الجانب الآخر من الاستثنائية الأميركية
بروجيكت سنديكيت
2022-06-12 07:02
بقلم: داني رودريك
كمبريدج ــ عندما بدأت التدريس في كلية كينيدي بجامعة هارفارد في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، كانت المنافسة مع اليابان هي الشغل الشاغل للسياسة الاقتصادية الأميركية. وقد حدد اتجاه وروح المناقشة كتاب "اليابان في المرتبة الأولى" للخبير الأول في جامعة هارفارد في شؤون اليابان آنذاك عزرا فوجل.
ما زلت أتذكر الدهشة التي أصابتني في ذلك الوقت إزاء الدرجة التي تلونت بها المناقشة، حتى بين الأكاديميين، بِـحِـس لا ريب فيه باستحقاق أميركا للتفوق الدولي. ما كانت الولايات المتحدة لتسمح لليابان بالهيمنة على أية صناعات أساسية، وكان لزاما عليها أن تستجيب بسياساتها الصناعية والتجارية ــ ليس فقط لأن هذه السياسات قد تساعد الاقتصاد الأميركي، بل وأيضا لأن الولايات المتحدة لم يكن بوسعها أن ترضى ببساطة بالمرتبة الثانية.
حتى ذلك الحين، كنت أعتقد أن القومية العدوانية سِـمة من سمات العالم القديم ــ مجتمعات تفتقر إلى الشعور بالأمان ومنشغلة بمكانتها الدولية وتترنح تحت وطأة مظالم تاريخية حقيقة أو متوهمة. ربما ذهبت النخب الأميركية، الغنية الآمنة، إلى إجلال قيمة النزعة الوطنية، لكن نظرتها العالمية كانت تميل نحو الكوزموبوليتية (الأممية). لكن النزعة القومية ذات المحصلة الـصِـفرية لم تكن بعيدة عن السطح، وهو الأمر الذي بات واضحا بمجرد تعرض مكانة أميركا على قمة عمود الطوطم الاقتصادي العالمي للتهديد.
بعد ثلاثين عاما من غطرسة المنتصر الأميركي في أعقاب سقوط سور برلين، تجري الآن عملية مماثلة على نطاق أوسع كثيرا. هذه العملية مدفوعة بصعود الصين ــ الذي يمثل تحديا اقتصاديا أشد خطورة وأعظم شأنا من صعود اليابان في الثمانينيات وخطرا جيوسياسيا في ذات الوقت ــ وغزو روسيا لأوكرانيا. استجابت الولايات المتحدة لهذه التطورات بالسعي إلى إعادة تأكيد تفوقها العالمي ــ وهو الهدف الذي يخلط صناع السياسات الأميركيين بسهولة بينه وبين هدف إنشاء عالم أكثر أمانا وازدهارا. فهم ينظرون إلى الزعامة الأميركية باعتبارها مكونا مركزيا للترويج للديمقراطية، والأسواق المفتوحة، ونظام دولي قائم على القواعد. فما الذي قد يكون مفضيا إلى السلام والازدهار أكثر من ذلك؟
ويدعم الرأي القائل بأن أهداف السياسة الخارجية الأميركية حميدة جوهريا أسطورة الاستثنائية الأميركية: ما يصب في مصلحة الولايات المتحدة يصب بالضرورة في مصلحة العالم. برغم أن هذا الرأي صحيح في بعض الأحيان دون أدنى شك، فإن الأسطورة تجعل صناع السياسات الأميركيين في كثير من الأحيان عاجزين عن إدراك حقيقة ممارستهم للسلطة. الواقع أن الولايات المتحدة لا تتورع عن تقويض ديمقراطيات أخرى عندما يناسب ذلك مصالحها، وسجلها حافل بالتدخل في السياسات الداخلية لدول ذات سيادة. كان غزونها للعراق عام 2003 انتهاكا واضحا لميثاق الأمم المتحدة مثله كمثل اعتداء الرئيس الروسي فلاديمير بوتن على أوكرانيا.
في الأغلب الأعم، تعكس المخططات التي تعدها الولايات المتحدة لما يسمى "الأسواق المفتوحة" و"النظام الدولي القائم على القواعد" في المقام الأول مصالح نُـخَـب الشركات والسياسة الأميركية وليس تطلعات الدول الأصغر حجما. وعندما تتباعد القواعد الدولية عن تلك المصالح، تظل الولايات المتحدة بعيدة ببساطة (كما هي الحال مع المحكمة الجنائية الدولية، أو أغلب اتفاقيات منظمة العمل الدولية الأساسية).
كانت توترات عديدة واضحة جلية في خطاب ألقاه مؤخرا وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين حول النهج الذي تتبناه أميركا في التعامل مع الصين. وصف بلينكين الصين بأنها "التحدي الطويل الأمد الأشد تهديدا للنظام الدولي" زاعما أن "رؤية بكين من شأنها أن تقودنا بعيدا عن القيم العالمية التي حافظت على قدر كبير من التقدم الذي أحرزه العالم". الواقع أن بلينكين محق في أن العديد من عناصر نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، مثل ميثاق الأمم المتحدة، ليست أميركية أو غربية صِـرفة. لكن من غير المؤكد على الإطلاق ما إذا كانت الصين تشكل تهديدا أعظم لتلك الـبُـنـى العالمية مقارنة بالولايات المتحدة.
على سبيل المثال، يرتبط قسم كبير من المشكلة التي يواجهها صناع السياسات في الولايات المتحدة مع الممارسات الاقتصادية الصينية بمجالات النفوذ ــ وخاصة التجارة، والاستثمار، والتكنولوجيا ــ حيث نادرا ما تكون الـغَـلَـبة للقواعد العالمية. وفقا لتصريحات بلينكين، فإن الولايات المتحدة "ستشكل البيئة الاستراتيجية حول بكين لتعزيز رؤيتنا لنظام دولي مفتوح وشامل". مرة أخرى، من الذي قد يعارض مثل هذه الرؤية؟ لكن الصين والعديد من الدول الأخرى تخشى أن تكون نوايا الولايات المتحدة غير حميدة بهذا القدر. من منظور هذه الدول، تبدو تصريحات بلينكين وكأنها تهديد باحتواء الصين وتقييد خياراتها، في حين يتنمر بذات التصريحات على بلدان أخرى لحملها على الانحياز إلى جانب أميركا.
لا أدَّعـي بأي من هذا المساواة بين تصرفات الولايات المتحدة الحالية وغزو روسيا لأوكرانيا أو انتهاكات الصين الجسيمة لحقوق الإنسان في شينجيانج والاستيلاء على الأراضي في منطقة الهيمالايا وبحر الصين الجنوبي. فعلى الرغم من كل عيوبها، تُـعَـد الولايات المتحدة دولة ديمقراطية حيث يستطيع المنتقدون انتقاد ومعارضة السياسة الخارجية التي تنتهجها الحكومة علانية. لكن هذا لا يشكل فارقا كبيرا من منظور البلدان التي تلقى معاملة البيادق على رقعة شطرنج المنافسة الجيوسياسية الأميركية مع الصين، والتي تناضل غالبا للتمييز بين التصرفات العالمية التي تزاولها القوى الكبرى.
الحق أن بلينكين رسم صِـلة واضحة بين الممارسات الاستبدادية من جانب الصين والتهديد المفترض الذي تشكله للنظام العالمي. هذا هو إسقاط لصورة منعكسة لإيمان أميركا باستثنائيتها الحميدة. ولكن مثلما لا تدل الديمقراطية في الداخل على حسن النوايا في الخارج، فإن القمع المحلي لا يُـفضي حتما إلى العدوان الخارجي. فالصين أيضا تزعم أنها مهتمة بإيجاد نظام عالمي مستقر ومزدهر ــ لكنه ليس نظاما مرتبا بشكل قصري وفقا لشروط الولايات المتحدة. المفارقة هنا هي أنه كلما تعاملت الولايات المتحدة مع الصين على أنها تهديد وحاولت عزلها، كلما بدت استجابات الصين وكأنها تؤكد صحة مخاوف أميركا. مع سعي الولايات المتحدة إلى إنشاء ناد من الديمقراطيات التي تعارض الصين صراحة، فليس من المستغرب أن يتودد الرئيس الصيني شي جين بينج إلى بوتن في وقت حيث كانت روسيا تعد العدة لغزو أوكرانيا.
وكما يلاحظ الصحافي روبرت رايت، فإن البلدان المستبعدة من مثل هذه التجمعات ستحتشد معا. في الاستجابة لأولئك الذين يتساءلون لماذا ينبغي لنا أن نهتم بتراجع قوة أميركا النسبية، ترد نخب السياسة الخارجية الأميركية بسؤال بلاغي: هل تفضل العيش في عالم تهيمن عليه الولايات المتحدة أو الصين؟ في حقيقة الأمر، تفضل الدول الأخرى الحياة في عالم بلا هيمنة، حيث تحتفظ الدول الصغيرة بدرجة عادلة من الاستقلالية، وتدير علاقات طيبة مع الآخرين جميعا، ولا تضطر إلى اختيار أحد الجانبين، ولا تتحول في النهاية إلى أضرار جابية عندما تتقاتل القوى الكبرى. كلما أسرع قادة الولايات المتحدة في إدراك حقيقة مفادها أن الآخرين لا ينظرون إلى طموحات أميركا العالمية من خلال ذات العدسات الوردية، كان ذلك أفضل للجميع.