الاتكالية المتبادلة في القرن الحادي والعشرين
بروجيكت سنديكيت
2023-02-25 06:50
بقلم: خافيير سولانا
مدريد ــ بين كل الدروس التي يمكن استخلاصها من العام الذي انقضى منذ غزت روسيا أوكرانيا، يبرز أحدها بوضوح: الاتكالية المتبادلة العالمية لا تضمن السلام، ويجب أن تتكيف مع الحقائق التي كشفتها الأحداث الأخيرة.
وفقا لجوزيف س. ناي الابن من جامعة هارفارد، وروبرت كيوهان من جامعة برينستون، تشير الاتكالية المتبادلة إلى علاقة تقوم على الاعتماد المتبادل وتتطور بين الدول نتيجة للتفاعلات بين بعضها بعضا، وخاصة العلاقات الاقتصادية والتجارية. ونظرا للطبيعة المتشابكة التي تتسم بها الأسواق والسياسة (بما في ذلك التوجهات الجيوسياسية)، تنتهي الحال بالدول إلى احتياج كل منها إلى الأخرى لتعزيز أمنها (بما في ذلك أمن الطاقة) وتحقيق النمو الاقتصادي والتنمية.
في العقود الأخيرة، احتلت الاتكالية المتبادلة مكانة متميزة في الفِـكر السياسي الغربي. ورغم أن مراجعة المفهوم أمر حتمي لا مفر منه، فإن تجاهل المساهمة الإيجابية التي قدمتها الاتكالية المتبادلة لتعزيز الاستقرار والأمن العالميين في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ممارسة هَـدّامة تفتقر إلى النزاهة. يرجع نجاح المشروع الأوروبي في القسم الأعظم من الأمر إلى فضائل الاتكالية المتبادلة. فقد ساعد تطوير العلاقات التجارية على تسهيل إقامة مصالح مشتركة بين الدول الأوروبية، وجلب عشرات السنين من السلام إلى قارة مزقتها الحروب في السابق ــ وهو إنجاز يستحق الاحتفال. كانت الاتكالية المتبادلة أيضا حجر الأساس الذي بَـنى عليه المستشار الألماني فيلي برانت "السياسة الشرقية الجديدة"، التي أُطـلِقَـت في عام 1969. راهن برانت على فكرة ــ كانت محفوفة بالمخاطر في ذلك الوقت ــ مفادها أن العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية الأعمق بين الاتحاد السوفييتي والغرب من شأنها أن تقلل من احتمالات تحول الحرب الباردة إلى حرب ساخنة.
وقد تبين أنها كانت خطوة دبلوماسية حكيمة: فقد ساعدت السياسة في تخفيف التوترات بين الجانبين. بحلول مطلع هذا القرن، كانت العولمة تتقدم بسرعة. وكانت الاتكالية الاقتصادية المتبادلة تعتبر على نطاق واسع في الغرب مرادفا للاستقرار العالمي ــ وهو الاعتقاد الذي ظل قائما حتى عندما ساعدت أحداث مثل الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة على تسليط الضوء على المخاطر التي تنطوي عليها العولمة. الواقع أن الصين أصبحت عضوا مرحبا به في منظمة التجارة العالمية بعد ثلاثة أشهر فقط من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الأمر الذي دلل على استمرار الغرب في الإيمان بقدرة الاتكالية المتبادلة السياسية على تحقيق التقارب.
لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أظهر كيف من الممكن أن يستغل القادة الاتكالية المتبادلة لملاحقة تكتيكات قسرية. كانت أوكرانيا دوما عنصرا مركزيا في طموحات بوتن الإمبريالية. في العقد الماضي، كانت أوكرانيا موضوع مناقشة ليس فقط حول مكانتها في الترتيبات الأمنية الأوروبية، بل وأيضا وضعها في عالَـم تحدد هيئته على نحو متزايد العلاقات التجارية.
أنفق بوتن سنوات في تعزيز التجارة مع دول الاتحاد السوفييتي السابقة وبقية أوروبا، ليس بغرض تعزيز قوة أسس السلام في القارة، بل بهدف بسط نفوذ روسيا الجيوسياسي. في هذا الصدد، كان إنشاء الاتحاد الجمركي الأوراسي في عام 2010 خطوة حاسمة في استراتيجية بوتن المتمثلة في إعادة إنتاج الاتحاد السوفييتي بوسائل أخرى (التجارة على وجه التحديد). لكن أوكرانيا اختارت عدم الانضمام إلى الاتحاد الجمركي، وسعت بدلا من ذلك إلى عقد اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي. ما كان بوتن ليتسامح مع مثل هذا الاحتمال، فمارس الضغوط على الرئيس الأوكراني آنذاك فيكتور يانوكوفيتش لحمله على تعليق التحضيرات لاتفاق الشراكة في أواخر عام 2013.
ربما يزعم بعض المراقبين أن تلك كانت اللحظة التي بدأت فيها الحرب الروسية ضد أوكرانيا. في فبراير/شباط 2014، احتشد آلاف الأوكرانيين في ساحة الاستقلال في كييف للاحتجاج على القرار. وانتهت الحال بما يسمى ثورة الكرامة إلى طرد يانوكوفيتش من السلطة، مما أثار المخاوف في الكرملين من أن تخسر روسيا أوكرانيا. وفي غضون شهر، كانت روسيا ضمت شبه جزيرة القرم، وبدأ الانفصاليون المدعومون من روسيا حربا في منطقة دونباس الشرقية في أوكرانيا. وفي شهر فبراير/شباط الماضي كان الغزو الشامل بداية فصل جديد مأساوي في هذه الحرب. ولكن حتى في الأيام التي سبقت الغزو مباشرة ــ عندما اجتمع مئات من قادة العالم، في غياب الوفد الروسي، في إطار مؤتمر ميونيخ للأمن ــ قوبلت فكرة إقدام روسيا على الهجوم ببعض التشكيك.
يرجع هذا جزئيا إلى الإيمان الذي ظل قويا بقوة الردع المتمثلة في الاتكالية المتبادلة، على الرغم من احتشاد القوات الروسية على حدود أوكرانيا. قال المراقبون إن روسيا، إذا شنت الحرب، ستواجه تكاليف اقتصادية فلكية، كما أن الاقتصاد العالمي بأسره سيعاني أيضا بشدة. بعد فترة وجيزة، تبين أن الأمل في منطق التهدئة اعتمادا على الاتكالية المتبادلة يفتقر إلى أي أساس قوي. بعد مرور عام منذ أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا، بات من الواضح الآن أن الاتكالية المتبادلة وحدها من غير الممكن أن تخدم كأساس مستقر للسلام، أو حتى التقارب. قد تساعد العلاقات التجارية في المواءمة بين مصالح البلدان، لكنها لا تخلق قوى جيوسياسية فاعلة مسؤولة. بل على العكس من ذلك، لكي تكون بَـنّـاءة، تستلزم الاتكالية المتبادلة مُـسبقا وجود قادة سياسيين مسؤولين.
مع غزو روسيا لأوكرانيا، اكتشفنا نحن الأوروبيون أن الاتكالية المتبادلة، أو بالأحرى الاعتماد على الغير، من الممكن أن تجعلنا أكثر عُـرضة للمخاطر مما كنا نتصور. الدرس واضح: يتعين علينا أن نتحرى قدرا أعظم من العناية والحرص في اختيار أوجه الاتكالية المتبادلة. الواقع أن الاتحاد الأوروبي، الذي ظل لفترة طويلة نصيرا للترابط المتبادل، أخذ هذا الأمر على محمل الجد، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالطاقة. كانت التغييرات سريعة وحادة وجديرة بالثناء: ففي غضون عام واحد فقط، نجح الاتحاد الأوروبي في تقليص حصة الغاز الروسي القادم إليه عبر الأنابيب في مجمل إمداداته من 40% إلى 8% فقط. يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يعمل أيضا على تقليل أوجه اعتماده على الغير التي قد لا تخلو من مخاطر في قطاعات استراتيجية أخرى، مثل الصحة والدفاع والتكنولوجيا.
ولكن في الوقت ذاته، يتعين عليه أن يدعم ــ بل ويستمر في تعميق ــ مشاركته مع بقية العالم. كما كتب المستشار الألماني أولاف شولتز قبل رحلته إلى بكين في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، يتعين على أوروبا أن تتجنب الاعتماد المفرط على منافسيها، مثل الصين، ولكن لا ينبغي لها أن تسعى إلى قطع العلاقات. في العام الماضي، تعلمنا أن الاتكالية المتبادلة من غير الممكن أن تمنع الحرب. لكننا نعلم أيضا أن رفض الاتكالية المتبادلة هو نقيض المشروع الأوروبي ولا يتفق مع التعددية اللازمة لحل المشكلات العالمية. أيا كانت الهيئة التي سنعيد عليها تصور اتكاليتنا المتبادلة في السنوات القادمة، فإنها ستظل تشكل ضرورة أساسية لتعزيز مصالح الأوروبيين الجوهرية وأهدافهم الرئيسية.