البنى التحتية تعيد صياغة المشهد الجيوسياسي
اندبندنت عربية
2024-05-20 08:24
بقلم: ماري بريدجز
هكذا تنبع القوة من هذه الأنظمة الأساسية التي تربط العالم أجمع بعضه ببعض
نواة النفوذ الجيو-سياسي تتوسع وتشمل من ليسوا بدول
من ناحية الوزن الجيوسياسي تبدو مذهلة قوة البنى التحتية التي يمتلكها ماسك
انخفاض منسوب المياه في بحيرة "غاتون" في قناة "بنما". هجوم سيبراني على منصة دفع إلكترونية. زلزال مهول يضرب تايوان ويعطل إنتاج رقائق السيليكون الإلكترونية في البلاد. إيلون ماسك يقرر أي دول يمكنها النفاذ إلى شبكة الإنترنت.
للوهلة الأولى، تحسب أن أي قاسم مشترك لا يجمع بين هذه الأحداث والوقائع ما عدا تصدرها كلها عناوين الأخبار في الآونة الأخيرة، بيد أن ثمة رابطاً خفياً يربط بينها: كل منها دليل على اعتماد المجتمع الحديث على بنى تحتية معقدة في سير أعماله. الاضطرابات في قناة "بنما" مثلاً، تنعكس تأخراً في عمليات تسليم شحنات بضائع بالغة الأهمية حول العالم. وتتسبب الأعطال في أجهزة الكمبيوتر بعرقلة الرعاية الطبية الروتينية التي تقدمها مختلف العيادات في أنحاء الولايات المتحدة. أما التوقف القصير الأجل في إنتاج أشباه الموصلات semiconductors [تكون على صورة رقاقة ولها خصائص كهربائية معينة تمكنها من العمل كأساس للكمبيوترات والأجهزة الإلكترونية الأخرى] فتنشأ عنه حال من الهلع والذعر. وبالنسبة إلى أهواء الملياردير ففي يدها أن تغير مجرى هذه الحرب أو تلك.
التشابك المعقد والتبعية التكنولوجية المسيطرة على الحياة الحديثة جعلا الناس يعتمدون على مجموعة واسعة من أنظمة البنية الأساسية، في وقت تتنافس الحكومات على إنشاء وصيانة الشبكات التي تقدم الخدمات الأساسية، من الكهرباء إلى مياه الشفة ومروراً بالاتصالات السلكية واللاسلكية. ومعلوم أن قوة أي بلد تبقى رهناً بقدرته على التحكم في هذه المجموعة الواسعة من الأنظمة وإدارتها. وفي هذا العالم الذي تهيمن عليه البنى التحتية، نجد أن الحكومات والمسؤولين الحكوميين ما عادوا يحتكرون الإمساك بمقاليد العلاقات الدولية.
بدلاً من ذلك، تترابط الشركات والتكنولوجيا والظروف البيئية مجتمعة مع الحكومات وتتفاعل معها بغية تشكيل النظام العالمي. وعلى رغم التحول في مشهد الشؤون العالمية، غالباً ما يبقى النهج الأميركي في صنع السياسات مكبلاً بمفاهيم وتصورات عفا عليها الزمن حول المنافسة الثنائية القطبية والتنافس بين القوى العظمى.
والحق أن أوان إعطاء الأولوية للبنى التحتية باعتبارها المبدأ الحاكم في تنظيم الحياة الحديثة. لقد كشف التحول البنيوي الأساس في الجغرافيا السياسية أنه قد أصبحت لدى العالم مجموعة جديدة من وسطاء السلطة، من البنوك المتعددة الجنسيات إلى الجهات المشغلة للأقمار الاصطناعية، وأظهر أن حل المشكلات العالمية يتطلب إقامة منتديات ووضع استراتيجيات جديدة من أجل التنسيق بين أعمال تلك الجهات الفاعلة. ويفسر الدور المركزي الذي تضطلع به البنى التحتية في عالم اليوم أيضاً العوامل التي تجعل حوادث ومآزق صغيرة، على ما يبدو، من قبيل هجوم المتمردين الحوثيين على سفن الشحن في البحر الأحمر، أو تأخير الإنتاج في مصنع واحد للإلكترونيات، تطلق العنان لتداعيات تتهدد سلاسل التوريد الدولية وتقلب المشهد الجيوسياسي رأساً على عقب. والحقيقة أن التكيف مع الواقع الجديد الذي تهيمن عليه البنى التحتية، يتطلب أولاً من صانعي السياسات تنظيم أفكارهم من جديد على نحو يراعي الترابطات المادية والتكنولوجية المعقدة الكامنة وراء الصراعات الجيوسياسية، وثانياً، العمل مع مجموعة جديدة من أصحاب النفوذ بدلاً من الاعتماد على القنوات التقليدية في الحوار بين الحكومات.
البنى التحتية بين الأمس واليوم
ليست مكانة البنى التحتية مستجدة في القرن الـ21 وطارئة عليه. شاع هذا المصطلح بين أوساط المهندسين الفرنسيين في القرن الـ19 إذ استخدموه في وصف أعمال الحفر والبناء التي جعلت من عبور قطارات النقل أكثر سهولة، مثل السواتر والركائز والجسور، وليس السكك فحسب، والتي تشكل دعائم لخطوط السكك الحديد.
أما بالنسبة إلى اللغة الإنجليزية السائدة، فقد دخل إليها مصطلح البنى التحتية في أوائل الحرب الباردة، عندما استخدمه مفاوضو حلف شمال الأطلسي "الناتو" في أواخر أربعينيات القرن الـ20 وخمسينياته في حديثهم عن الأنظمة الداعمة اللازمة التي تضمن الجاهزية العسكرية في أوروبا، ومن بينها مثلاً القواعد الجوية وشبكات الاتصالات وأنظمة الرادار. في عام 1950، سخر رئيس وزراء المملكة المتحدة سابقاً ونستون تشرشل من استخدام زملائه من السياسيين هذا المصطلح. "مع العلم جيداً بأن كلمة [البنية التحتية] غير موجودة"، قال تشرشل مضيفاً أنه الأجدر به ألا يدلي "بأي تعليقات في هذا الشأن قبل الاستعانة بالقاموس"، على ما جاء في أحد التقارير.
وفي عام 1952، ذكر وزير الخارجية الأميركي آنذاك دين آتشيسون أن هذا المصطلح مربك ويتعذر فهمه [فهم تبعاته]، وفق صحيفة "نيويورك تايمز". ولكن بعيداً من هذه الاعتراضات، شاع وحاز مكانة واسعة تعبير "البنى التحتية". منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، توسل السياسيون الأميركيون بهذا المصطلح للإشارة إلى كل الخدمات والمرافق والهياكل التنظيمية وجملة أمور أخرى، بدءاً من الطرقات السريعة بين الولايات وصولاً إلى شبكات الجريمة المنظمة، ومروراً بأنظمة الرعاية الصحية.
في الواقع، يعود اعتماد الحكومات على البنى التحتية إلى قرون مضت أيضاً. طوال القرن الـ19، استغلت الإمبراطورية البريطانية هيمنتها على البنى التحتية في مجالات الخدمات المصرفية وشبكات التليغراف والنقل البحري، كي تفرض سيطرتها على المستعمرات البعيدة وتعاقب منافسيها. وعلى نحو مماثل، عززت الولايات المتحدة سيادتها على مناطق نائية مترامية الأطراف من طريق توجيه قواها البنيوية الأساسية نحو بناء خط السكة الحديد العابر للقارات وقناة "بنما".
صحيح أن السعي وراء التفوق في البنى التحتية ليس وليد اليوم، ولكن الجديد الذي تنطوي عليه النسخة المعاصرة من هذه الأنظمة هو اعتمادنا نحن عليها والتشابك والترابط المتبادلان بين الشبكات نفسها، على حد سواء. ويتحرك قرابة ثلاثة أرباع السلع العالمية، تحديداً 80 في المئة من البضائع المتداولة عالمياً، عبر شبكات بحرية وثيقة الترابط. ولا تنشأ هذه الشبكات بصورة تلقائية، بل يكون إنشاؤها وصيانتها من طريق مئات الوسطاء والأنظمة والعمليات التكنولوجية. ويقتضي إرسال شحنة عبر الحدود، شحنة زهور من كينيا إلى هولندا مثلاً، إصدار 36 مستنداً و240 نسخة [من المستندات] في المتوسط.
وليس ما ذكرناه سابقاً سوى البداية. الإنجازات الواعدة على مستوى العالم في مجال المعرفة والتكنولوجيا، من علم الجينوم إلى الطاقة المستمدة من مصادر طبيعية متجددة، تتطلب قدراً أعظم من التطور في البنى التحتية. مثلاً، تعتمد حوسبة الذكاء الاصطناعي على مليارات من "البارامترات" billions of parameters [أو "المعاملات" وفي حقل الذكاء الاصطناعي، لا سيما في نماذج اللغة الكبيرة على شاكلة "تشات جي بي تي 4" المقصود بكلمة "باراميتر" قيمة قابلة للتعديل تستخدم لضبط سلوك النموذج الذكي. تخيل أنها أزرار وكل زر منها يؤثر في كيفية معالجة النموذج للمعلومات. وكلما كان عدد البارامترات أكبر كان النموذج أكثر قدرة على التعلم والتكيف مع مختلف المهام] التي تدعمها عشرات الآلاف من وحدات المعالجة العالية التقنية. أما تصنيع هذه المعالجات فيستوجب توفر سلاسل إمداد معقدة تشتمل على آلاف الأشخاص من حملة الدكتوراه، ومعادن نادرة، وآلات متطورة، مثل آلات الليثوغرافيا الضوئية، التي تتطلب 800 جهة مزودة وتبلغ كلفة كل منها ما يعادل كلفة طائرة من طراز "بوينغ 747".
وشبكات الطاقة، وخطوط الشحن، وشبكات الذكاء الاصطناعي، ومنصات الدفع الرقمية، تعد في حد ذاتها أنظمة شديدة التعقيد، إضافة إلى أنها تعتمد على بعضها بعضاً. هكذا، يتعذر على الأطباء الإبقاء على عدد الحالات الخاصة بهم من دون الاستعانة بالبرامج الحاسوبية لإعداد الفواتير ومن دون استخدام وسائل الاتصال الرقمية. ولا يسع شركات تصنيع الإلكترونيات إنتاج الهواتف الذكية من دون وجود سلاسل توريد دولية خاصة بشرائح السيليكون الإلكترونية والمعادن الاستراتيجية. أصبحت الطبقات الكثيفة، أو الطبقات المتصلة بالكامل كما تسمى أيضاً، في أنظمة البنى التحتية الحديثة متشابكة ومتواصلة إلى حد أنها تعمل الآن كركيزة للعالم الحديث.
ولا يخفى على أحد أن الشبكات والأنظمة المترابطة القائمة في الحياة الحديثة تسفر عن عمليات معقدة كثيرة إنما تبعث على الذهول، من قبيل الحصول على إذن بعبور حدود دولية بمجرد المرور عبر مسح لشبكية العين. ولكن تنشأ عنها أيضاً أوجه ضعف كبيرة. مثلاً، أحدث هجوم سيبراني واحد على مشغل ميناء أسترالي شللاً في 40 في المئة من تدفق البضائع في البلاد. لقد أصبحت هذه الشبكات الضخمة من الأنظمة المتشابكة بالغة الأهمية في حياة المجتمع الأميركي إلى حد أن الحكومة الفيدرالية أدرجت 16 مجالاً تحت مسمى "بنية تحتية بالغة الأهمية"، مما يعني أن تدميرها سينعكس ضعفاً كبيراً على الأمن القومي في البلاد. ويشمل ذلك كل البنى التحتية من المفاعلات النووية إلى الخدمات المالية.
وسطاء السلطة الجدد
من يتمتع بسلطة أكبر، إيلون ماسك أم اليونان؟ وفق التصنيفات المالية التقليدية، يقع صافي ثروة ماسك التي تتخطى 200 مليار دولار قاب قوسين أو أدنى من الناتج المحلي الإجمالي لليونان الذي يبلغ نحو 220 مليار دولار. ولكن الاكتفاء بالتصنيفات المالية يغفل الترابط القائم بين الجهات الفاعلة العالمية في يومنا هذا من جهة، وبين الأهمية التي تكتسيها البنى التحتية في تشكيل النظام العالمي، من جهة أخرى.
من ناحية الثقل الجيوسياسي، تبدو مذهلة قوة البنى التحتية التي يمتلكها ماسك. بناء عليه، تؤثر قراراته، أو حتى تحدد بصورة مباشرة، ما إذا كان في مستطاع القوات الأوكرانية مثلاً شن هجمات ضد أهداف روسية، أو تبت في أمر وصول هيئات الإغاثة الإنسانية في قطاع غزة إلى الشبكات اللاسلكية من عدمه. وفي قبضة الرجل هذا القدر من القوة والنفوذ لأنه الآمر الناهي في شركة رحلات الفضاء المملوكة له "سبيس إكس" SpaceX، التي توفر الاتصال عبر الأقمار الاصطناعية [بكلفة منخفضة وفي الأماكن النائية] من طريق خدمة "ستارلينك" Starlink الخاصة بها. هكذا، تجد أنه صاحب القرار في متى وأين ستوفر شبكة "ستارلينك"، المؤلفة من كوكبة أقمار اصطناعية تدور في مدار أرضي منخفض، النفاذ إلى شبكات الاتصالات في خضم هذه الأزمة أو تلك. واضح أن قوة البنى التحتية التي يملكها ماسك تفوق ثروته بأشواط.
علاوة على ذلك، ليست خدمة "ستارلينك" مجرد منظومة من البنى التحتية تعمل في معزل عن الأنظمة الأخرى. بل إنها تعتمد على أنظمة أخرى وتستفيد منها، بدءاً بالجامعات حيث يتلقى المهندسون العاملون فيها تدريباتهم، وصولاً إلى حكومة الولايات المتحدة التي تعاقدت مع شركة "سبايس إكس" من أجل إنجاز مشاريع دفاعية سرية على مدى أكثر من عقدين من الزمن، بما في ذلك صفقة حديثة بقيمة 1.8 مليار دولار. في الحقيقة، صب التركيز على الدول القومية باعتبارها اللاعبة الرئيسة في الشؤون العالمية يغفل عن الطبقات المترابطة والعلاقات المتشابكة بين ديناميكيات القوة الجديدة هذه.
في العادة، تنزع العلاقات الدولية التقليدية إلى التمييز بين الجهات الفاعلة الحكومية والجهات الفاعلة غير الحكومية على اعتبار أن الأولى تعمل في مجال مختلف عن الثانية، ولكن اليوم، غالباً ما يكون رواد الأعمال أو المستثمرون أو المستشارون على قدم المساواة مع المسؤولين السياسيين. بدورهم، يؤدي الممولون دوراً مهماً جداً في صياغة السياسات الخاصة بالبنى التحتية، إذ بات توظيف الاستثمارات في هذه الأنظمة الأساسية عنصراً رئيساً في التمويل الدولي والسياسة العالمية. في عام 2018، وضعت "مجموعة العشرين" (G20) خريطة الطريق للبنى التحتية بصفتها فئة من فئات الأصول بغية تشجيع المستثمرين على تمويل المشاريع على امتدادها واختلافها، بدءاً بالموانئ وصولاً إلى المدارس ومروراً بشبكات الاتصالات، خصوصاً في الأسواق الناشئة.
وقد أنشأت مؤسسة الخدمات المالية والاستثمارية الأميركية "غولدمان ساكس" وشركة الاستشارات الإدارية الأميركية "ماكينزي" أقساماً متخصصة للتركيز على الاستثمار في البنى التحتية وتطويرها. في يناير (كانون الثاني) 2024، أعلنت "بلاك روك"، أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم، عن تحقيقها أكبر صفقة استحواذ لها منذ الأزمة المالية العالمية: شراء "غلوبال إنفراستراكتشر بارتنرز"، ثالث أكبر شركة للاستثمار في البنى التحتية في العالم.
وعلى رغم أن البنى التحتية تشكل فعلاً العمود الفقري للحياة اليومية، فإن الجهود الأخيرة لتحويلها إلى فئة من فئات الأصول تجعل منها أيضاً منتجاً مالياً يمكن تداوله في الأسواق الثانوية. وبناءً عليه، نجد أن هذا الدور المزدوج الذي تضطلع به البنى التحتية، أي كونها شكلاً مادياً ملموساً وبنية مالية في آن، يغير طريقة تعاطي الناس مع المشاريع الواسعة النطاق التي تستلزم أعمال حفر وردم وغيرها في مجتمعاتهم.
مثلاً، تحول القرارات المتعلقة بتخصيص الموارد وإدارة ديون مشروعات الطاقة الكهرومائية إلى مستويات عالية وبعيدة من مستويات اتخاذ القرار، إذ يتولى مديرو الأصول والاستشاريون تقييم الأخطار و"قابلية التمويل المصرفي" للمشاريع. أما الضغط الذي يمارسه المستثمرون بغية "الحد من الأخطار" القائمة في البنى التحتية فمن شأنه أن يؤدي إلى تقييد عملية صنع القرار في المجتمعات في شأن تشييد هذا المشروع أو ذاك من عدمه، وفي شأن طريقة تشغيل هذه المشروعات. ويسهم هذا النموذج في تحفيز الحكومات على الامتثال للمعايير التي وضعها "البنك الدولي" أو "بنك التنمية الآسيوي"، مثلاً، بدلاً من التركيز على ما إذا كان في المستطاع تلبية حاجات المجتمعات المحلية بصورة أفضل من طريق مشاريع غير مجزية مالياً [لا تحقق عوائد كبيرة] تحظى بـ"قبول مصرفي" ضعيف، مثل المستشفيات والمدارس.
في جعبة العالم مجموعة جديدة من مقاولي السلطة بدءاً بالبنوك المتعددة الجنسيات وصولاً إلى الجهات المشغلة للأقمار الاصطناعية
واليوم، لا يقتصر المقاولون العالميون النافذون على البلاد والشركات التي تبني شبكات معقدة، بل يشملون أيضاً الكيانات التي تضع المعايير، من بينها مثلاً "المنظمة البحرية الدولية" (IMO) و"مجموعة مهندسي شبكة الإنترنت" (IETF)، والتي تحدد شكل البروتوكولات العالمية اللازمة لتشييد البنى التحتية وتشغيلها. ويؤدي هذا التحول إلى تراجع قوة المجتمعات المحلية ورفع مستوى الطبقة المتوسطة من اللاعبين الدوليين، الشركات الاستشارية من قبيل "إي واي" (EY) و"كيه بي أم جي" (KPMG)- شركات محاماة متعددة الجنسيات من بينها "كليفورد تشانس" و"وايت أند كيس"- كما لاحظ الباحث القانوني ناهويل مايسلي. مثلاً، من شأن الدفع باتجاه توحيد وتسريع "البنى التحتية الخضراء" التي تراعي خير البيئة أن يعرقل الطريقة التي تعالج بها المدن انعدام الأمن السكني، ويعوق في خضم ذلك زيادة التحسينات.
أبعد من الأيديولوجية
في قلب المنافسة بين الصين والولايات المتحدة يتجلى صراع من أجل السيطرة على البنى التحتية القائمة. ويبدو أن بكين تعرف كيف تخوض هذه المعركة، بيد أن المساعي الأميركية لمواجهة مشاريع البناء الضخمة في الصين بمشاريعها الخاصة تشير إلى أن واشنطن لم تتقن التفاصيل الدقيقة في فن إدارة البنى التحتية. وعلى الدوام يصور صانعو السياسة في الولايات المتحدة الصين على أنها تمثل تحدياً وجودياً للنظام العالمي الحالي. إنها "معركة بين الديمقراطية والاستبداد"، كما جاء على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن. ويعبر هذا التوصيف عن نظامين ينافس أحدهما الآخر عله يبسط هيمنته على موارد محدودة. أن تظفر الصين بأي فوز، من قبيل سيطرتها على برمجيات إدارة العمليات اللوجيستية، فإنها بذلك تتهدد أمن الولايات المتحدة.
وعلى خلاف ذلك، يدفع التفكير في البنى الأساسية إلى ما يتجاوز الثنائيات الأيديولوجية، باتجاه التركيز على طريقة عمل الجهات الفاعلة المختلفة على صياغة شروط المشاركة وتحديد شكل الأنظمة التي تنقل المعلومات، والأموال، والسلع. وتسلط هذه المقاربة الضوء على الشبكات المادية الملموسة الخاصة بالاتصالات، والتمويل، والمشتريات العسكرية، والشحن، والتصنيع، بدلاً من التركيز على صراع وجهات النظر العالمية.
وقوة الشبكات القائمة لا تقوم غالباً على تصاميم كبرى من ابتكار مصممي مخططات رئيسين، بل على ما يسمى علاقات الدرجة الثانية، وروابط طويلة الأمد، وتطور تدرجي للمشروع. فقبل كل شيء، ليست البنى الأساسية استثماراً لمرة واحدة في صب خرسانة أو تجريف خندق. بل لا بد من صيانة المشاريع وخدمتها وتمويلها طوال عقود من الزمن. وفي الغالب، تقوم العلاقات المستوى الثاني، أي العمل المستمر لشركات الصيانة، والوكلاء الماليين، والخدمات الإضافية، بتحويل العقود المتفرقة إلى روابط دائمة.
من المنظور التقليدي للجغرافيا السياسية، ليست البنى التحتية سوى حلبة صراع أخرى بين القوى المتنافسة، بيد أن هذه المقاربة تخطئ في تحديد مدى قوة البنى التحتية. ذلك أن السيطرة الحقيقية ليست رهناً، مثلاً، بجنسية مالك منصة برمجية فحسب، بل إنها محكومة أيضاً بوظائف تلك المنصة، والمستخدمين الذين تسهم في تمكينهم، والأنشطة التي تمنعها أو تسمح بها.
أما وضع البنى التحتية في إطار أكثر إيجابية فيتجاوز التنديد ببرامج حاسوبية صينية أو السعي إلى "إعادة توطين" صناعات لم تشهدها الولايات المتحدة منذ ثمانينيات القرن الـ20 (مثلاً، إنتاج رافعات الحاويات، علماً أن الصين تهيمن على هذه السوق الآن). على النقيض من ذلك، فإن اعتماد نهج قائم على البنى التحتية من شأنه أن يسفر عن تصورات لمجموعة استراتيجيات تضمن بأن تكون الشبكات البالغة الأهمية، مثل أنظمة شحن البضائع والدفع، مرتبطة بعلاقات السوق، والمعايير، وأطر تنظيمية توفر الشفافية والمساءلة.
في الحقيقة يعتمد أداء البنى التحتية على أوجه استخدامها من الناس، وليس فقط على الجهة التي تتولى بناءها. وخير مثال على هذا الطرح المراحل الأولى من تاريخ الإنترنت: كان من المفترض وفق بنيتها الهندسية أن ترتكز إلى تصميم قائم على المساواة وشامل، ويجعل الوصول إلى المعلومات في متناول الجميع. ولكن سرعان ما تغيرت حال هذا التصميم، في وقت اغتنمت شركات ما انفكت تزداد أوليغارشية [قلة محتكرة لهذه التكنولوجيا والمستفيد الأكبر منها] فرصة جمع أرباح باهظة لنفسها ولمساهميها. لذا، فإن تشييد بنية تحتية ما لا يحدد مسبقاً شكل استخدامها من جانب المجتمعات.
وعلى المنوال عينه، فإن النشأة الصينية لأي برنامج حاسوبي أو منصة إلكترونية لا تحتم إدراجهما في سجل منافسة القوى العظمى أو تصنيفهما بصورة قاطعة بأنهما مناهضان للديمقراطية. خلافاً لذلك، يكشف التبني الدولي للبنى التحتية المركزية كيف أن التحكم فيها تحول إلى منافسات جيوسياسية. إنها الركيزة، أي التحصينات والسدود، التي تدعم "المنافسة الاستراتيجية"، والأخيرة كلمة طنانة يؤثر استخدامها المخططون الأمنيون الأميركيون والأوروبيون. وكي تتمكن الولايات المتحدة من التنافس بكفاءة أكبر وفق هذه الشروط، يتعين على صانعي السياسات أن يبقوا متيقظين للتنفيذ، والإدارة الطويلة الأجل، والإشراف على ربط المجتمعات الحديثة بعضها ببعض.
دعوة للمبادرة
في الولايات المتحدة، خصص "قانون خفض التضخم" لعام 2022 و"قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف" لعام 2021 أكثر من تريليون دولار من أجل تجديد البنى التحتية في البلاد. وفي المقابل، وظف الاتحاد الأوروبي بدوره استثمارات في تصنيع أشباه موصلات أوروبية، وإنتاج الطاقة من مصادر متجددة، ولجم الأضرار التي يطرحها تغير المناخ. ولكن إذ يعيد العالم ربط مناطقه بعضها ببعض، ما زال زعماء العالم اليوم ملتزمين مفاهيم بالية حول جيوسياسات تهيمن عليها الدولة. إنه الوقت المناسب ليعيد صانعو السياسات توجيه مقاربتهم حول مكامن القوة الحقيقية في النظام العالمي، وكيفية تسخيرها في سبيل إيجاد حلول لمشكلات اليوم.
أولاً، على صانعي السياسات أن يصبوا جل تركيزهم على الحوكمة أكثر من تركيزهم على الحكومات. مثلاً، ربما تحمل قرارات ماسك أو بلاك روك ثقلاً أكبر مقارنة بقرارات الإمارات العربية المتحدة أو الدنمارك. ما إن تحدد حكومة الولايات المتحدة الحراس والمصممين والممولين والمنفذين الذين يتحكمون في إنجاز الخدمات على مختلف مستوياتها، يسعها أن تفهم بصورة أفضل كيف تدار الشبكات، وأن تعرف نقاط الضعف التي تخلقها. في عالم يسمح لمجموعة صغيرة من المتمردين المسلحين بأن تتهدد ممراً حيوياً تعتمد عليه 15 في المئة تقريباً من التجارة العالمية، ليس كافياً استعراض القوة الصارمة لمواجهة تهديد المتمردين للشحن الدولي. وفوق ذلك، تعد منطقة البحر الأحمر أيضاً نقطة عبور للاتصالات يمر عبرها 90 في المئة من سعة الكابلات البحرية بين أوروبا وآسيا. يشكل غرق السفن أو تعرضها للاستهداف خطراً على ترابط شبكات الاتصال، كما شهد العالم عندما تسببت حادثة من هذا النوع بقطع عدد من الكابلات في مارس (آذار) الماضي، معطلة ربع حركة البيانات التي تمر بين أوروبا وآسيا. لذا فإن تعزيز القدرة على الصمود لا يعني التصدي للتهديد القريب فحسب، بل أيضاً التعاون مع شركات التأمين وشركات الشحن والجهات المشغلة للكابلات وغيرها في سبيل حماية البنى التحتية الأساسية.
وفي الوقت نفسه، ازدادت تعقيداً المشكلات التي تكتنف العالم. فعلى سبيل المثال، تقتضي إدارة مستقبل الطب الحيوي، وإطلاق العنان لوعد الاستنساخ وتقنيات التعديل الجيني [من خلال "إعادة كتابة المادة الوراثية" لأي كائن حي من النبات والحيوان والبكتيريا والخمائر]، موازنة أخطارهما في الوقت نفسه، سيتطلبان مفاوضات رفيعة المستوى واتفاقيات معقدة، ليس بين الحكومات وحدها. لقد ثبت من السياسة العامة المتعلقة بالتحليق في الفضاء واستخدامات الفضاء الخارجي، ومن استجابة الدول للجوائح [كورونا أخيراً] أن الحكومات الوطنية إذا عملت منفردة، فإنها تفتقر إلى القوة والأدوات اللازمة للتنظيم الفاعل. في تنظيم البنى التحتية، تضطلع الدول بدور قيادي إنما عليها أيضاً أن تتوسل بأشكال جديدة في التعاون مع شركاء جدد وخصوم تقليديين.
ولما كانت مشاريع البنى التحتية تتمركز في منطقة وسطى بين القطاعين العام والخاص، فإنها غالباً ما تكون محمية من المنافسة في السوق التقليدية ومن المساءلة العامة. وفي العادة، يتطلب بناء شبكات واسعة النطاق كلفة باهظة، ويستغرق وقتاً طويلاً، ويعتمد على التزامات عامة وتراخيص. ومن الممكن أن تؤدي عملية صنع القرار المركزية إلى خفض كلف المعاملات، وعادة ما يتربح مشغلو الشبكات من كون "الأثرياء يزدادون ثراءً". ولا تخضع هذه السمات للحكم الديمقراطي أو المساءلة العامة. وتمس حاجة العالم إلى آليات أفضل تكفل قدرة البنى التحتية للحياة الحديثة على النزول على دعوات المجتمعات المطالبة بالعدالة والشفافية والتوزيع العادل للموارد.
ومع انقسام تكتلات البنى التحتية إلى مجالات ذات ميول أميركية وأخرى ذات ميول صينية، فإن حلقة الوصل بين مواقع مثل قطر وسنغافورة وتركيا والإمارات العربية المتحدة ستكتسب مكانة بارزة، وسيصبح الوسطاء المحايدون أكثر أهمية، كما يقول ألكسندر غيزلر من "جمعية سماسرة السفن الألمانية". الشك المتبادل الذي ينظر به صانعو السياسات في الصين والولايات المتحدة إلى البنى التحتية لدى بعضهم بعضاً يعزز النشوء المحتمل لخصائص وأنماط مختلفة من الانغلاق. ربما تتركز منصة الدفع الخاصة بتكتل ما حول الدولار الأميركي في حين تعمل البنية البديلة على تمكين حركة الرنمينبي الصيني وغيره من عملات.
وبالمثل، في متناول شبكة واحدة من شركات الخدمات اللوجيستية والشحن أن تجعل من التجارة بين الولايات المتحدة وحلفائها أكثر يسراً، فيما توفر التكنولوجيات والأجهزة المدعومة من الصين الاتصال بين المراكز البحرية الأخرى. ونتيجة المنافسة المستعرة في البنى التحتية من المرجح أن تتصاعد المعارك حول المعايير في السنوات المقبلة، فيما تزداد أهمية الأماكن والكيانات القادرة على أداء دور جهات وساطة موثوق بها.
وإذ تترابط التحديات العالمية وتؤثر بعضها في بعض، ستضيع من بين أيدي زعماء العالم الفرص إذا لم يتبينوا بوضوح أكثر التأثير الذي تطرحه البنى التحتية اليوم. معلوم أن القوة العالمية ما عادت تتحدد عبر تخزين الذخائر في المخابئ، أو السيطرة على سلسلة توريد واحدة، أو ممارسة الهيمنة على تكنولوجيا دون غيرها. في الواقع، تشكل شبكات التكنولوجيا المتقدمة مركزية في الأداء الأساس للمجتمعات الحديثة، ولكن البنى التحتية اليوم متعددة الأوجه والطبقات ومترابطة إلى حد يجعل أي دولة عاجزة عن السيطرة عليها بمفردها. وفي عصر البنى التحتية، تقتضي صياغة النظام العالمي من الزعماء السياسيين إيجاد سبل جديدة للتعاون مع رجال الأعمال، والبنائين، والمصرفيين، ومشغلي المعدات والآلات، إذ يتولى هؤلاء زمام الأنظمة المترابطة التي تشكل عماد الحياة في القرن الـ21.