حرب تشرين ثانية في إسرائيل–فلسطين
مجموعة الازمات الدولية
2023-10-14 06:05
في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، شنّت حماس هجوماً هائلاً على إسرائيل، دفع إلى ظهور مقارنات فورية مع الصراع الذي نشأ عام 1973، عندما اخترق الجيشان المصري والسوري على نحو مماثل الدفاعات الإسرائيلية. في هذا العرض المكوَّن من أسئلة وأجوبة تقدم مجموعة الأزمات ما حدث والوجهة التي يمكن أن يتخذها القتال.
ما الذي حدث؟
في الساعات الأولى من 7 تشرين الأول/أكتوبر، شنّت حماس ما سمّتها عملية طوفان الأقصى، على شكل هجوم متعدد المحاور على إسرائيل، بما في ذلك البلدات الإسرائيلية الحدودية التي تحيط بقطاع غزة. انهمرت آلاف الصواريخ على مناطق في إسرائيل في الساعات القليلة الأولى. ومنح هذا غطاء لمقاتلي حماس، الذين أطلقوا مسيَّرات مسلّحة لقصف أجزاء من نظام الإنذار الإلكتروني الحدودي، واخترقوا المواقع العسكرية الإسرائيلية والسياج الأمني المحيط بقطاع غزة، أو طاروا فوق السياج بمظلات مزوّدة بمحركات، فاخترقوا المناطق الحضرية وقتلوا أو اختطفوا إسرائيليين، وكثير منهم مدنيين، بمن فيهم أطفال وكبار في السن. وحاول بعض المسلحين التسلل إلى إسرائيل بحراً.
مع منتصف صباح اليوم نفسه، كانت الطائرات الإسرائيلية قد شنت غارات على ما يُعتقد أنه منشآت لحماس في قطاع غزة، وشمل ذلك هدم عدة أبراج سكنية. استمرت هذه العمليات طوال يوم 8 تشرين الأول/أكتوبر وحتى اليوم التالي. كما بدأت إسرائيل بإرسال وحدات جيشها إلى الجنوب؛ حيث بدا أن أولويتها الأولى تتمثل في استعادة التجمعات السكانية الحدودية التي وقعت تحت سيطرة مقاتلي حماس. واقتربت تلك العملية على ما ذُكر من اكتمالها مع نهاية يوم 8 تشرين الأول/أكتوبر. لم تبدأ المرحلة التالية بعد، لكن يبدو أن إسرائيل تحضِّر لهجوم بري لتحرير الرهائن الإسرائيليين الذين تحتجزهم حماس، وتلقين التنظيم درساً أو حتى إسقاطه من السلطة. وقد استدعت 300,000 من جنودها الاحتياطيين.
ارتفعت أعداد القتلى والجرحى على كلا الجانبين بسرعة؛ ففي 9 تشرين الأول/أكتوبر، قالت مصادر إسرائيلية إن ما لا يقل عن 800 إسرائيلي كانوا قد قتلوا وأكثر من 2,300 جرحوا. وشمل القتلى أكثر من 200 مدني أُطلقت النار عليهم فيما يبدو في حفل موسيقي في الصحراء. على الجانب الفلسطيني، ذكرت السلطات الصحية أن أكثر من 500 فلسطيني قتلوا وأكثر من 2,700 جرحوا، بشكل رئيسي في الغارات الجوية الإسرائيلية على قطاع غزة. وما يزال كثيرون مجهولي المصير على الجانبين.
من المؤكد أن الخسائر البشرية سترتفع أكثر مع استمرار القتال. ولا شك أن المدنيين سيتحملون العبء الأكبر مع تصاعد الصراع، ولا سيما في السيناريو المحتمل المتمثل في غزو بري إسرائيلي لقطاع غزة. في 9 تشرين الأول/أكتوبر، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أن إسرائيل ستمنع وصول ”الكهرباء، والغذاء، والوقود" إلى قطاع غزة، وتوعَّد بفرض “حصار كامل“. وكان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد تعهد بتحويل أجزاء من قطاع غزة إلى ركام. وحذّر المدنيين الفلسطينيين كي يغادروا، لكن بالنظر إلى أنهم لا يستطيعون الوصول إلى مصر، من جهة، أو إسرائيل، من جهة أخرى، فإنهم لا يستطيعون المغادرة إلى أي مكان.
بالنظر إلى أن القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين أُخذوا على حين غرة في يوم عطلة ’سمحات توراة’، الذي تزامن في عام 2023 مع عطلة يوم السبت اليهودية، فإن ردهم كان بطيئاً. كان غالانت أول المتحدثين علناً بعد ساعات من بداية عملية حماس، قائلاً إن الحركة الإسلامية ارتكبت “خطأ جسيماً” وأن إسرائيل ستنتصر. ظهر نتنياهو بعد ذلك بفترة قصيرة، مؤكداً أن إسرائيل باتت في حالة حرب. في اليوم التالي، وافقت الحكومة الأمنية الإسرائيلية المصغرة (الكابينت) على إعلان رسمي للحرب، استناداً إلى المادة 40 من القانون الأساسي، للمرة الأولى منذ نصف قرن.
في المنظور الطويل الأمد للصراع الإسرائيلي–الفلسطيني، فإن أفعال حماس صبيحة يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر كانت غير مسبوقة. فقد كانت المرة الأولى التي تمكن فيها مسلحوها من كسر الحصار المفروض على قطاع غزة بأعداد كبيرة، والمرة الأولى التي يهاجمون فيها تجمعات سكنية إسرائيلية مجاورة ويسيطرون عليها، وهو أمر لم يكن أي جيش عربي قد فعله من قبل. كما إنها المرة الأولى التي يأخذ فيها الفلسطينيون عشرات الجنود والمدنيين الإسرائيليين رهائن، وينقلون عدداً غير معروف، ربما أكثر من مئة، معهم إلى قطاع غزة. الأمر اللافت، أن أجهزة المراقبة والإنذار الحدودية الإسرائيلية الشاملة بدت عديمة النفع في منع حدوث الاختراق.
وتركت الأحداث كثيراً من الإسرائيليين يشعرون بالخدر والهشاشة، وأيضاً بالصدمة جراء الفشل الاستخباراتي والأمني الذي كشفته هجمات حماس. وشعر كثيرون بالغضب من فشل الحكومة في التواصل مع العائلات الواقعة تحت الخطر، وفي نشر الجنود في المناطق التي تحتاج انتشارهم، وحتى في ضمان امتلاك الجنود للمعدات الأساسية. عبَّر سياسيون ومعلّقون غربيون عن رعبهم في وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية مع ظهور صور وأخبار عن أطفال صغار أُخذوا رهائن، وعائلات قتلت في منازلها على يد مسلحين يقومون بعمليات تفتيش من منزل إلى منزل.
ما الذي يفسر الرد الإسرائيلي البطيء؟
بدا أن الجهاز الأمني الإسرائيلي فوجئ بالأحداث، ولم يرسل أي إشارات إنذار. وسرعان ما ظهرت لازمة في إسرائيل تقول بأن الهجوم يحمل أصداء صراع عام 1973، المعروف بحرب تشرين/أكتوبر، أو ’يوم كيبور’، عندما اخترق الجيشان المصري والسوري الدفاعات الإسرائيلية على نحو غير متوقع، ووجها إلى الجيش الإسرائيلي والمؤسسة الإسرائيلية ضربة نفسية. صادفت الذكرى الخمسين لتلك الحرب في 6 تشرين الأول/أكتوبر، عشية هجوم حماس. هذه المرة، لم تكن الجيوش هي التي تهدد إسرائيل، بل العشرات من مقاتلي حماس ومقاتلين متحالفين معهم يدخلون التجمعات السكانية الإسرائيلية.
ودون تفسيرات إسرائيلية رسمية، يبقى كل شيء مجرد تكهّنات حتى الآن، إلا أن اتهامات بفشل استخباراتي هائل بدأت بالظهور مباشرة تقريباً، ويبدو أنها باتت الرأي السائد سواء في إسرائيل أو في العواصم الغربية. بالنظر إلى نطاق المحاور المتعددة للهجوم وطبيعة تنسيقه، لا بد أن حماس كانت تحضّر له منذ مدة طويلة، إلا أن تلك الخطط لم يتمكن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، الذي عُرف بوجوده في كل مكان في الأراضي المحتلة، من كشفها.
أما بالنسبة لغياب الاستعدادات العسكرية، فإن مزيجاً من العوامل يمكن أن يفسره. كما ذكرنا، فإن الهجوم حدث في يوم عطلة يهودية. لكن على نطاق أوسع، فإن الجيش الإسرائيلي ربما كان مهتماً بهواجس أخرى، مثل التهديد الذي يُتصوّر أنه أكبر والذي يمثله حزب الله في لبنان، وعمليات نشر جنود لحماية المستوطنين الإسرائيليين، وإحباط هجمات فلسطينية في الضفة الغربية. وقد تكون الانقسامات داخل إسرائيل بشأن خطة حكومة أقصى اليمين لمراجعة النظام القضائي قد قوّضت المعنويات العسكرية، كما حذّر المسؤولون الأمنيون منذ شهور. كما يمكن للافتقار إلى الاستعداد أن يعكس درجة معينة من الغطرسة، بمعنى الاعتقاد بأن الفلسطينيين لم يكونوا قادرين على القيام بشيء على هذا النطاق، وأن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، مع كل التكنولوجيا ووسائل جمع المعلومات الاستخبارية التي تمتلكها، لا تُقهر.
قد يُطاح برؤوس في إسرائيل بسبب الفشل في توقع الهجوم. فقد اغتنم زعيم المعارضة يائير لابيد الفرصة للدعوة لتشكيل حكومة طوارئ ووحدة وطنية لوقت محدود، شريطة استبعاد وزراء أقصى اليمين من عملية صنع القرار. إذ يمكن لهذا التحرك أن يساعد في إعادة توحيد الصفوف السياسية الإسرائيلية طوال مدة القتال، أو تعميق الانقسام، مع شروع السياسيين والمسؤولين الحكوميين بتحميل المسؤولية لبعضهم بعضاً.
لماذا الآن، ولماذا هذا بالذات؟
وزّع محمد الضيف، القائد العسكري لكتائب عز الدين القسّام التابعة لحماس، خطاباً في وقت سابق ذكر فيه على نحو خاص الوضع حول المسجد الأقصى في القدس وظروف الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية كمبررات للهجوم. كانت التوترات مرتفعة خلال العطلة اليهودية، عندما صعد عدد غير مسبوق من المصلين اليهود (5,000 مصلٍ) إلى الحرم الشريف – الذي يقول التراث اليهودي إنه موقع الهيكل القديم، وهو المكان الذي يوجد فيه المسجد الأقصى أيضاً – للصلاة خلال عيد السكوت؛ وحيث يُحظر أداء الصلاة اليهودية بموجب تفاهمات الوضع القائم المستمرة منذ عقود بين إسرائيل والأردن (الوصية على الأماكن الإسلامية والمسيحية المقدسة في القدس). تظاهر الفلسطينيون في قطاع غزة على طول السياج الأمني الإسرائيلي. لكن مقارنة باضطرابات سابقة تتعلق بالأقصى، أو مسائل مثل السجناء الفلسطينيين، فإن هذه المظاهرات لم تكن أمراً غير معتاد بأي حال. وحقيقة أن التخطيط لعملية حماس من المرجح أنه مستمر منذ شهور يشير إلى أنه ليس هناك سبب مباشر واحد.
قد تتعلق المسألة بالتوقيت. فحماس، التي لم تصدر تصريحاً بهذا الصدد، ربما رأت الوقت مناسباً لتوجيه ضربة في لحظة انقسام محلي عميق في إسرائيل، وما يمكن أن يُعتقد أنه تراخٍ أو عدم يقظة فيما يتعلق بالقدرات الفلسطينية. أو ربما أرادت القيام بتحركها على خلفية انشغال القوى الخارجية بالحرب في أوكرانيا. كما أن من المرجح أن تجد حماس من المفيد إحداث اضطراب في الديناميكيات المحيطة بالجهود الدبلوماسية التي تقوم بها الولايات المتحدة، والسعودية وإسرائيل للتوصل إلى اتفاق ثلاثي من شأنه، بين أشياء أخرى، أن يفضي إلى تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. تخشى حماس والفلسطينيون بصورة عامة أن يؤدي مثل ذلك الاتفاق إلى تراجع قضيتهم على الأجندة العالمية. كما يمكن أن تكون الحركة الإسلامية قد راقبت بقلق كيف بدأ الفلسطينيون في قطاع غزة بتوجيه انتقادات علنية لحكومة حماس بسبب أدائها السيء على خلفية الحصار الإسرائيلي الخانق. وكان بعض الناس قد أخرجوا هذه الاحتجاجات إلى الشارع.
رغم ذلك، من الصعب معرفة ماهية نهاية اللعبة التي يرغب قادة حماس بالوصول إليها من هجوم على إسرائيل أكثر فتكاً من أي هجوم آخر على مدى عقود. لا يمكن تصوُّر أنهم لا يتوقعون رداً إسرائيلياً كبيراً، رد من شأنه أن يحدث مزيداً من الدمار في قطاع غزة، وأن يفرض كلفة مروعة على سكانه الذين يعانون منذ مدة طويلة، وربما إنهاء حكم حماس في القطاع. إن قتل وخطف مدنيين أبرياء خلال الهجوم سيجعل من الصعب على السياسيين الغربيين الذين قد يدعون إلى ضبط النفس أن يفعلوا ذلك على الأقل في الأيام القليلة الأولى من هجوم إسرائيلي.
يبدو أن حماس تعتقد أن جرّ قوات برية إسرائيلية إلى قطاع غزة لاستعادة الرهائن سيحدث أضراراً بشرية كبيرة، بما في ذلك على الجانب الإسرائيلي، وأن يحدث غضباً في العالم الإسلامي ومناطق أخرى. بل إن الحركة قد تأمل بأن تعود إسرائيل إلى تأسيس وجود بري لها في قطاع غزة – وهو تحرك مكلف ولا يحظى بالشعبية في إسرائيل ولا يرغب به حتى السياسيين في أقصى اليمين تقليدياً – بحيث يمكن لحماس أن تعود إلى العمل كمقاومة مسلحة، كما تفعل في الضفة الغربية. (قال صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صراحة: “إن المقاومة تضع موقفها وخططها بناء على أسوأ الاحتمالات، بما في ذلك حدوث غزو بري، [الذي يمكن أن يكون] أفضل سيناريو بالنسبة لنا لحسم المعركة“.) مع أخذ حرب عام 1973 بعين الاعتبار، والتي تعيَّن على إسرائيل بعدها في النهاية إعادة سيناء إلى مصر مقابل السلام، فإن حماس ربما تحاول التوصل إلى نقطة تحوُّل، وأن تهدف إلى هدنة طويلة الأمد، وهو عرض كانت قد قدمته لإسرائيل في الماضي.
ما الذي يمكن أن يحدث تالياً؟
ثمة عدد من السيناريوهات السيئة.
يمكن أن ترسل إسرائيل قوات برية إلى قطاع غزة في محاولة ليس لمعاقبة حماس وحسب، بل أيضاً لاستعادة مواطنيها المختطفين. حماس، من جهتها، تسعى إلى مبادلة الرهائن بآلاف الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية، رغم صعوبة تحقيق ذلك، على الأقل في أي وقت قريب، بالنظر إلى نطاق هجوم حماس. إن وجود ما لا يقل عن 100 – الأعداد الدقيقة غير واضحة حتى الآن – من الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة، والذين يمكن أن تستعملهم حماس كدروع بشرية، يجعل الأمر أكثر تعقيداً على عملية إسرائيلية. ومن المرجح أن يؤدي التوغل البري إلى معركة دموية يمكن أن يقتل فيها عدد أكبر بكثير من الأشخاص، بما في ذلك جنود إسرائيليين، ويمكن أن تتعرض أجزاء من قطاع غزة للتدمير الكامل. عشية يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، قطعت إسرائيل الكهرباء عن القطاع، وانخفضت إمدادات المياه. وقالت الأمم المتحدة إن 123,000 شخص وجدوا ملاذاً آمناً في 44 مدرسة تابعة لها في جميع أنحاء قطاع غزة، مضيفة بأنها كانت قد أُجبرت على تعليق توزيع الغذاء على أكثر من 112,000 أسرة. حزب الله، من جانبه قد يشجع المجموعات الفلسطينية في لبنان على الدخول في المعركة، ويفتح جبهة ثانية على إسرائيل في الشمال، كما حدث خلال حرب غزة عام 2021 ومرة أخرى في نيسان/أبريل، عندما ارتفعت التوترات أيضاً بشأن الأقصى.
في البداية، رد حزب الله على هجوم حماس والقصف الإسرائيلي بمجرد إعلان أنه يراقب الأحداث عن كثب، جزئياً من خلال التواصل المستمر مع قادة المجموعات الفلسطينية المسلحة. إذ لا يستطيع المقاتلون الفلسطينيون في لبنان، سواء الذين ينتمون إلى حماس أو إلى مجموعات أخرى – أن يعملوا ضد إسرائيل دون موافقة حزب الله الضمنية. وهكذا يبدو أن حماس عملت هذه المرة بمبادرة منها، ولو مع بعض المشورة من حليفها حزب الله ومن راعيهما معاً، إيران. حتى الآن، ليس هناك دليل صلب على أن إيران حرَّضت على عملية طوفان الأقصى، التي لها الكثير من الدوافع الداخلية، حتى ولو وفرت إيران لحماس التكنولوجيا والخبرة العسكرية، بينما كانت تشجع الهجوم مع تقدمه. تقول الحكومة الأميركية إنها لم تجد بعد “الدليل” الذي يظهر انخراط إيران، رغم أن الاتهام يكتسب المزيد من الانتشار في واشنطن، ويصوغ بلا شك المناظرة السياساتية. الجيش الإسرائيلي، من جهته، لم يربط إيران بالهجوم أيضاً.
مهما كان مستوى التنسيق حتى الآن بين حزب الله وحماس، فإن احتمال عمل المجموعتين معاً احتمال حقيقي جداً. فخلال حرب غزة عام 2021، أنشأ حزب الله وحماس غرفة عمليات مشتركة، الأمر الذي مكَّن حزب الله من وضع خبرته الإستراتيجية تحت تصرف حماس؛ وقد خلق هذا التحرك سابقة لما تسميه هذه المجموعات “محور المقاومة” للمشاركة، حتى ولو كانت حماس وحدها التي تقوم بالقتال الفعلي. ويمكن للتنسيق أن يذهب أبعد من هذا. فاستناداً إلى الرد الإسرائيلي على هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، قد ينخرط حزب الله مباشرة في الرد على العنف المتصاعد في قطاع غزة، والضفة الغربية، ولا سيما في القدس، مع تداعيات قد تكون مدمرة للبنان، إضافة إلى الضرر الذي قد تحدثه صواريخ حزب الله داخل إسرائيل. وسيتمثل التحدي عندها في احتواء القتال وقصره على تلك الجهات الفاعلة ومنعه من التصاعد إلى حرب أوسع في الشرق الأوسط. في 8 تشرين الأول/أكتوبر، أطلق حزب الله النار على منطقة مزارع شبعا في جنوب لبنان، التي يعدّها محتلة من قبل إسرائيل، في حين أطلقت إسرائيل قذائف على مناطق زراعية في جنوب لبنان. لم يُصَب أحد، ولم يتم تجاوز أية خطوط حمراء. إلا أن هذه ألعاب خطرة تحمل مخاطر الخروج عن نطاق السيطرة.
وثمة سيناريوهات تصعيدية أخرى أيضاً. يتمثل أحدها في انتفاض فلسطينيين في أجزاء أخرى من فلسطين تضامناً مع أقاربهم في قطاع غزة (وقد بدأت بعض الاحتجاجات بالظهور، مع مقتل سبعة فلسطينيين بنيران الجيش الإسرائيلي). وقد تستغل ميليشيات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية المحتلة الفرصة لغزو البلدات والقرى الفلسطينية، كما كانت تفعل بتواتر متزايد على مدى العام الماضي. وقد يخرج الفلسطينيون في إسرائيل في مظاهرات، كما فعلوا في أيار/مايو 2021.
هل تستطيع الجهات الفاعلة الخارجية المساعدة في القتال الحالي؟
يبدو من غير المرجح أن يحدث هذا مباشرة. بالنظر إلى أن الولايات المتحدة هي الشريك الأمني الرئيسي لإسرائيل، فإنها تتمتع بدرجة أكبر من النفوذ على أفعالها من الجهات الأخرى، لكن يبدو أن إدارة بايدن تحجم عن التوسّط. حتى 7 تشرين الأول/أكتوبر، تمثلت المقاربة الرئيسية للإدارة حيال الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني في الدفع باتجاه نوع من “السلام الاقتصادي” – تدفُّق مستمر للتمويل الخليجي إلى الأراضي المحتلة لا يغير من الوضع السياسي القائم – من خلال تشجيع تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية والأمل بتجنب موجة أخرى من القتال، بالنظر إلى أولوياتها الأخرى. لكن تمثلت مقاربة الإدارة أيضاً بالوقوف جانباً وعلى نحو سلبي في وجه هجمات المستوطنين المتفرقة على الفلسطينيين في الضفة الغربية، وقتل أعداد متزايدة باستمرار من الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال، من قبل الجيش، وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية للوصول إلى الضم بحكم الأمر الواقع.
استناداً إلى بيانات رسمية، فقد تشكَّل إجماع في العواصم الغربية على إدانة حماس، ليس بسبب استهداف المدنيين فحسب، لكن الحكومات العربية كانت أكثر حذراً. فالسعودية دعت إلى “وقف فوري للتصعيد“، مضيفة أنها أصدرت تحذيرات متكررة بشأن خطر حدوث انفجار مع تعمُّق الاحتلال؛ كما أشارت إلى استفزازات إسرائيل في الأقصى وأفعالها في حرمان الفلسطينيين من حقوقهم المشروعة. بالنسبة للولايات المتحدة، فإن فريق الأمن القومي للرئيس جو بايدن يفهم دون شك المخاطر التي سيشكلّها غزو بري لقطاع غزة – وأيضاً القصف الجوي والبحري – على المدنيين. لكن في حين أن وزير الخارجية أنتوني بلينكن عبر عن دعمه للجهود التركية للتشجيع على وقف لإطلاق النار، فإن بيانات البيت الأبيض افتقرت على نحو ملحوظ إلى الدعوات المعتادة لرد متناسب أو ممارسة ضبط النفس، فيما يعكس على الأرجح، بين أشياء أخرى، إدراكاً للكيفية التي سيُنظر فيها إلى تلك التعابير من قبل جمهور محلي موالٍ لإسرائيل ما يزال مصاباً بالذهول بسبب ما حدث. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن تسعة مواطنين أميركيين كانوا بين أولئك الذين قتلوا في هجوم حماس الأولي، طبقاً لوزارة الخارجية؛ وقد يكون بحوزة التنظيم رهائن آخرين. وقد أمر البنتاغون بتوجُّه مجموعة ضاربة على متن حاملة طائرات إلى شرق المتوسط في محاولة لردع أطراف إقليمية أخرى عن الانخراط في الصراع.
عند نقطة معينة، ربما بعد أيام إن لم يكن أسابيع من القتال، سيكون هناك جهود دولية متضافرة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، حيث تضغط مصر، وقطر وربما تركيا على حماس. وستظهر أيضاً دعوات لإسرائيل لخفض التصعيد، ولا سيما من جهات فاعلة غير غربية، كثير منها موحدٌ في التعاطف مع النضال الفلسطيني. وقد عبرت جنوب أفريقيا عن شيء من هذا القبيل.) ويمكن أن تقرر حماس إطلاق سراح بعض الرهائن “لأسباب إنسانية“، مثل الأطفال، وكبار السن والمرضى. إلا أن الأحداث دخلت ميداناً مجهول المعالم. فالمعركة القادمة، من منظور إسرائيل، تتعلق باستعادة حرية جميع الرهائن الإسرائيليين في قطاع غزة، وتلقين حماس درساً قاسياً، وإعادة ترسيخ هيمنة ومصداقية دفاعاتها. ومن منظور حماس، تدور المعركة حول فرض مقاربة دولية مختلفة جذرياً حيال محنة سكان قطاع غزة والفلسطينيين بصورة عامة. قد يتطلب وقف إطلاق النار مفاوضات أكثر تعقيداً من تلك التي أنهت جولتين سابقتين من الصراع المسلح وقدراً أكبر من القتال قبل أن يحدث ذلك.
من منظور أوسع، فإن الأحداث التي بدأت في 7 تشرين الأول/أكتوبر، تظهر أن إسرائيل لا تستطيع المحافظة على الهدوء على ثلاث جبهات. قد يكون انشغالها بالتهديد المتصوَّر من حزب الله في الشمال وقرارها بإرسال الجزء الأكبر من قواتها إلى الضفة الغربية لحماية المستوطنين، إضافة إلى ما يبدو من تقييمها بأن حماس تفتقر إلى القدرة أو الرغبة بشن هجوم كبير هذه المرة، مكَّن، إن لم يكن حفَّز، هجوم المسلحين. في قطاع غزة، حتى عمليات القصف المنتظمة – وحتى أسلحة إسرائيل المتطورة، وبرمجياتها التجسسية وجهازها الاستخباراتي الذي يحظى بسمعة عالمية – لم تمنع حماس من بناء قدرات حربية غير متناظرة لكن فعالة. بالمصطلحات الإسرائيلية، فإن “قص العشب” كل بضع سنوات لم يعد صالحاً للمحافظة على الحصار المفروض على قطاع غزة والمحافظة على الأمن في الوقت نفسه.
إلا أن إسرائيل لا تواجه بديلاً واضحاً لاستمرارها بفرض سيطرتها الكاملة على القطاع. إذا أسقطت حماس، فإن الطريق الوحيد إلى الأمام سيتمثل في نشر إسرائيل لجنودها في قطاع غزة مرة أخرى. إن محاولة إسقاط حماس واستبدالها بقيادة فلسطينية أخرى لن ينجح، بالنظر إلى أن السلطة الفلسطينية التي يرأسها محمود عباس أثبتت عدم قدرتها على حكم الضفة الغربية؛ ولا يظهر أي بديل لحكمها.
ومن المرجح أن تعلَّق اندفاعة الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية أو لا تتقدم كثيراً طالما استمر القتال. إذ تعي الرياض، مثل العواصم العربية الأخرى، وجوب الحرص على العواطف الداعمة للفلسطينيين في أوساط السكان الذين تحكمهم. وعليها أن تفكر مرتين قبل المخاطرة بإعطاء التصوّر بأنها ستتخلص من الفلسطينيين بالتوصل إلى مثل ذلك الاتفاق.
وتظهر هذه الأحداث أنه لا يمكن لأي قوة عالمية أن تتوقع لصراع إسرائيل مع الفلسطينيين أن يختفي يوماً ما. فاستمرار الاحتلال، ونهاية أي عملية سلام وموت الأمل بحل الدولتين يدفع المنطقة نحو حرب كبرى أو على الأقل اندلاعات متكررة للعنف المفرط. اليوم، تشير كل العلامات إلى أن إسرائيل وحماس مستمرتان في القتال، مع تداعيات مدمرة. مثالياً، فإن اليأس الناجم عن المواجهة المستمرة ستبعث حياة جديدة في جهود السلام شبه الميتة، بما في ذلك من خلال تمكين معسكرات السلام في إسرائيل وفلسطين على حد سواء.
لا يمكن لنمط جديد من التفكير أن يبدأ في وقت مبكر بما فيه الكفاية. لكن في الوقت الراهن، ينبغي على القوى الدولية أن تنصح بضبط النفس، على الأقل خلف الأبواب المغلقة، حتى لو حمَّلت حماس المسؤولية علناً عن الهجوم، وأن تحضّر الأرضية لمحاولات التوصل إلى وقف لإطلاق النار، والتمسك بالأمل الضئيل بأن توازن القوى عند تلك النقطة سيفسح المجال لتحرّك إلى الأمام لا يكرر الأنماط المدمرة للماضي.