لماذا دفن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي المدرسة النقدية

بروجيكت سنديكيت

2015-09-27 08:07

أناتول كاليتسكي

 

لندن ــ إن القرار الذي اتخذه بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بتأخير زيادة أسعار الفائدة ما كان له أن يفاجئ كل من كان مصغياً لتصريحات رئيسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جانت يلين. ذلك أن القرار لم يؤكد إلا على أن البنك ليس غير مبال بالمحنة المالية الدولية، وأن نهجه القائم على إدارة المخاطر يظل منحازاً بشدة لصالح "الأدنى لفترة أطول". ولكن لماذا إذن تصرفت الأسواق ووسائل الإعلام كما لو كان تحرك بنك الاحتياطي الفيدرالي (أو بتعبير أكثر دقة، تقاعسه عن التحرك) غير متوقع؟

إن ما صدم الأسواق حقاً لم يكن قرار البنك بالإبقاء على أسعار الفائدة عند مستوى الصِفر لبضعة أشهر إضافية، بل التصريح الذي صاحب ذلك القرار. فقد كشف بنك الاحتياطي الفيدرالي أنه غير مبال تماماً بالمخاطر المترتبة على ارتفاع التضخم وأنه حريص على دفع البطالة إلى ما دون المستوى الذي يعتبره أغلب خبراء الاقتصاد المعدل "الطبيعي" بنحو 5%.

هذه هي العلاقة ــ بين التضخم والبطالة ــ الكامنة في صميم كل المجادلات حول السياسة النقدية والعمل المصرفي المركزي. وتقوم كل النماذج الاقتصادية الحديثة تقريبا، بما في ذلك التي يستخدمها بنك الاحتياطي الفيدرالي، على النظرية النقدية لأسعار الفائدة والتي كان رائدها ميلتون فريدمان في خطاب تنصيبه الذي ألقاه أمام الجمعية الاقتصادية الأميركية في عام 1967.

فقد أكدت نظرية فريدمان أن التضخم من شأنه أن يتسارع تلقائياً وبلا حدود بمجرد انخفاض البطالة إلى ما دون الحد الأدنى الآمن، والذي وصفه بمعدل البطالة "الطبيعي". في أعمال فريدمان الأصلية، يُعَد معدل البطالة الطبيعي تخميناً نظرياً محضاً يقوم على افتراض "التوقعات المنطقية"، حتى برغم أنه كان متعارضاً مع أي تعرف طبيعي للسلوك العقلاني.

وكان نشر النظرية في وقت اتسم بالانزعاج في مختلف أنحاء العالم إزاء معدلات التضخم التي تجاوزت 10% سبباً في إعطاء القائمين على البنوك المركزية الذريعة التي يحتاجون إليها على وده التحديد لاتخاذ إجراءات لا تحظى بأي شعبية على الإطلاق. ومن خلال زيادة أسعار الفائدة بشكل كبير لمكافحة التضخم، كسر صناع السياسات قوة العمل المنظم، في حين تجنبوا اللوم عن البطالة الجماعية التي كان من المحتم أن تنتج عن التقشف النقدي.

وبعد بضع سنوات، حل محل معدل فريدمان "الطبيعي" "معدل تضخم البطالة غير المتسارع" والأقل تحميلاً بالقيمة والذي ينم بشكل أكبر عن سعة المعرفة. ولكن الفكرة الأساسية كانت هي ذاتها دوما. فإذا استخدُمَت السياسة النقدية لمحاولة دفع البطالة إلى ما دون مستوى محدد سلفا، فسوف يتسارع التضخم بلا حدود فيدمر الوظائف. الواقع أن السياسة النقدية التي تستهدف معدل تضخم البطالة غير المتسارع الأدنى من الطبيعي لابد من تجنبها بأي ثمن.

وهناك نسخة أكثر تطرفاً من الناحية النظرية تؤكد على عدم وجود تبادلية دائمة بين التضخم والبطالة. فكل الجهود المبذولة لتحفيز خلق الوظائف أو النمو الاقتصادي باستخدام المال السهل لن تسفر إلا عن تعزيز نمو الأسعار، فتعوض بهذا عن أي تأثير على البطالة. وبالتالي فإن السياسة النقدية لابد أن تركز فقط على تحقيق أهداف التضخم، ولابد من تبرئة البنوك المركزية من أي لوم عن البطالة.

كانت النظرية النقدية التي بررت تضييق مسؤوليات البنوك المركزية بحيث لا تتجاوز استهداف التضخم مدعومة بقدر ضئيل للغاية من التجربة عندما اقترحها فريدمان. ومنذ ذلك الحين، تم تفنيدها سواء بفِعل الخبرة السياسية أو الفحص الإحصائي. الواقع أن السياسة النقدية البعيدة كل البعد عن الانغماس في رفع الأسعار، كما صورتها النظرية، تبين أنها تخلف تأثيراً أعظم كثيراً على البطالة مقارنة بتأثيرها على التضخم، وخاصة في السنوات العشرين الماضية.

ولكن على الرغم من التفنيد التجريبي، فإن الجاذبية الإيديولوجية التي تتمتع بها النظرية النقدية، المدعومة بسلطة التوقعات "المنطقية" المزعومة، أثبتت كونها غامرة. ونتيجة لهذا، اكتسب النهج القائم على التوجه المحض نحو التضخم في التعامل مع السياسة النقدية هيمنة كاملة في العمل المصرفي المركزي والاقتصاد الأكاديمي على حد سواء.

ويعيدنا هذا إلى الأحداث المالية الأخيرة. إن نماذج استهداف التضخم التي يستخدمها بنك الاحتياطي الفيدرالي (وغير من البنوك المركزية والمؤسسات الرسمية مثل صندوق النقد الدولي) تفترض جميعها وجود حد محدد سلفاً للبطالة غير التضخمية. ووفقاً لتقديرات أحدث نماذج بنك الاحتياطي الفيدرالي فإن معدل تضخم البطالة غير المتسارع يتراوح بين 4.9% إلى 5.2%.

ولهذا السبب، كانت صدمة العديد من خبراء الاقتصاد والمشاركين في السوق كبيرة إزاء شعور يلين الواضح بالرضا عن الذات. فمع انخفاض معدل البطالة في الولايات المتحدة الآن إلى 5.1%، تملي النظرية النقدية القياسية ضرورة رفع أسعار الفائدة على وجه السرعة. وخلافاً لذلك، فإما أن يأتي لاحقاً انفجاراً كارثياً حتمياً للتضخم، وإما أن يتبين أن مجمل النظرية الاقتصادية التي هيمنت على جيل من الفكر السياسي والأكاديمي منذ أبحاث فريدمان بشأن التوقعات "المنطقية" والبطالة "الطبيعية" كانت خاطئة تماما.

ماذا ينبغي لنا أن نستخلص إذن من القرار الذي اتخذه بنك الاحتياطي الفيدرالي بعدم رفع أسعار الفائدة؟ الواقع أن أحد الاستنتاجات المحتملة مبتذل. فلأن معدل تضخم البطالة غير المتسارع يتألف من بنية نظرية بحتة، فإن خبراء الاقتصاد لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي يمكنهم ببساطة أن يغيروا تقديراتهم لهذا الرقم السحري. والواقع أن بنك الاحتياطي الفيدرالي خفض بالفعل تقديره لمعدل تضخم البطالة غير المتسارع ثلاث مرات في العامين الماضيين.

ولكن ربما يكون السبب وراء إحجام بنك الاحتياطي الفيدرالي أكثر عمقا. فإذا حكمنا من خلال خطب يلين الأخيرة، فلعل بنك الاحتياطي الفيدرالي لم يعد يؤمن بأي نسخة من معدل البطالة "الطبيعي". وتظل افتراضات فريدمان بشأن التضخم المتزايد التسارع والتوقعات "المنطقية" إلى حد غير منطقي، والتي تؤدي إلى استهداف استقرار الأسعار على نحو يتسم بضيق الأفق، تشكل جزءاً لا يتجزأ من النماذج الاقتصادية الرسمية وكأنها أسطورة الخلق التوراتية. ولكن يبدو أن بنك الاحتياطي الفيدرالي، جنباً إلى جنب مع كل البنوك المركزية الأخرى تقريبا، فقد إيمانه بتلك القصة.

وبدلاً من ذلك يبدو أن القائمين على البنوك المركزية الآن يعودون ضمنا (بل وربما دون وعي حتى) إلى وجهات النظر التي سادت قبل النظرية النقدية: والتي تزعم أن المقايضات بين التضخم والبطالة حقيقية من الممكن أن تدوم لسنوات طويلة. وينبغي للسياسة النقدية أن تعيد تدريجياً تقويم التوازن بين هذين المؤشرين الاقتصاديين مع تقدم دورة الأعمال. فعندما يكون التضخم منخفضا، لابد أن تكون الأولوية القصوى لخفض البطالة إلى أدنى مستوى ممكن؛ ولا يصبح هناك أي مبرر مقنع لسياسة نقدية تقيد خلق الوظائف أو نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى أن يصبح التضخم المفرط خطراً داهما.

ولا يعني هذا ضمناً استمرار أسعار الفائدة القريبة من الصِفر إلى الأبد. فمن شبه المؤكد أن بنك الاحتياطي الفيدرالي سوف يبدأ في رفع أسعار الفائدة في ديسمبر/كانون الأول، ولكن إحكام السياسة النقدية سوف يكون أبطأ كثيراً من الدورات الاقتصادية السابقة. وسوف يكون الدافع إليه المخاوف بشأن الاستقرار المالي، وليس التضخم. ونتيجة لهذا فإن المخاوف ــ التي تكاد تقترب من الهلع في بعض الأسواق الناشئة ــ بشأن التأثير الذي قد يخلفه إحكام سياسية بنك الاحتياطي الفيدرالي النقدية على الظروف الاقتصادية العالمية قد تكون غير مبررة.

والخبر السيئ هنا هو أن الغالبية العظمى من المحللين في السوق، الذين لا زالوا يتشبثون بإطار النظرية النقدية القديم، سوف يتهمون بنك الاحتياطي الفيدرالي "بالتخلف كثيراً عن المنحنى" بالسماح لمعدل البطالة في الولايات المتحدة بالانخفاض إلى مستوى أدنى مما ينبغي والفشل في استباق خطر ارتفاع التضخم. وينبغي لبنك الاحتياطي الفيدرالي أن يتجاهل ببساطة مثل هذه الاحتجاجات الرجعية، كما فعل عن حق الأسبوع الماضي.

* رئيس معهد التفكير الاقتصادي الجديد ومؤلف من الرأسمالية 4.0 ولادة الاقتصاد الجديد

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا