الاحتيال، والحمقى، والأسواق المالية
بروجيكت سنديكيت
2015-09-22 04:02
روبرت جيه شيللر
نيوهافين ــ في أحد كتاباته الشهيرة، تحدث آدم سميث عن "اليد الخفية" التي تعمل من خلالها ملاحقة الأفراد لمصالحهم الذاتية في سوق حرة تنافسية على تعزيز مصالح المجتمع ككل. وكان سميث محقا: فقد نجحت الأسواق الحرة في جلب قدر غير مسبوق من الازدهار للأفراد والمجتمعات على حد سواء. ولكن لأن التلاعب بنا أو خداعنا أو حتى استمالتنا بشكل سلبي أمر وارد، فإن الأسواق الحرة تقنعنا أيضاً بشراء أشياء لا تعود علينا ولا على المجتمع بنفع يُذكَر.
وتمثل هذه الملاحظة ملحقاً مهماً لرؤية سميث. وهي الملاحظة التي استكشفتها مع جورج أكيرلوف في كتابنا الجديد "تصيد الحمقى: اقتصاديات التلاعب والخداع".
لقد تعرض أغلبنا للتصيد: رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية المصممة للاحتيال علينا. و"الأحمق" هو كل من لا يدرك تمام الإدراك أن التصيد منتشر في كل مكان. والأحمق يرى أمثلة متفرقة من التصيد، ولكنه لا يقدر مدى الاحترافية التي تستند إليها مثل هذه المحاولات، ولا مدى عمق تأثير هذه الاحترافية على حياة البشر. ومن المؤسف أن كثيرين منا كانوا حمقى ــ بما في ذلك أكيرلوف وأنا، وهذا هو ما دفعنا إلى تأليف هذا الكتاب.
ومن الممكن أن يؤثر التصيد الروتيني على أي سوق، ولكن أكثر ملاحظاتنا أهمية تتعلق بالأسواق المالية ــ وهو ما يأتي في الوقت المناسب، نظراً للطفرة الهائلة في أسواق الأسهم والعقارات منذ عام 2009، والاضطرابات التي تجتاح أسواق الأصول العالمية منذ الشهر الماضي.
كما تعلم كثيرون من المتفائلين وبثمن باهظ، فإن أسعار الأصول شديدة التقلب، وهناك عدد هائل من المتصيدين في كل مكان. فالمقترضون ينجذبون إلى قروض الرهن العقاري غير المناسبة؛ والشركات تُجَرَّد من أصولها؛ والمحاسبون يضللون المستثمرين؛ والمستشارون الماليون يتداولون الروايات عن ثروات تهبط من السماء؛ ووسائل الإعلام تروج لادعاءات متطرفة.
ولكن الخاسرين في فترات الركود ليسوا فقط أولئك الذين يقعون ضحية للخداع. ذلك أن سلسلة من الخسائر الإضافية تحدث عندما تكون الأصول المتضخمة مشتراة بأموال مقترضة. وفي هذه الحالة تعمل حالات الإفلاس والخوف من الإفلاس على توليد وباء من المزيد من حالات الإفلاس، على النحو الذي يعزز المخاوف. ثم ينضب معين الائتمان وينهار الاقتصاد. وفي هذه الدوامة الهابطة المفرغة من انعدام الثقة في عالم الأعمال يبرز المتصيدون، الذين لا يتم اكتشافهم عادة إلا بعد انتهاء فترة من الوفرة الطائشة.
وتدعو الأوبئة في عالم الاقتصاد، كما هي حالها في عالم الطب، إلى استجابة فورية وحاسمة. كانت الاستجابة من قِبَل السلطات للانهيار العظيم في عام 1929 ضئيلة وبطيئة، ودخل الاقتصاد العالمي "عصراً مظلما" دام إلى نهاية أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين وفترة الحرب العالمية الثانية. وقد بشرت أزمة 2007-2009 المالية بنتيجة مماثلة، ولكن هذه المرة كان تدخل حكومات العالم وبنوكه المركزية سريعاً وفوريا، وبطريقة منسقة وبالاستعانة بكم ضخم متناسب من الحوافز. وكان التعافي ضعيفا؛ ولكننا لم نقترب من الدخول إلى عصر مظلم جديد.
وهذا يستحق الشعور بالامتنان. ولكن البعض يزعمون الآن أن السلطات المالية والنقدية ما كان ينبغي لها أن تستجيب بهذه السرعة أو القوة عندما اندلعت أزمة 2007-2009. فهم يعتقدون أن السبب الرئيسي وراء الأزمة كان ما يسميه أهل الاقتصاد الخطر الأخلاقي: لأن أولئك الذين كانوا يخوضون المجازفات توقعوا أن السلطات سوف تتدخل لحمايتهم عندما تنحرف رهاناتهم، الأمر الذي حملهم على خوض المزيد من المجازفات.
وعلى النقيض من هذا، تذهب وجهة نظرنا (المدعومة بوفرة من البيانات) إلى أن ارتفاع الأسعار السريع يعكس الوفرة الطائشة، التي يساعد على تحريضها وتعزيزها المتصيدون. ولم يكن ذوو الوفرة الطائشة يفكرون في العائدات التي قد يفوزون بها إذا تدخلت السلطات للحفاظ على الاقتصاد وتدفق الائتمان (أو في الحالات المتطرفة، إذا تحركت لإنقاذ بنوكهم أو مؤسساتهم). ذلك أن مثل هذه الاحتمالات كانت بمثابة اعتبار هامشي في الفترة التي اتسمت بالبهجة والحبور قبل اندلاع أزمة 2007-2009: فكان أولئك الذين يبيعون بأسعار مبالغ فيها يحققون الأرباح؛ وكان المشترون "يدركون" أنهم يفعلون الشيء الصواب ــ وبالطبع كانوا مخطئين.
الواقع أن الإحجام عن الاعتراف بالحاجة إلى التدخل الفوري في الأزمات المالية يستند إلى مدرسة في الاقتصاد لا تضع في الحسبان الوفرة الطائشة التي استكشفتها في مكان آخر، والتي تتجاهل التسويق العدواني وغير ذلك من حقائق أسواق العصر الرقمي التي يتناولها كتاب "تصيد الحمقى". بيد أن التمسك بنهج يتجاهل هذه العوامل أمر أقرب إلى التخلص من إدارة مكافحة الحرائق، على أساس أنه في غيابها سوف يكون الناس أكثر حرصا ــ وبهذا لا تندلع الحرائق.
لقد اكتشفنا قبل سنوات عديدة، وهو أمر مؤسف للغاية بالنسبة للعالم، ماذا يحدث عندما يُسمَح للوباء المالي بأن يأخذ مجراه. ولا يشير تحليلنا إلى وجود قوى مستوطنة وطبيعية تجعل النظام المالي شديد التقلب فحسب؛ بل ويشير أيضاً إلى أن التدخل السريع الفعّال مطلوب في مواجهة الانهيار المالي. وينبغي لنا أن نطلق العنان للسلطات المالية والنقدية لاتخاذ خطوات عدوانية قوية عندما تتحول الاضطرابات المالية إلى أزمة مالية. فنحن لا نستطيع أن نتحمل عصراً مظلماً آخر.