لماذا تتمرد المدن الغنية
بروجيكت سنديكيت
2019-10-24 07:38
بقلم: جيفري ساكس
نيويورك ــ ثلاث من أكثر مدن العالم ثراء اشتعلت بالاحتجاجات والاضطرابات هذا العام. فقد واجهت باريس موجات من الاحتجاجات وأعمال الشغب منذ نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2018، بعد فترة وجيزة من صدور القرار الذي اتخذه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برفع الضرائب المفروضة على الوقود. وكانت هونج كونج في جيشان متواصل منذ شهر مارس/آذار، بعد أن اقترحت الرئيسة التنفيذية كاري لام قانونا يسمح بتسليم المجرمين إلى البر الرئيسي الصيني. واندلعت أعمال الشغب في سانتياجو هذا الشهر بعد أن أمر الرئيس سباستيان بينييرا بزيادة أسعار تذاكر المترو. صحيح أن كل احتجاج كان له عوامله المحلية المميزة، لكنها في مجموعها تنبئنا بقصة أكبر حول ما قد يحدث عندما يقترن الإحساس بالظلم بتصور واسع النطاق بتدني الحراك الاجتماعي.
وفقا للمعايير التقليدية لنصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي، تُعَد كل من المدن الثلاث نموذجا للنجاح الاقتصادي. إذ يبلغ نصيب الفرد في الدخل نحو 40 ألف دولار في هونج كونج، وأكثر من 60 ألف دولار في باريس، وحوالي 18 ألف دولار في سانتياجو، وهي واحدة من أغنى المدن في أميركا اللاتينية. وفي تقرير التنافسية العالمية لعام 2019 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، تحتل هونج كونج المرتبة الثالثة، وفرنسا المرتبة 15، وشيلي المرتبة 33 (الأفضل في أميركا اللاتينية بفارق كبير).
مع ذلك، وفي حين تتميز هذه الدول بالثراء إلى حد بعيد والقدرة التنافسية بالمعايير التقليدية، فإن سكانها لا يشعرون بالرضا عن جوانب أساسية في حياتهم. فوفقا لتقرير السعادة العالمية لعام 2019، يشعر مواطنو هونج كونج، وفرنسا، وشيلي بأن حياتهم عالقة من أكثر من جانب مهم.
في كل عام، يسأل استطلاع جالوب الناس في مختلف أنحاء العالم: "هل أنت راض أو مستاء في ما يتصل بحريتك في اختيار ما تفعله بحياتك؟" ورغم أن هونج كونج تحتل المرتبة التاسعة عالميا من حيث نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي، فإن مرتبتها تتدنى كثيرا، إلى السادسة والستين، في ما يتصل بتصور جماهير الناس للحرية الشخصية في اختيار طريقة الحياة أو مسارها. ويتجلى بوضوح ذات التناقض في فرنسا (المرتبة 25 في نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي، ولكن المرتبة 69 في ما يتصل بحرية الاختيار) وفي شيلي (المرتبة 48 والمرتبة 98 على التوالي).
من عجيب المفارقات أن كلا من مؤسسة التراث وجامعة سيمون فريزر تصنف هونج كونج على أنها تتمتع بأكبر قدر من الحرية الاقتصادية في العالم بأسره، ومع ذلك يشعر سكان هونج كونج باليأس وفقدان الأمل في ما يتصل بحريتهم في اختيار ما يفعلون بحياتهم. في جميع الدول الثلاث، فَقَد الشباب في الحضر الذين لم يولدوا في بيئة ثرية الأمل في الحصول على الفرصة لإيجاد سكن بسعر معقول ووظيفة لائقة. وفي هونج كونج، تُعَد أسعار العقارات، نسبة إلى متوسط الرواتب، بين أعلى الأسعار في العالم. أما شيلي فلديها أعلى مستويات التفاوت في الدخل في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أو نادي الدول المرتفعة الدخل. وفي فرنسا يتمتع أبناء الأسر التي تنتمي إلى النخبة بمزايا واسعة على مدار حياتهم.
وبسبب أسعار المساكن الشديدة الارتفاع، يُدفَع أغلب الناس بعيدا عن المناطق التجارية المركزية ويعتمدون عادة على المركبات الشخصية أو وسائل النقل العام للذهاب إلى العمل. وبالتالي فربما يكون قسم كبير من عامة الناس حساسا بشكل خاص للتغييرات في أسعار النقل، كما يتضح من انفجار الاحتجاجات في باريس وسانتياجو.
الواقع أن هونج كونج، وفرنسا، وشيلي ليست وحدها في مواجهة أزمة الحراك الاجتماعي والمظالم بشأن فجوات التفاوت. فالولايات المتحدة تشهد ارتفاعا كبيرا في معدلات الانتحار وغير ذلك من علامات الكدر الاجتماعي، مثل إطلاق النار على حشود، في وقت يتسم بقدر غير مسبوق من التفاوت بين الناس وانهيار الثقة العامة في الحكومة. ومن المؤكد أن الولايات المتحدة ستشهد مزيدا من الانفجارات الاجتماعية إذا واصلنا العمل السياسي والاقتصادي كالمعتاد.
إذا كان لنا أن نتجنب هذه النتيجة، فيتعين علينا أن نستخلص بعض الدروس من أحدث ثلاث حالات. لقد باغتت الاحتجاجات الحكومات الثلاث. فمع فقدانها للقدرة على التواصل مع المشاعر العامة، لم تتوقع هذه الحكومات أن يؤدي إجراء سياسي بسيط في ظاهره (مشروع قانون تسليم المجرمين في هونج كونج، وزيادة ضريبة الوقود في فرنسا، ورفع أسعار تذاكر المترو في شيلي) إلى إشعال شرارة انفجار اجتماعي هائل.
لعل الأمر الأكثر أهمية، والأقل إثارة للدهشة، هو أن التدابير الاقتصادية التقليدية غير كافية على الإطلاق لقياس المشاعر الحقيقية لجماهير الناس. فنصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي يقيس متوسط دخل أي اقتصاد، لكنه لا ينبئنا بأي شيء عن توزيعه، أو تصورات الناس حول العدالة والظلم، أو شعور عامة الناس بالضعف المالي، أو غير ذلك من الظروف (مثل الثقة في الحكومة) التي تؤثر بشدة على نوعية الحياة في الإجمال. كما أن تصنيفات مثل مؤشر المنتدى الاقتصادي العالمي للتنافسية العالمية، ومؤشر مؤسسة التراث للحرية الاقتصادية، ومقياس جامعة سيمون فريزر للحرية الاقتصادية على مستوى العالم، لا تعبر إلا قليلا عن شعور عامة الناس الشخصي بالنزاهة والعدالة، وحرية اتخاذ القرار بشأن اختيارات الحياة، ونزاهة الحكومة، وجدارة إخوانهم المواطنين بالثقة.
لمعرفة المزيد عن هذه المشاعر، من الضروري أن نسأل جماهير الناس بشكل مباشر حول رضاهم عن الحياة، وشعورهم بالحرية الشخصية، وثقتهم في الحكومة ومواطنيهم، وحول أبعاد الحياة الاجتماعية الأخرى التي تؤثر بشدة على نوعية الحياة وبالتالي على احتمالات الفوران الاجتماعي. هذا هو النهج الذي تتبعه دراسات مؤسسة جالوب السنوية لاستقصاء مستويات الرفاهة، التي أقوم أنا وزملائي بتسجيلها كل عام في تقرير السعادة العالمية.
تتمثل فكرة التنمية المستدامة، التي تنعكس في أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي تبنتها حكومات العالم في عام 2015، في تجاوز المؤشرات التقليدية مثل نمو الناتج المحلي الإجمالي ونصيب الفرد في الدخل، إلى مجموعة أكثر ثراء من الأهداف، بما في ذلك العدالة الاجتماعية، والثقة، والاستدامة البيئية. على سبيل المثال، تلفت أهداف التنمية المستدامة قدرا خاصا من الاهتمام ليس فقط للتفاوت في الدخل (هدف التنمية المستدامة العاشر)، بل وأيضا لمقاييس الرفاهة الأعرض اتساعا (هدف التنمية المستدامة الثالث).
يتعين على كل مجتمع أن يقيس نبض سكانه وأن ينتبه جيدا إلى مصادر التعاسة الاجتماعية وانعدام الثقة. إن النمو الاقتصادي في غياب العدالة والاستدامة البيئية وصفة مؤكدة للفوضى، وليس للرفاهة. وسوف نحتاج إلى توفير قدر أكبر كثيرا من الخدمات العامة، والمزيد من إعادة توزيع الدخل من الأغنياء إلى الفقراء، والمزيد من الاستثمارات العامة لتحقيق الاستدامة البيئية. وحتى السياسات المعقولة بوضوح مثل إلغاء دعم الوقود أو زيادة أسعار تذاكر المترو لتغطية التكاليف من شأنها أن تفضي إلى ارتباكات هائلة إذا جرى تنفيذها في ظل ظروف انخفاض الثقة الاجتماعية، واتساع فجوات التفاوت، وإحساس مشترك على نطاق واسع بالظلم.