النتائج المفاجئة للانتخابات العراقية
مجموعة الازمات الدولية
2021-11-21 07:41
بقلم: لهيب هيجل
رغم أن الانتخابات التي أجريت في العراق في تشرين الأول/أكتوبر لم تنتج تغييراً جوهرياً، فإنها خلخلت ميزان القوى في البرلمان. وباتت النتيجة الأكثر رجحاناً هي تشكيل ائتلاف يمكن أن يحافظ على الوضع السياسي الراهن لكن قد لا يتمكن من المحافظة على السلم الاجتماعي.
ما زالت الأمور ليست على ما يرام في السياسة العراقية بعد نحو ثمانية عشر عاماً من الغزو الأمريكي الذي أطاح بنظام صدام حسين. ففي عام 2019، اكتسحت البلاد موجة من الاحتجاجات الشعبية عرفت بـ "حراك تشرين"، حيث دعا المتظاهرون إلى إجراء إصلاحات جوهرية للنظام السياسي لما بعد عام 2003. تشكل الانتخابات التي أجريت في تشرين الأول/أكتوبر، والتي قدمتها الحكومة ستة أشهر استجابة لغضب الشارع، النتيجة الملموسة الوحيدة للاحتجاجات حتى الآن. إلا أن أقل من نصف الناخبين شارك في عملية الاقتراع، ما يثير الشكوك بقدرة النظام على توليد الشرعية التي يحتاجها حاجة ماسة. في هذه الأثناء، تدّعي بعض الأحزاب حدوث تزوير في محاولة لتغيير النتائج أو على الأقل تحسين فرصها في كسب مواقع متميزة في حكومة جديدة. ولجأ البعض إلى العنف – بما في ذلك، كما يبدو، محاولة اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي – للتأكيد على مطالبهم. والحصيلة الأكثر احتمالاً تتمثل في تشكيل ائتلاف آخر لا يتمتع بالمتطلبات اللازمة للحكم وبالتالي فإنه قد لا يعمر طويلاً جداً.
في 10 تشرين الأول/أكتوبر، خرج العراقيون للإدلاء بأصواتهم في خامس انتخابات عامة تجرى منذ عام 2003. وقد كانت الحملة الانتخابية تنافسية، أكد مراقبو الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بعدها أن عملية الاقتراع أديرت بشكل جيد. لكن يبدو أن هذه الشكليات لم تهم العراقيين كثيراً، حيث إن معظمهم لم يدلي بصوته. وبلغ معدل الإقبال على الاقتراع أدنى مستوى له في حقبة ما بعد عام 2003، حيث كانت النسبة 36 بالمئة من المواطنين الذين يحق لهم الاقتراع ومشاركة 44 بالمئة من الناخبين المسجلين. وقد كان هذا المعدل الضئيل متوقعاً على نطاق واسع، حيث إن قلة من العراقيين تتوقع أن تُحدث الانتخابات تغييراً ذي معنى على النظام بصيغته الحالية.
إلا أن قلة أيضاً كانت قد تنبأت بأن النتائج ستهز النظام بطريقة أخرى. مع ظهور فجوات أكبر من المعتاد بين الرابحين والخاسرين، فإن الانتخابات خلخلت التوازن القائم داخل ميثاق النخبة العراقية، خصوصاً في المعسكر الشيعي، حيث أحرزت قوات مقتدى الصدر قوة كبيرة على حساب تحالف الفتح. الكتلة الأخيرة تمثل مصالح المجموعات شبه العسكرية في الحشد الشعبي، والتي حشدها رجال الدين الشيعة لحمل السلاح في عام 2014 لمساعدة الحكومة على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية. قلة من هذه المجموعات سلمت أسلحتها؛ وبعضها المقرب من إيران، لكن جميعها تبقى شوكة في خاصرة الدولة العراقية.
الطرف الخاسر في هذا المزيج المفكك من الأحزاب الشيعية يسعى الآن لحفظ ماء وجهه بنزع الشرعية عن الانتخابات التي فاز بها خصومه. كما تُظهر محاولة اغتيال الكاظمي، فإن الرهانات في هذا الصراع مرتفعة وأن المخاطر على أمن العراق حقيقية. لكن في النهاية، ليس لأي حزب مصلحة في تعطيل الوضع الراهن. لذلك، تتمثل الحصيلة الأكثر ترجيحاً في التوصل إلى ميثاق شامل آخر بين أفراد النخبة للمحافظة على السلم السياسي من خلال ضمان حصول جميع الأحزاب التقليدية على حصة في الحكومة. أما ما إذا كان بوسع مثل ذلك الاتفاق المحافظة على السلم الاجتماعي فمسألة أخرى.
كيف ينبغي أن نفهم النتائج؟
حتى لو كانت الأحزاب التقليدية هي الرابح الأكبر، فإن الانتخابات قدمت عدة مفاجآت بفضل نظام انتخابي جديد (يُعرف بنظام الصوت الواحد غير القابل للتحويل). قسم هذا النظام محافظات العراق الثمان عشرة إلى 83 دائرة انتخابية متعددة الأعضاء، حيث توزع مقاعد البرلمان البالغ عددها 329 مقعداً فيما بينها. يختار الناخبون مرشحاً واحداً – وبالتالي، في حين قد يكون المرشحون أعضاء في الحزب، فإنهم، جوهرياً، يتنافسون كأفراد ولا يستطيعون تحويل الأصوات الفائضة على مرشحين آخرين من حزبهم – ويفوز المرشحون الذين يحصلون على أكبر عدد من الأصوات في كل دائرة بالمقاعد المتاحة (وقد أصبحت الدوائر الانتخابية تتكون مما بين ثلاثة وستة أعضاء طبقاً لحجم الدائرة). في الانتخابات السابقة التي أجريت بعد عام 2003، حدد نظام التمثيل النسبي القائم على القائمة الحزبية عملية توزيع المقاعد طبقاً للعدد الإجمالي للأصوات التي فاز بها حزب ما، وليس المرشحين كأفراد.
حقق التيار الصدري فوزاً كبيراً. وكان من المتوقع أن يحدث ذلك، بالنظر إلى حجم قاعدته المخلصة له، المنظمة جيداً والمركزة في الضواحي الشرقية لبغداد وفي الجنوب. غير أن حجم فوزه، من 54 مقعداً في عام 2018 إلى 73 في المجلس الجديد، لم يكن متوقعاً. عدد الناخبين الصدريين لم يرتفع؛ ففي بعض المحافظات كان عددهم أقل مما كان عام 2018. لكن الصدر استفاد من مزيج تدني نسبة المشاركة والدراسة الدقيقة للدوائر الانتخابية الجديدة، ما سمح للحزب بضمان عدم تنافس مرشحيه على نفس الأصوات.
على النقيض من ذلك، فإن تحالف الفتح، المكون من عدة جهات مرتبطة بالحشد، كانت خسارته فادحة. جزئياً بسبب النظام الجديد، فإن خسائره – حيث انخفض تمثيله إلى 17 مقعداً من 48 حصل عليها عام 2018 – كانت أكبر نسبياً بكثير من انخفاض العدد الإجمالي للأصوات التي حصل عليها. على عكس الصدريين، قدم الفتح مرشحين تنافسوا ضد بعضهم بعضاً في نفس الدوائر الانتخابية، وتنافسوا على نفس الأصوات، وبالتالي لم يحصلوا على العدد اللازم من الأصوات. كما إنه تنافس مع حركة "حقوق"، وهو حزب جديد مرتبط بكتائب حزب الله، وهي مجموعة داخل الحشد لم تكن قد شاركت من قبل في الانتخابات. عامل ثالث كان أن الفتح خسر أصواتاً لصالح تحالف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، والذي عاد بقوة لا بأس بها حيث فاز بخمسة وثلاثين مقعداً بزيادة عشرة مقاعد. الكثير من ناخبي الحشد مستاؤون من فساد الأحزاب التي تمثل المؤسسة. وينظرون إلى المالكي، القائد المدني القوي الذي وسّع خلال رئاسته للوزراء التوظيف في القطاع الأمني، على أنه بديل جيد. وبالتالي ظهر المالكي بوصفه الخصم الرئيسي للصدر في الجهود الرامية لتشكيل حكومة بدعم من الأحزاب الصغيرة.
وكان الخاسرون الرئيسيون الآخرون هم القادة الشيعيين الوسطيين، عمار الحكيم وحيدر العبادي، والأخير رئيس وزراء سابق أيضاً. كحال الفتح، فإنهم ارتكبوا خطأ إدارة تحالف مشترك، فقدموا مرشحين متنافسين، وبالتالي قسموا العدد الصغير أصلاً لناخبيهم، وفاز كل منهما بمقعدين. وقد يكون الحكيم خسر أصواتاً للمستقلين والأحزاب المرتبطة بتشرين، حيث سعى لاجتذاب الجيل الشاب دون تقدير أن الكثير من الشباب سيرفضون الأحزاب التقليدية بصرف النظر عن الحماسة التي يعبر بها مرشحوها عن التزامهم بالإصلاح.
من بين القادمين الجدد، فإن نجاح "امتداد"، وهي حركة نشأت من حركة تشرين الاحتجاجية، يعد مؤشراً على شهية جمهور الناخبين للوجوه الجديدة في السياسة العراقية. إضافة إلى قاعدته الأصلية في محافظة الناصرية الجنوبية، فاز الحزب بمقاعد في بابل والنجف في الجنوب الأوسط، فحصل على تسعة مقاعد بالمجمل. كان أداء امتداد سيكون أفضل حتى لو لم يقلل من شأن الرغبة بظهور قيادة جديدة. ووعياً منه لمخاطرة تقديم عدد أكبر مما ينبغي من المرشحين، وبالتالي تجزئة عدد الأصوات التي سيحصل عليها، فإنه قدم مرشحاً واحداً في كل واحدة من الدوائر الانتخابية في الناصرية. ولذلك جاء مرشحوه في المرتبة الأولى في الدوائر الخمس جميعها، ففاز بهوامش كبيرة على المرشحين الصدريين الذين حلوا في المرتبة الثانية. رغم ذلك، وبسبب التصويت الأكثر تكتيكية للصدريين، فإن الحزب فاز بتسعة مقاعد في تلك الدوائر الخمس. لو أن امتداد قدم مرشحين أكثر وقام بتنظيم أنصاره بشكل أفضل، لا شك في أنه كان سيفوز بعدد أكبر من المقاعد.
نتائج الانتخابات فاجأت الحركة الاحتجاجية نفسها أيضاً. فمعظم الأحزاب المرتبطة بتشرين قاطعت الانتخابات، جزئياً لأن الانتخابات السابقة كانت قد ساعدت على تشكيل نفس النظام الذي يحتجون ضده. الآن، استعادوا درجة من الثقة في العمليات الديمقراطية في عراق ما بعد 2003، حيث رأوا أن مستقلين وأحزاب جديدة تستطيع أن تحقق الدخول إلى البرلمان. وقد بدأ بعضهم أصلاً بالاستعداد للانتخابات البلدية، المقرر إجراؤها في وقت ما من عام 2022. ويبدو أن الناخبين استعادوا بعض الثقة في النظام السياسي أيضاً: بعض الناخبين الذين خاب أملهم ممن تعاطفوا مع الحركة الاحتجاجية، ولبوا دعوة مقاطعة الانتخابات، يعبرون عن أسفهم لفعل ذلك.
خارج المناطق ذات الأغلبية الشيعية في بغداد والجنوب، فإن أثر النظام الانتخابي الجديد لم يكن واضحاً.
على الجانب السني، كان أداء "تقدم"، وهو حزب رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، جيداً، ففاز بـ 37 مقعداً، في حين أن خصمه الرئيسي، خميس الخنجر، فاز بـ 14 مقعداً. استثمر الحلبوسي بشكل كبير في العلاقات مع زعماء العشائر السنة في سائر أنحاء البلاد. كما استفاد من الاستياء واسع الانتشار من السياسيين المخضرمين الأكبر سناً ومن تدني نسبة المشاركة في المناطق ذات الأغلبية السنية. السنة في نينوى وصلاح الدين، الذين رأوا جهود الحلبوسي في جذب الاستثمار لإعادة إعمار محافظته الأنبار، صوتوا لصالحه على أمل أن قيادته سيكون لها أثر مماثل في مناطقهم.
بين الأحزاب الكردية، فاز الحزب الديمقراطي الكردستاني كما هو متوقع، بـ 32 مقعداً، في حين تعرض خصمه الاتحاد الوطني الكردستاني، لخسارة، جزئياً بسبب الصراعات الداخلية، فحصل في النهاية على 16 مقعداً. وكحال الصدر، استفاد الحزب الديمقراطي الكردستاني من قاعدة شعبية منظمة جيداً رغم أنه حصل على عدد أقل من الأصوات مما فعل في الانتخابات السابقة. وعلى شاكلة نجاح "امتداد" في الجنوب، فإن حركة "الجيل الجديد"، وهي مجموعة كردية مؤيدة للإصلاح دخلت البرلمان أول مرة بعد انتخابات عام 2018 ودعمت احتجاجات تشرين عام 2019، حصلت على تسعة مقاعد، ما يبرز الاستياء من الأحزاب التقليدية في إقليم كردستان أيضاً. استفاد "الجيل الجديد" من ضعف الاتحاد الوطني الكردستاني وكسب الناخبين السابقين الذين كانوا يصوتون لحركة غوران الإصلاحية، والتي خسرت جميع مقاعدها بعد أن دخل مرشحوها على قائمة مشتركة مع الاتحاد الوطني الكردستاني.
تحدي نتائج الانتخابات
بالنسبة للأحزاب الشيعية الخاسرة، شكلت نتائج الانتخابات صدمة. ورداً على ذلك، شكلت جبهة موحدة، "الإطار التنسيقي" الشيعي، الذي يشمل جميع القادة الشيعة باستثناء الصدر، للطعن في النتائج استناداً إلى الادعاءات بوجود تزوير. غير أن الأحزاب تختلف حول كيفية المضي قدماً إذا لم تنجح شكواها الرسمية للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، كما من المرجح أن يحدث، لإحداث تغيير كبير في حصيلة الانتخابات. حتى لو قررت المفوضية بشأن بعض التعديلات، فمن غير المرجح أن يرقى ذلك إلى أكثر من حفنة من المقاعد. تُجري المفوضية إعادة عد يدوية جزئية، في حين تطالب الأحزاب الخاسرة بإعادة عد الأصوات على مستوى البلاد، قائلة إن لا شيء أقل من ذلك يمكن أن يعالج جميع شكاواهم.
على أحد جانبي المعسكر الخاسر هناك القادة الوسطيين مثل الحكيم والعبادي، الذين كانت النتائج محرجة لهم. من غير المرجح أن يذهبوا أبعد من الإصرار على علاجات قانونية لما يشيرون إليه بأنه "مخالفات" في العد. في هذه الأثناء، فإنهما شرعا في محادثات مع الصدر بشأن تشكيل حكومة. ومن الجهة الأخرى هناك فصائل الحشد الموالية لإيران والمرتبطة بكتلة الفتح، إضافة إلى "حقوق"، التي ترى في النتائج خديعة لإبعادها عن السلطة. المالكي، ورغم تحقيقه نتائج جيدة في الانتخابات، فإنه دعم الفريقين في الطعن بالنتائج، لأنه يريد الفتح والأحزاب الشيعية الأخرى خلفه في المفاوضات مع الصدر.
في هذه الأثناء، صعّدت فصائل مثل عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله من تكتيكاتها وضغوطها إلى درجة عزلتها عن محادثات تشكيل الحكومة بدلاً من أن تكسبها تنازلات من شأنها أن تمكنها من حفظ ماء الوجه. في 5 تشرين الثاني/نوفمبر، أقامت هذه المجموعات اعتصاماً خارج المنطقة الخضراء، المنطقة من بغداد التي توجد فيها معظم المباني الحكومية. وكان الاحتجاج سلمياً إلى أن تجاوز بعض الحضور محيط المنطقة، واصطدم مع عناصر الأمن الذين حاولوا منعهم من الدخول. قتل محتجان ينتميان إلى عصائب أهل الحق في حين تعرضت قوات الأمن لأكثر من مئة إصابة. زار قائد المجموعة، قيس الخزعلي موقع المظاهرة، حيث سجل مقطع فيديو يحمل فيه المسؤولية لرئيس الوزراء الكاظمي عن مقتل المتظاهرين ويتعهد بمقاضاته.
في المساء التالي، قصفت ثلاث مسيرات محملة بالمتفجرات مقر إقامة الكاظمي. عُزي الهجوم، الذي لم تعلن أي جهة المسؤولية عنه، والذي تسبب بأضرار مادية فقط، في وسائل الإعلام إلى المجموعات شبه العسكرية الموالية لإيران (بشكل رئيسي بسبب استعمال تكنولوجيا المسيرات). كائناً من كان الذي أمر بالهجوم، فإنه وجّه على الأرجح رسالة للكاظمي بأنه ينبغي ألا يرشح نفسه لرئاسة الوزراء في الحكومة الجديدة. ولم تكن تلك الإشارة الأولى، ففي 31 تشرين الأول/أكتوبر، ضربت ثلاثة صواريخ منطقة قرب مقر المخابرات في بغداد، وهي مؤسسة رأسها الكاظمي وما يزال يسيطر عليها.
إذا كان المقصود بهذه الهجمات أن تشكل تحذيراً، فإنها ربما أحدثت الأثر المعاكس. فالضربة بالطائرات المسيرة، والتي افتُرض على نطاق واسع أنها محاولة اغتيال، حظيت بإدانة على المستويين الوطني والدولي، إضافة إلى بيانات بالدعم لرئيس الوزراء وحكومته، بما في ذلك من إيران، التي تدعم المجموعات شبه العسكرية لكنها تدعم الحكومة أيضاً. قائد قوة القدس الإيرانية، إسماعيل قاآني، زار بغداد بعد ذلك بوقت قصير، وعبّر عن احترامه الشخصي لرئيس الوزراء؛ ويذكر أنه طلب من المجموعات شبه العسكرية داخل كتلة الفتح قبول نتائج الانتخابات. تبقى الأولوية الإيرانية القصوى وحدة المعسكر الشيعي بالمقارنة مع هواجس رئيسية مثل تشكيل حكومة تقودها الأحزاب الشيعية.
قبل زيارة قاآني، بدا أن المجموعات شبه العسكرية تضبط نفسها بسبب رد الفعل على ضربة المسيرات للكاظمي التي وسعت الفجوة داخل المعسكر الشيعي، وحتى داخل كتلة الفتح. أولئك الذين دعموا المظاهرات السلمية وقفوا ضد المجموعات التي كانت قد اختارت التصعيد، حيث ظلت المجموعة الأخيرة أقلية متضائلة. ومن المرجح أن تسهّل الإدانات القوية للهجوم من المالكي وقائد الحشد هادي العامري الحوار الشيعي الداخلي وأن تدفع الفتح للوقوف خلف المالكي بوصفه الزعيم الأقوى في المفاوضات مع الصدر.
إلا أن التوترات تظل قائمة، حيث إن رفض النتائج يتعلق أيضاً بالمحافظة على المصالح الجوهرية للفصائل الموالية لإيران، خصوصاً مستقبل الحشد كمؤسسة تتمتع باستقلال نسبي عن الدولة. تحالف الفتح، الذي يعتبر نفسه الحامي السياسي الرئيسي للحشد، يعتبر صعود الصدر تهديداً لنفوذه. وقد عبّر الصدر في عدة مناسبات عن عزمه كبح جماح الميليشيات ووضع جميع الأسلحة تحت سيطرة الدولة. لكنه من غير المرجح أن يصر على هذه الخطوة إذا أراد أن يشكل حكومة أو أن يتخذها فعلياً إذا أراد المحافظة على حكومة يلعب فيها تياره دوراً رئيسياً. لا يستطيع الصدر التحرك دون توافق في المعسكر الشيعي إذا أراد تحاشي صراع مفتوح مع خصومه، وأية ضمانات يستطيع أن يقدمها بأنه سيحمي الحشد حالما يصبح حزبه في الحكومة ستكون محورية، وكذلك مسألة ما تعتبره المجموعات المرتبطة بالحشد حصتها المشروعة في مؤسسات الحكم.
علاوة على ذلك، فإن المفوضية الانتخابية تقترب من الانتهاء من عدها اليدوي الجزئي، الذي ستقوم بعده المحكمة العليا بالمصادقة على النتائج. ولذلك فإن البرلمان الجديد قد يعقد جلسته الأولى في مطلع كانون الأول/ديسمبر. وبحلول ذلك الوقت، يكون العد العكسي نحو الحدث الرئيسي القادم –سحب الولايات المتحدة لقواتها القتالية من العراق والذي يفترض أن يحدث مع نهاية العام– قد بدأ (سيركز تفويض القوات المتبقية على التدريب وتقديم المشورة للقوات العراقية). المجموعات شبه العسكرية، التي تشك بأن الولايات المتحدة ستحاول الاحتفاظ ببعض القدرات القتالية، قد تستأنف هجماتها على المنشآت العسكرية الأمريكية والبعثات الدبلوماسية كوسيلة ضغط في محادثات تشكيل الحكومة.
تشكيل الحكومة
من شبه المؤكد أن يكون تشكيل الحكومة مسألة طويلة. على عكس المتوقع إلى حد ما، فإن الهامش الكبير لفوز الصدر يجعل من غير المرجح أن يسعى إلى تشكيل حكومة أغلبية تستبعد المالكي أو تحالف الفتح. فالفتح، على سبيل المثال، غاضب من هزيمته المهينة؛ وبالتالي فإن إقصاء هذه الأحزاب من السلطة سيزيد فقط من تصميمها على المقاومة (رغم أن بعض قادتها يدّعون أنهم لن ينضموا إلى الحكومة). علاوة على ذلك، فحتى لو بدا الصدر منتصراً، فإنه لن يرغب بالاضطلاع بمسؤوليات الحكومة وحده وأن يخاطر بتحمل جميع المسؤولية عن فشلها. ولذلك فإن الاحتمال الأكبر هو أن يدفع نحو اختيار رئيس وزراء توافقي مع خصومه الشيعة من أن يصر على أن يشغل شخص من معسكره الموقع الأول.
كما أن عملية تشكيل الحكومة أكثر تعقيداً من مجرد توزيع المناصب الوزارية. فهو يشمل حصص المناصب الرئيسية (ما يسمى بالدرجات الخاصة) في الجهاز الإداري للدولة والنفوذ على المؤسسات المالية مثل المصرف المركزي، إضافة إلى الأدوار الإدارية في الجهاز التنفيذي التي تتمتع بالنفوذ على عملية صنع السياسات. إذا اقتربت الأحزاب الشيعية من اتفاقي مرضٍ على جميع هذه المستويات حول موقع المناصب التي ستضع فيها الموالين لها، فإن المنافسة، والمرجح أن تكون بين الصدر والمالكي، حول من يستطيع أن يشكل أكبر كتلة في البرلمان – وبالتالي تسمية رئيس الوزراء – ستكون أقل أهمية في تشكيل حكومة جديدة.
تحالفات ما قبل الانتخابات، كذاك الذي كان معقوداً بين الصدر، والحزب الديمقراطي الكردستاني و"تقدم"، من غير المرجح أيضاً أن تترجم إلى أكبر كتلة برلمانية على حساب الأحزاب الشيعية الأخرى. سيراقب الحلبوسي والحزب الديمقراطي الكردستاني بشكل وثيق المحادثات الشيعية الداخلية وقد يجدان أن حكومة توافقية تشمل الأحزاب الشيعية الرئيسية هي الطريق الأمثل لتأمين مصالحهما. على سبيل المثال، فإن إحدى أولويات الأحزاب الكردية في بغداد تتمثل في تسوية مسألة المناطق المتنازع عليها، وهي المناطق التي تدعي كل من الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان حقها فيها. لا يتمتع الصدر بالكثير من النفوذ في هذه المناطق؛ إذ يمسك الحشد بمعظمها.
كما سينظر الحلبوسي في أفضل طريقة لتعزيز مكاسبه. وبالنظر إلى أن لا خصم له في المعسكر السني، فإنه قد يسعى إلى الاضطلاع بدور قيادي في المطالبة بدرجة أكبر من الحكم الذاتي للمناطق السنية، مشابهة لوضع إقليم كردستان في العراق الاتحادي. لكن السنة والأكراد على حد سواء سينتظرون إلى أن يهدأ الغبار في المعسكر الشيعي قبل توضيح مطالبهم بالمناصب، مثل من ينبغي أن يكون رئيس البرلمان، وهي المناصب التي من المفترض أن يحصلوا عليها طبقاً لصيغة تقاسم السلطة غير المكتوبة في العراق بعد عام 2003، والتي تحتفظ برئاسة الوزراء لشيعي، ورئاسة الجمهورية لكردي ورئاسة البرلمان لسني.
وبالتالي فمن غير المرجح أن تبتعد عملية تشكيل الحكومة عن المساومات التقليدية. وستكون شاملة – على الأقل للنخب السياسية – وغير إقصائية من أجل المحافظة على السلم السياسي، وبالتالي ستقوم على نفس المعادلة غير المستدامة التي أسقطت الحكومة خلال اضطرابات تشرين قبل سنتين. نظراً إلى أنه يترتب عليها إرضاء الجميع، فإنها تستطيع، مرة أخرى، أن تكون فقط غير فعالة وغير قادرة على الشروع بإجراء إصلاحات ثمة حاجة ماسة لها.
الجديد في المعادلة هو دخول عدد كبير من الأحزاب والمرشحين المستقلين إلى البرلمان ممن لا يعتزمون الانضمام إلى الحكومة. للمرة الأولى، سيشهد البرلمان وجود معارضة مكونة من 40-50 برلماني. لكن هذه المجموعة من الحركات والأفراد الصغيرة وغير الخبيرة سياسياً على الأغلب من غير المرجح أن تشكل كتلة موحدة يمكن أن تتحمل الضغط من الأحزاب التقليدية الساعية إلى المحافظة على الوضع الراهن. في أفضل الأحوال، ستتمكن من تحدي سياسات حكومية معينة وأن تؤيد سن قوانين بديلة كطرق للمحافظة على ثقة ناخبيها إلى أن يحين موعد الانتخابات القادمة.
في حين أن أسعار النفط المرتفعة ستساعد في المحافظة على بقاء التحالف الحاكم، فإن نفاد صبر العراقيين المتنامي حيال سوء الحكم سيجعله هشاً في وجه الصدمات الخارجية، سواء كانت تتعلق بالأمن، أو الاقتصاد أو البيئة. يمكن لأزمات مثل نقص المياه الحاد في البصرة في عام 2018 أن يعيد إشعال فتيل الاضطرابات العامة، وهذه المرة بوجود برلمانيين يشكلون صدى لأصوات الشارع.