النزاع بين إقليم تيغراي والحكومة الفدرالية الإثيوبية: أسبابه ومآلاته
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
2020-11-23 08:17
اندلعت في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر 2020 اشتباكات عسكرية مسلحة بين الحكومة الفدرالية الإثيوبية و"جبهة تحرير شعب تيغراي" (TPLF)، أحد المكونات الأساسية للحزب الحاكم السابق "الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا" (EPRDF)، الذي حكم البلاد نحو ثلاثة عقود تقريبًا. وثمة خلفيات عميقة للصراع مع رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد، ولكنّ أسبابًا عديدة أخرى أدت إلى اندلاع النزاع في هذا التوقيت، أهمها: تأجيل حكومة آبي أحمد الانتخابات الرئاسية بسبب جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19)؛ ما أثار اعتراضات واسعة بين مختلف القوى السياسية والأحزاب، وقيام الحكومة بحل الجبهة الديمقراطية الثورية، وإنشاء حزب الازدهار التابع لآبي أحمد بديلًا منها، إضافة إلى استهداف أعضاء الحزب من جبهة تحرير شعب تيغراي. وقد دفعت هذه الإجراءات جبهة تحرير شعب تيغراي إلى إجراء انتخابات داخلية في الإقليم من دون موافقة أديس أبابا؛ ما أدى إلى تفجر الأزمة.
أوضاع البلاد عشية الأزمة
سيطرت الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا[1]، والتي كانت تضم تحالفًا من أربعة أحزاب كبرى أبرزها جبهة تحرير شعب تيغراي، على مقاليد الحكم في إثيوبيا لمدة تربو على ثلاثة عقود (1991-2018)، بعد أن أسقطت منغستو هيلا مريام بدعم من السودان، وتمكنت خلال هذه الفترة من تحقيق معدلات نمو اقتصادية عالية وصلت في بعض السنوات إلى نحو 10 في المئة[2]. لكن الأوضاع السياسية والاقتصادية تدهورت بصورة كبيرة، بعد وفاة رئيس الوزراء ملس زيناوي، الذي كان أيضًا زعيمًا لجبهة تحرير شعب تيغراي، وحكم البلاد نحو عقدين من الزمن (1991-2012) بقبضة حديدية.
وبدأت البلاد تشهد حالة من الاضطرابات المستمرة اعتبارًا من عام 2015، وبلغت ذروتها في احتجاجات إقليم أوروميا مطلع عام 2018. وقد وصل على أثرها آبي أحمد إلى رئاسة الحكومة (بعد أن كان مديرًا للمخابرات العامة والحاكم الفعلي)، بعد تفاهمات أسفرت عن انتخابه زعيمًا لتحالف الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا، في نيسان/أبريل 2018. وقد شن حملة تطهير للتيغراي من مفاصل السلطة بعد وصوله إلى الحكم.
لقي وصول آبي أحمد ترحيبًا شعبيًا، خاصة بين الشباب الذين كان لهم دور بارز في احتجاجات 2018، وخصوصًا بعد أن أطلق سلسلة إصلاحات، تضمنت إطلاق سراح المعتقلين السياسيين والسماح بتأسيس أحزاب معارضة، وبفضل خطابه الداعي إلى الوحدة الوطنية في بلد تعيش فيه أكثر من 80 جماعة عرقية. لكن هذه الآمال سرعان ما تبددت؛ إذ عادت الاضطرابات السياسية، وصارت الاغتيالات أمرًا معتادًا في أنحاء مختلفة من البلاد[3]، وسط احتجاجات متكررة ضد الحكومة، وصلت حد التمرد، خاصة في إقليم أوروميا، الذي ينتمي إليه آبي أحمد نفسه، وسط اتهامات له بأنه لم يبدِ اهتمامًا كبيرًا بمصالح جماعته العرقية التي علقت عليه آمالًا كبيرة، خاصة بعد أن جرى تهميشها طويلًا، مع أنها تشكل واحدة من أكبر المجموعات العرقية في البلاد.
وقد بلغ عدد القتلى في احتجاجات أوروميا، التي اندلعت في تموز/يوليو 2020 على خلفية مقتل مغنٍ شعبي معروف، 616 شخصًا على الأقل[4]. وحاكمت السلطات أكثر من 4000 شخص، بمن فيهم كبار قادة الأورومو وقادة معارضة آخرين. وفي جنوب البلاد، وبحسب ما يسمح به الدستور الفدرالي، قدمت إحدى المجموعات الكبيرة في الجنوب - وهي مجموعة سيداما الإثنية طلبًا في تموز/يوليو 2018 - إلى الحكومة الفدرالية لإجراء استفتاء للانفصال عن إقليم الأمم والقوميات والشعوب الجنوبية (SNNPR)[5]، وتكوين إقليم جديد خاص بها. وكان هذا الطلب الأول من نوعه على مستوى إثيوبيا. وعلى الرغم من نجاح الاستفتاء في عام 2019، فإن العديد من المشكلات ظلت عالقة مثل تبعية مدينة "أواسا" عاصمة الإقليم وكذلك حدود الإقليم؛ ما ينذر بحدوث نزاع مع إقليم الأمم والقوميات والشعوب الجنوبية. وعلى المستوى الوطني، تأثرت إثيوبيا بجائحة كورونا وكان لها تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة.
من الآمال إلى التوترات
ما إن صعد آبي أحمد إلى سدة الحكم، حتى تصاعدت التوترات بين العاصمة أديس أبابا أو الحكومة الفدرالية من جهة، وميكيلي – عاصمة إقليم تيغراي من جهة أخرى؛ حيث عمل آبي أحمد على تطبيق سلسلة من الإجراءات الهادفة إلى تطهير مؤسسات الدولة الفدرالية من أعضاء الائتلاف الحاكم السابق وهي الجبهة الديمقراطية الثورية التي كان يقودها ضباط ومسؤولون ينحدر أكثرهم من إقليم تيغراي. فتم اعتقال العديد من القيادات ولا سيما العسكرية والأمنية، إلا من استطاع الهروب إلى خارج البلاد أو إلى إقليم تيغراي. وقد رفض الإقليم، الذي يدير عمليًا نوعًا من الحكم الذاتي، تسليم الهاربين إلى الحكومة الفدرالية؛ فكانت تلك بداية نشوء الصدع السياسي بين الإقليم والعاصمة أديس أبابا. ويعود استهداف تلك القيادات إلى ضلوعها في هيمنة إثنية على إثيوبيا. كما ترى الحكومة الفدرالية أن الجبهة الديمقراطية الثورية لم تقبل خسارة السلطة في عام 2018، ومن ثمّ فإنها كانت خلف عدد من العمليات الإرهابية وعمليات التخريب وتقويض الأمن، منها عمليات الاغتيال العديدة؛ فهي بذلك تسعى إلى تقويض إدارة آبي أحمد لإجباره على إفساح المجال لحكومة انتقالية بدلًا من الحكومة الحالية.
في المقابل، ترى الجبهة أن آبي أحمد انقلب عليها، حينما قرر حل الجبهة الديمقراطية الثورية، بعد أن استخدمها للوصول إلى السلطة؛ حيث تلقى المجلس الوطني للانتخابات رسـالة من رئيس الجبهة آبي أحمد، مفادها أن هذه الجبهة لم تعد موجودة بعد الآن كحـزب سياسي، وقد حل محلها حزب الازدهار، الذي رفضت جبهة تحرير شعب تيغراي الانضمام إليه. وترى جبهة تحرير شعب تيغراي أن هذا القرار يمثل خرقًا دستوريًا ويأتي ضد إرادة الشعب الإثيوبي الذي انتخب أعضاء الأحزاب التي كان يتكون منها تحالف الجبهة. وأصبح قسم كبير من الأرومو يعارضه، بوصفه متفردًا في الحكم وأصبح يبتعد عن الديمقراطية بحجة الحفاظ على وحدة إثيوبيا وتنميتها، وهذه أولوية على الديمقراطية؛ وفي ذلك نوع من التبني المؤاتي لأفكار الرئيس الإرتيري أسياس أفورقي، كما يرجح كثير من المعلقين الإثيوبيين.
وقد ازداد التوتر بين الحكومة الفدرالية وإقليم تيغراي، بعد قيام المجلس الأعلى في إثيوبيا، "مجلس الاتحاد"، بتمديد فترات حكم الحكومات الفدرالية والإقليمية بضعة أشهر بسبب تفشي جائحة كورونا. وهي الخطوة التي اعتبرها الإقليم غير دستورية. بناء عليه، مضى الإقليم قدمًا في عقد انتخابات مجلسه الإقليمي في 9 أيلول/سبتمبر 2020، على الرغم من تحذيرات أديس أبابا واعتبار التصويت غير قانوني. وقد بلغت نسبة المشاركة في انتخابات الإقليم حوالى 98 في المئة، بما يقارب 2.7 مليون ناخب وفقًا للجنة الانتخابية في تيغراي؛ حيث فازت جبهة تحرير شعب تيغراي بأغلبية كبيرة، وحصلت على 152 مقعدًا من أصل 190[6].
وكانت أحزاب المعارضة الرئيسة في إثيوبيا، والتي يتجاوز عددها مئة حزب، أعربت عن رفضها لقانون الانتخابات الجديد، الذي تم إقراره قبل تفشي جائحة كورونا؛ إذ رأت أن هذا القانون مفصّل على مقاس حزب الازدهار. وقد رفض المجلس الوطني للانتخابات حينها مطالب المعارضة بإعادة النظر في القانون. وتضم هذه الأحزاب، التي تحظى بدعم شعبي كبير، حزب المؤتمر الفدرالي لأوروميا الذي يقوده المعارض المعروف مرارا غودينا.
ومن الملفات الشائكة في هذه الأزمة أيضًا رفض حكومة إقليم تيغراي قرارًا اتحاديًا لتغيير قيادة القيادة الشمالية للجيش، والتي يقع مقرها في الإقليم، وتضم قيادات معروفة بتعاطفها مع قضايا الإقليم في مواجهة الحكومة الفدرالية وإريتريا بسبب خلافات حدودية واتهامات لإريتريا بالتدخل في الإقليم. وتضم القيادة الشمالية أكثر من نصف إجمالي أفراد القوات المسلحة الإثيوبية.
وقد رسخت هذه الإجراءات قناعات لدى الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بأن آبي أحمد يعمل على إضعاف الإقليم ويسعى لاحتكار السلطة. ويعتبر الخلاف حول تحويلات الميزانية من الملفات المهمة أيضًا في الصراع بين السلطات الفدرالية وحكومة إقليم تيغراي. وبسبب اعتبار الحكومة الفدرالية أن إجراء الانتخابات في الإقليم غير قانوني؛ قررت وقف تمويل السلطة التنفيذية في إقليم تيغراي، وتوجيهه بدلًا من ذلك إلى الإدارات المحلية مباشرة؛ ما أثار حفيظة زعماء الإقليم.
تداعيات محتملة للصراع
مع إطلاق ثلاثة صواريخ مصدرها إقليم تيغراي، استهدفت العاصمة الإريترية، أسمرة، يوم 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، يهدد الصراع بين الحكومة الفدرالية والإقليم بالتوسع والانتشار ليس داخل إثيوبيا فحسب، بل خارجها أيضًا إلى الدول الإقليمية. ففي ظل التحالف الجديد بين أديس أبابا وأسمرا - بعد توقيع اتفاقية السلام بين البلدين في حزيران/ يونيو 2018 وما تبعها من زيارات متبادلة بين قيادات البلدين كان آخرها زيارة أفورقي إلى سد النهضة في تشرين الأول/ أكتوبر 2020 وهي أول زيارة لرئيس أجنبي للسد - فإنه قد يتحول إلى تحالف عسكري وعمليات مشتركة ضد إقليم تيغراي.
وهنالك شواهد على ذلك، مثل استضافة أديس أبابا لعدد من المستشارين العسكريين الإريتريين. لكن هذا الأمر قد يستدعي مزيدًا من الانخراط الإقليمي في الصراع، فقد تنحاز مصر إلى صالح إقليم تيغراي، بهدف التأثير في القرار السياسي الإثيوبي بشأن سد النهضة، الذي تعتبره القاهرة تهديدًا لأمنها القومي، وكذلك للرد على التحالف الناشئ بين أديس أبابا وأسمرة. ولكن هذه احتمالات لم تتحقق بعد. وعلى الرغم من صدور دعوات تطلب تدخلًا دبلوماسيًا دوليًا لمنع تدهور الوضع، ولا سيما أن استمراره سيهدد التماسك السياسي الهش في إثيوبيا، وسيضع الدولة الفدرالية أمام خطر التفكك، فإن الاهتمام الدولي اقتصر حتى الآن على دعوات أطلقتها منظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لضبط النفس[7].
وفي ظل رفض بعض القيادات الشمالية للجيش الإثيوبي التدخل العسكري الفدرالي في الإقليم، هناك احتمال أن يتدهور الوضع أكثر، خاصة مع تطور مشاعر إقليم تيغراي المؤيدة للانفصال، ولا سيما أن الدستور الفدرالي ينص على هذا الحق، وقد صرحت قيادات الإقليم مرارًا بالأمر. لكنّ هذا لن يحصل على الأرجح، إلا إذا تأزمت الأمور وفشلت الوساطات والتدخلات الدولية في وقف النزاع. ويلقى الميل نحو الانفصال قبولًا لدى العديد من الإثنيات داخل إثيوبيا. لكن الحكومة الفدرالية لن تقف على الأرجح مكتوفة الأيدي، وهي ترى البلاد في طريقها إلى التفكك؛ إذ ستعتبر الحكومة الفدرالية أي محاولة للانفصال غير قانونية؛ لأنها ترى أن السلطة التنفيذية الحالية لإقليم تيغراي قد تم تشكيلها بطريقة غير قانونية. كما أن مساعي الإقليم نحو الانفصال والاستقلال من شأنها أن تطلق صراعات جانبية مع إثنية الأمهرة (المتحالفة قيادتها حاليًا مع آبي أحمد) بسبب نزاعات حول أراضٍ قام بضمها إقليم تيغراي من إقليم الأمهرة قبل بضعة عقود.
وفي ظل غياب تسوية سياسية للصراع بين الحكومة الفدرالية وسلطات إقليم تيغراي، قد تتصاعد الأزمة، التي باتت تنطوي على مخاطر كبيرة تهدد وحدة البلاد والاستقرار الإقليمي، خاصة مع تنامي صعوبة الفصل بين التوترات الداخلية والصراعات الإقليمية التي تشهدها المنطقة.