مخاطر الاجتياح البري لغزة

مركز كارنيغي

2023-10-22 09:27

بقلم: مايكل يونغ

فيما تفكّر إسرائيل في غزو القطاع، قد تسفر حملتها عن تداعيات إقليمية هائلة تتعدّى الحرب.

ما الهدف الذي تتوخّاه إسرائيل من التوغّل البري في قطاع غزة، عدا ضمان "إنهاء وجود حماس في غزة"، على حدّ تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يائير لابيد؟ يتّضح أن التصريحات الواثقة من نفسها كتلك التي أدلى بها لابيد تصطدم في الكثير من الأحيان بالواقع، وخصوصًا في سياق محفوف بالتقلّبات كما هو الحال في الحرب الراهنة، حيث يزداد المشهد تشويشًا يومًا بعد يوم.

من المنطقي أن نفترض أن تدمير مستشفى في غزة يوم الثلاثاء قد يشكّل عائقًا أمام تنفيذ إسرائيل هجومها البري على القطاع. أصرّت إسرائيل على أن المستشفى أُصيب نتيجة خلل في صاروخ أطلقته حركة الجهاد الإسلامي. لكن من دون إجراء تحقيق موضوعي في الهجوم، لماذا قد يصدّق أي أحد الإسرائيليين؟ فهم كذبوا بشأن مجزرة قانا التي وقعت في نيسان/أبريل 1996 في لبنان، إذ قالوا إن قصف مقرٍّ تابع للأمم المتحدة كان نتيجة خطأ، قبل أن يناقض التقرير الصادر عن الأمم المتحدة هذا التقييم. وكذب الإسرائيليون أيضًا في قضية قتل الصحافية شيرين أبو عاقلة في شهر أيار/مايو 2022. فبعد أن حاولوا بدايةً إلقاء اللوم على الفلسطينيين، خلُص الإسرائيليون لاحقًا إلى أن ثمة "احتمالًا كبيرًا" بأن تكون الصحافية قُتلت "عن طريق الخطأ" برصاص إسرائيلي كان يستهدف المقاتلين الفلسطينيين. لكن التحقيقات التي أجرتها مؤسسات إعلامية عدة من ضمنها CNN، وNew York Times، وWashington Post، وAssociated Press، إضافةً إلى موقع Bellingcat، ولجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، دحضت نقاطًا أساسية في الرواية الإسرائيلية.

حتى لو افترضنا أن مستشفى غزة قد أُصيب عن طريق الخطأ بصاروخ فلسطيني، فالانقسام بين الفلسطينيين والإسرائيليين حادٌّ للغاية بحيث ما من أحد مهتمٍّ فعلًا بمعرفة الحقيقة. بعبارة أخرى، لقد قتلت إسرائيل ما يكفي من الضحايا، وارتكبت ما يكفي من جرائم حرب (وحماس أيضًا) في حملتها العسكرية الحالية، بحيث ضاق صبر كثيرين في المنطقة وسائر دول العالم من السماح بحدوث اجتياح مفتوح أمام كل الاحتمالات، سيتسبّب بوقوع المزيد من المجازر في صفوف السكان المدنيين.

يعتقد البعض أن إسرائيل ستنفّذ هجومها البري في مطلق الأحوال، وهم محقّون في ذلك على الأرجح. لكن هذا ليس السؤال الأهم. بل الأكثر دلالةً هو ما تأمل هذه العملية في إنجازه، إذ ألمح المسؤولون الإسرائيليون مرارًا إلى أنهم سيحتاجون إلى الوقت، وربما إلى أشهر عدة، لتحقيق أهدافهم. ونظرًا إلى أن اجتياح غزة لم يبدأ بعد، يبدو أن ثمة ما يؤخّر هذه العملية. إذا أردنا أن نقدّم تخمينًا مدروسًا، فقد يُعزى السبب إلى مزيج من العوامل، مثل تعقيد التخطيط لعملية عالية المخاطر كهذه، والحثّ الأميركي لإسرائيل بأن تتقدّم بخطوات حذرة، والطلب الذي نقله عن لسان الجيش الإسرائيلي العسكريان السابقان والعضوان الحاليان في حكومة الوحدة الوطنية، بيني غانتس وغادي آيزنكوت، بإيضاح الأهداف المتوخّاة في غزة.

يعلم الأميركيون أن اجتياح قطاع غزة يزيد بشكل كبير من احتمالات اندلاع حرب إقليمية. وفي حال امتدّت رقعة الصراع، من المرجّح أن تشمل أيضًا استهداف القوات والمصالح الأميركية في مختلف أرجاء الشرق الأوسط. قد يتساءل المرء عمّا إذا هذا ما كان يدور في ذهن الرئيس جو بايدن حين أبلغ المسؤولين الإسرائيليين خلال زيارته إلى إسرائيل هذا الأسبوع أن القرارات في زمن الحرب تستوجب "التفكير المتأنّي. وتتطلّب طرح أسئلة صعبة للغاية. وتستلزم أيضًا تحديد الأهداف بوضوح، وإجراء تقييم صادق حول ما إذا كانت الخطوات التي يتم اتخاذها تحقّق هذه الأهداف".

يدرك الجيش الإسرائيلي بدوره أن الدخول في متاهة غزة وشوارعها المليئة بالأنقاض سيكبّده خسائر كبيرة في صفوف جنوده وهم يخوضون المعارك ضد مقاتلي حماس الذين يتمتّعون بأفضلية القتال على أرضهم. قد يكون تحقيق النجاح ممكنًا إذا تم تحديد الأهداف وحصرها، لكن حتى الحين لا تزال أهداف إسرائيل المُعلنة مُبهمة ومُفرطة الطموح وترتكز على تصوّر خاطئ لما سيتقبّله المزاج الإقليمي والعالمي.

إضافةً إلى ذلك، لا يبدو التناغم وثيقًا بين المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين حول أهداف هذه العملية. ففي مقابلة مع برنامج "60 دقيقة" (60 Minutes) بُثّت يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر، بدا أن بايدن يريد الشيء ونقيضه في الوقت نفسه حين قال إنه سوف يُبلغ الإسرائيليين أن احتلال غزة سيكون خطأً كبيرًا، قبل أن يُردِف قائلًا إن عليهم "مطاردة حماس". لكن ما الذي تعنيه "مطاردة حماس" إن لم تُبقِ إسرائيل وجودًا عسكريًا في غزة – أي أن تعمد فعليًا إلى احتلال القطاع - تضمن من خلاله ألّا تعيد الحركة إحياء نفسها؟

بعبارة أخرى، إن لم تكن إسرائيل مستعدة لدخول كل بيت من بيوت غزة والقبض على عشرات الآلاف من الشبّان الذين يُشتبه بأنهم أعضاء في حماس، ونقلهم إلى إسرائيل (وهذا أمرٌ من المستحيل تحقيقه تقريبًا)، فما من ضمانات بأنها قادرة على القضاء على هذه الحركة. وهذا مع افتراض أن الفرصة ستكون متاحة أصلًا أمام الإسرائيليين للطرق على الأبواب والتحقيق في الأشخاص لتحديد ولاءاتهم في خضمّ الجبهات العسكرية المفتوحة من لبنان وسورية وربما الضفة الغربية أيضًا. هذا السيناريو مثيرٌ للسخرية إلى حدٍّ بعيد بحيث يستحيل تخيُّل حدوثه.

من المُحتمل أيضًا أن يجرّب الإسرائيليون تكتيكًا آخر يتمثّل تحديدًا في تكرار نموذج حصار بيروت الغربية في العام 1982. آنذاك، أحكمت القوات الإسرائيلية الطوق على القيادة الفلسطينية في الجزء الغربي من العاصمة اللبنانية وقطعت إمدادات المياه والكهرباء ومعظم المواد الغذائية الطازجة. وكان هدفها إرغام الفلسطينيين على الخروج من بيروت، وقد نجحَت في تحقيق هذا المسعى. لقد عشتُ هذا الحصار الذي دام ثلاثة أشهر تقريبًا، وأذكر بوضوح أن الفلسطينيين لم يوافقوا على المغادرة إلّا بعد مفاوضات شاقة تمت بوساطة المبعوث الأميركي إلى لبنان فيليب حبيب، على الرغم من أن إسرائيل امتلكت اليد العليا على المستوى العسكري. والأهم أن خروج الفلسطينيين لم يُفضِ بأي حال من الأحوال إلى القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية ولا إلى إنهاء وجودها في لبنان. بعبارة أخرى، بيّنت التجربة اللبنانية أن هذه العملية، إذا حاول الإسرائيليون تكرارها في غزة، قد تستغرقهم وقتًا أطول مما يمكنهم توفيره، ومن المستبعد أن تكون فعّالة بالكامل.

إذًا، الخيارات المتاحة أمام إسرائيل ليست مثالية، حتى من دون الخوض في تفاصيل نشوب صراع مع حزب الله، ما قد يزيد أهدافها العسكرية والسياسية تعقيدًا. أضِف إلى ذلك أننا لا ندري ما الإجراءات التي قد تلجأ إليها واشنطن لكبح جماح العمليات الإسرائيلية في إطار سعيها إلى تفادي اندلاع حرب إقليمية. بالنسبة إلى الأميركيين، إذا اتّسعت رقعة الصراع في غزة لتشمل جميع الجبهات - أي في داخل إسرائيل أو أبعد من ذلك لتطال القوات الأميركية في الشرق الأوسط - فقد يعني ذلك أن خصوم أميركا لا يرغبون في ما هو أقل من إنهاء الوجود الأميركي في المنطقة وشلّ إسرائيل على نحو حاسم.

قد يبدو ذلك مبالغًا فيه، وهو كذلك إلى حدٍّ ما. لكن واقع الحال هو أن إيران أنشأت في جميع أنحاء المنطقة شبكات من الوكلاء والقوات الحليفة لها، التي هي في الكثير من الأحيان أقوى من الدول التي تعمل فيها. وإذا أدرجنا في الحسبان رغبة الولايات المتحدة في تفادي التورّط في نزاعات المنطقة، فلن تبقى فكرة اتّخاذ خطوة حاسمة نحو طرد الأميركيين مفهومًا عبثيًا كما تبدو للوهلة الأولى، ولا فكرة إغراق إسرائيل في حالة دائمة من انعدام الأمن والاستقرار. وبالتالي، فإن الخيار الوحيد أمام الولايات المتحدة وإسرائيل، إذا شعرتا بالضعف وتلمّست إسرائيل تهديدًا وجوديًا يترصّدها، هو أن تعمَدا إلى شنّ هجومٍ على إيران نفسها. غالب الظن أن نتيجة عملية كهذه ستكون كارثية، ولا سيما أن الصين وروسيا ستقفان إلى جانب طهران، في منطقة معادية على نحو متزايد للأميركيين والإسرائيليين.

هل من الممكن تجنّب هذا السيناريو؟ بالتأكيد، إلّا إذا دعمت إدارة بايدن اجتياحًا إسرائيليًا لغزة يُسمَح له بإشعال حرائق في المنطقة من دون أن يحقّق على الأرجح أهدافه المُبتغاة. يُشار إلى أن تقاطع القوى في الشرق الأوسط لا يصبّ بالضرورة في صالح الولايات المتحدة وإسرائيل. كذلك، إن الرأي العام الأميركي ليس مستعدًّا لدعم حملة عسكرية طاحنة تهدف إلى إعادة فرض النفوذ الأميركي في المنطقة، ومن غير الواضح أيضًا ما إذا كان المزاج العام في أوساط حلفاء واشنطن من العرب يختلف كثيرًا عن هذا الموقف. لقد عبّرت الولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا عن رغبتها في فكّ ارتباطها بالشرق الأوسط، لكنها لم تُلاحظ أن الشرق الأوسط هو الذي يفكّ ارتباطه بها.

https://carnegie-mec.org/

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي