. ومن دون دعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي لهذه الجوانب الأساسية للقدرة التنافسية الأميركية والقيادة العالمية، ستستمر بكين في إحراز تقدم في أجندة تغيير النظام العالمي.
أخيراً، من أجل تجنب التوتر غير الضروري، يجب على الولايات المتحدة أن تستمر في تحقيق استقرار في العلاقات الأميركية- الصينية من خلال تحديد مجالات جديدة للتعاون، وتوسيع مشاركة المجتمع المدني، والتهدئة من الخطاب العدائي الذي لا داعي له وإدارة سياستها في شأن تايوان بصورة استراتيجية وتوجيه رسالة واضحة حول الأدوات الاقتصادية التي تستخدمها لحماية الأمن الاقتصادي والقومي الأميركي. وهذا سيمكّن الولايات المتحدة من الحفاظ على علاقاتها مع أولئك الموجودين داخل الصين الذين يشعرون بالقلق إزاء المسار الحالي لبلادهم، فضلاً عن منح واشنطن مجالاً للتركيز على بناء قدراتها الاقتصادية والعسكرية في حين تمضي قدماً برؤيتها العالمية الخاصة.
والصين على حق: فالنظام الدولي السائد حالياً يحتاج إلى الإصلاح. ولكن أفضل أسس لهذا الإصلاح تكمن في الانفتاح والشفافية وسيادة القانون والمساءلة الرسمية، وهي السمات التي تميّز الديمقراطيات القائمة على السوق الحرة في مختلف أنحاء العالم. إن الابتكار والإبداع الضروريين لمواجهة التحديات العالمية يزدهران بصورة أفضل في المجتمعات المفتوحة، في حين أن الشفافية وسيادة القانون والمساءلة الرسمية هي ركيزة النمو الاقتصادي العالمي السليم والمستدام. وعلى رغم أن نظام التحالفات الحالي غير كافٍ لضمان السلام والأمن العالميين، إلا أنه ساعد في منع اندلاع الحرب بين القوى العظمى في العالم لأكثر من 70 عاماً. لم تتمكن الصين بعد من إقناع غالبية سكان الكوكب بأن نواياها وقدراتها هي المطلوبة لتشكيل القرن الـ21. لذا، يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها إيجاد بديل إيجابي ومقنع.