ترامب منفرداً للانسحاب من سوريا
وسط معارضة داخلية شرسة
Think Tanks Monitor
2019-10-14 05:51
"انقلاب في القصر ضد (الرئيس) ترامب قادته وكالة الاستخبارات المركزية،" هي ميزة التطورات الأخيرة بين البيت الأبيض ومعارضيه في "السي آي إيه وآليات الحزب الديموقراطي،" والأجهزة الأمنية للإطاحة به.
تعود تلك الخلاصة إلى المسؤول الأسبق في وكالة الاستخبارات والأستاذ في جامعة جورج تاون، روبرت باير، لسبر أغوار التجاذبات والاصطفافات الأخيرة داخل أركان السلطة السياسية بصورة علنية غير معهودة أو مسبوقة. (مقابلة مع شبكة سي أن أن، 7 أكتوبر).
يشار إلى أن (باير) يعد من مناوئي الرئيس ترامب الأشداء ولا يتوانى عن إعلان كراهيته له، مما يضيف مصداقية مضاعفة لتصريحاته سالفة الذكر.
من بين المسلمات السياسية أن الرئيس ترامب ما برح يردد وفاءه لوعوده الانتخابية بسحب القوات الأميركية من أفغانستان وسوريا، واجه معارضة شديدة عند كل نقطة مفصلية من قبل القيادة العسكرية (البنتاغون) ووكالة الاستخبارات المركزية، بالإضافة للقوى الأخرى المصطفة فيما أسماه بـ "الدولة العميقة" من أجهزة أمنية وركائز الحزب الديموقراطي.
انتهز الرئيس ترامب ما اعتبره فرصته السانحة لتسديد ركلة للوكالة المركزية، عقب إعلانها عن مسؤولية أحد ضباطها المفروزين للبيت الأبيض بإفشاء تفاصيل مكالمته الهاتفية مع الرئيس الاوكراني، مؤخراً، وما رافقها من سعار سلسلة استجوابات مجلس النواب لكبار المسؤولين والمقربين من الرئيس وممن غادروا الإدارة، في سياق التحقيق للبدء بإجراءات العزل.
يشار أيضا إلى أن القوات الأميركية التي رابطت في منطقة شمال شرق سوريا كان جلها من القوات الخاصة بالتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية، في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، والتي تراوح تعدادها بين 300-500 عنصر، وفق التصريحات الرسمية حينئذ.
بضع ساعات شكلت الفاصل بين إعلان البيت الأبيض عن "سحب قوات أميركية" في الشمال السوري وبدء أنقرة لعملياتها العسكرية، مهد لها ترامب بالإعلان عن عدم مشاركة بلاده "بالعمليات العسكرية العبثية" التي ستشهدها منطقة الشمال الشرقي لسوريا.
قوافل من الشاحنات العسكرية الأميركية وناقلات الجند المدرعة شوهدت متجهة إلى مدينة (أكاكالي) على الحدود التركية عشية بدء الغزو التركي. وزارة الدفاع الأميركية، البنتاغون، أشارت إلى الغرض من سحب القوات الأميركية بأنه "لضمان سلامتهم.. لكنهم لن يخرجوا من سوريا."
ترافقت تلك التطورات مع تحركات الجيش العربي السوري باتجاه مدينة منبج الاستراتيجية حسبما أعلنته "قوات سوريا الديموقراطية – قسد."
علل الرئيس ترامب التطورات "المقبلة" في الشمال السوري، عقب مكالمته الهاتفية مع نظيره التركي، والذي صرح بدوره بأن بلاده على وشك شن هجوم عسكري هناك. وأوضح لطواقم الصحافيين في البيت الأبيض، 7 أكتوبر الجاري، أنه عزم على "إعادة القوات الأميركية لموطنها.. بعضها قضى عدة عقود بعيداً عن البلاد؛ فقد كسبت الانتخابات الرئاسية استناداً لهذا الوعد."
وأردف ".. أمنيتنا هي إعادة قواتنا إلى البلاد وبعيداً عن تلك الحروب اللامتناهية." حقيقة الأمر أن تعداد تلك القوات مجهرية، بضع مئات، مقارنة بالقوات الأميركية المعلن عنها في المنطقة؛ وما جرى هو إعادة تموضعها من مناطق محددة في الشمال السوري إلى قواعدها العسكرية المنتشرة في العراق وسوريا أيضاً، لا سيما قاعدة عين الأسد في العراق، بالقرب من الحدود المشتركة مع سوريا.
في ذات السياق، أعلنت البنتاغون عن زيادة جديدة في حجم القوات الأميركية في الشرق الأوسط "منذ شهر أيار/مايو الماضي بلغ تعدادها أزيد من 14،000 عسكري." وأوضحت في بيانها أن مجموع القوات في المنطقة "تفوق 60،000 جندي بعضهم يرابط في قواعد متعددة والآخر على متن حاملات الطائرات المنتشرة." (11 أكتوبر الجاري).
وأضاف ترامب لطمأنة معارضيه في الداخل الأميركي، من الحزبين وقوى أخرى "..إذا فعلت تركيا أي شيء أعتبره، بحكمتي العظيمة والتي لا تضاهى، تجاوزاً للحدود، سأدمر وأشلّ اقتصادها بالكامل (وقد فعلت ذلك سابقا)، يجب عليها وعلى أوروبا والآخرين، التكفل برقابة أسرى مقاتلي داعش وعائلاتهم."
لم يكشف البيت الأبيض أو أي مسؤول آخر حقيقة "الخطوط الحمر" التي رسمها الرئيس ترامب لنظيره التركي، ما لبث ان أوضحه لاحقاً في تغريداته بتاريخ 9 أكتوبر "لقد التزمت تركيا بحماية المدنيين، وحماية الأقليات الدينية، بما في ذلك المسيحيون، وضمان عدم حدوث أزمة إنسانية – وسنجعلهم يلتزمون بهذا التعهد."
واستطرد قائلاً بأن تركيا أضحت مسؤولة الآن عن ضمان الاحتفاظ بجميع مقاتلي داعش والمحتجزين في السجون، وأنه أبلغ الرئيس التركي بأن أميركا لا تؤيد العدوان على الأراضي السورية بل هي "فكرة سيئة." وأضاف مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية، 10 أكتوبر، أن بلاده أبلغت أنقرة بأنها ".. لن تغطي العملية سياسياً او تدعمها عسكرياً."
المعلومات الميدانية (الأميركية) أشارت إلى أن القوات التركية مهدت غزوها للأراضي السورية بقصف مدفعي شرس على بوابات سجون داعش، التي كانت تحت سيطرة القوات الكردية؛ مما يعني أن نحو 12،000 مقاتل داعشي قد يتم إطلاق سراحهم، بضمنهم نحو 4000 مسلح أجنبي، فضلاً عن 18،000 مسلح أخرين "مختبئين في المنطقة."
سياسياً، توحدت لهجة معارضة الرئيس ترامب من قبل الحزبين، بعضهم اعتبر اقدامه على الخطوة منفرداً ودون تنسيق مسبق مع قادة الكونغرس، ومجموعة نددت بها كونها "طعنة بظهر" الكرد حلفاء واشنطن وتهدد المصالح الأميركية، لا سيما وأن واشنطن هي التي طلبت من الكرد، أوائل عام 2015، مساعدتها لقتال داعش.
أنصار الرئيس في الكونغرس انضموا بغالبيتهم لحملة الانتقادات الغاضبة، أبرزهم السيناتور ليندسي غراهام معتبراً قرار ترامب "ينطوي على كارثة،" ودعاه "للعودة عن قراره" بسحب القوات الأميركية من سوريا. وحث الرئيس ترامب على المبادرة بإحاطة مجلس الشيوخ بتلك التطورات في جلسة مغلقة.
وأعرب نحو 29 عضو عن الحزب الجمهوري في مجلس النواب عن دعمهم لمشروع قرار يفرض عقوبات اقتصادية على تركيا رداً على عمليتها العسكرية ضد قسد.
أما استطلاعات الرأي المتعددة فتشير بوضوح إلى انقسام عامودي بين مؤيد ومعارض لقرار ترامب. أحدثها تشير إلى نحو 54% غير راضين عن سياسات الرئيس مقابل 42% من المؤيدين. نتائج معدل الاستطلاعات المتعددة، لنهاية يوم 10 أكتوبر، بلغت نسباً مشابهة: 54% معارضين مقابل 43% مؤيدين. (موقع ريل كلير بوليتيكس Real Clear Politics).
عند مساءلة المستطلعة آراءهم حول تصريح الرئيس ترامب بأنه "آن الأوان للخروج من تلك الحروب السخيفة واللامتناهية،" كانت النتائج في صالح الرئيس: 58% مؤيد مقابل 20% معارض؛ شملت دعم 55% من الديموقراطيين لتصريح الرئيس، ودعم 69% من الجمهوريين.
الغزو التركي للأراضي السورية يطمح للتوغل بعمق 40-50 كلم ونحو 500 كلم طولاً، بخلاف ما اتفق عليه مع الجانب الأميركي سابقاً بعمق لا يتجاوز 6 كلم (3 أميال) و30 ميلاً طولياً.
المنطقة المترامية الأطراف تتحكم بها طريق M4 الدولي بمحاذاة الحدود التركية تخترق الأراضي السورية بدءاً من مدينة حلب غربا عبر الجزيرة السورية وإلى معبر ربيعة على الحدود العراقية.
بكلمة أخرى هي الطريق الحيوي لسلة الغذاء والطاقة السورية، ولعلها أبرز الأهداف المضمرة للغزو التركي، بعد أن قرر الجانب الأميركي تسليم مهمة استكمال تقسيم سوريا بأدوات تركية مباشرة.
ماذا بعد
الاستراتيجية الأميركية لم تغادر مربع طموحها للإطاحة بالنظام السوري وتقسيم البلاد وفق أسس عرقية وطائفية. فالغزو التركي، كما وصفه الرئيس ترامب نفسه لم يكن سيرى النور دون تنسيق، بشكل أو بآخر، مع واشنطن.
ولعل عدم إدانة واشنطن في مجلس الأمن بقرار يدين الغزو التركي أبرز مثال على تورط الرئيس الأميركي وكبار أعوانه في التكامل مع أنقرة ومنحها الضوء الأخضر، وربما تكليفها بتنفيذ الأجندة الأميركية لتفتيت الدولة السورية وسط صراخ عالي الوتيرة في واشنطن بأنها يتعين عليها الاستثمار في شرقي آسيا لمواجهة الصين وروسيا.
أما تصريحات ترامب وتهديده تركيا بإنزال عقوبات اقتصادية ضدها "واستعداده لشل" اقتصادها بشكل تام فلا تعدو أكثر من خطوة استعراضية لابتزاز تركيا وامتصاص المعارضة الواسعة له، أميركياً ودولياً، لا سيما دول الاتحاد الأوروبي وما تكنه من عداء متأصل ضد "تركيا الإسلامية،" ودعمها لنزعات الكرد الانفصالية.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى تواجد قوات خاصة أميركية لا تزال تعمل بجانب القوات الكردية، واستمرار عمليات تسليحها كخطوة ضامنة لعدم توغل الجانب التركي أبعد مما هو متفق عليه أميركياً، عدا عن الدعم السري المزمن للجماعات الكردية الانفصالية من قبل دولة الكيان الصهيوني.
أما في الشق العسكري التركي، فأن معظم قواته تعاني من معضلات ميدانية وعملياتية، أوضحها تقرير لمعهد واشنطن، آذار/مارس 2019، في سياق تقييمه لفعالية القوات التركية في سوريا.
وجاء في التقرير أن التحديات أمام القوات العسكرية التركية تشمل: غياب الانضباط، تقدم عمر المعدات مثل المدرعات، الفشل في اعتراض القوات الكردية غربي وادي الفرات، وعدم القدرة على تحقيق الأهداف المرسومة للعمليات الحربية.
ضرب الرئيس ترامب موعداً مسبقاً لزيارة الرئيس التركي اردوغان لواشنطن، 13 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وكأنه يمنحه تلك الفرصة الزمنية لإنجاز المهمة المتفق عليها. بيد أن التطورات الميدانية والإقليمية والدولية قد تعرقل الزيارة وربما تسهم في إلغائها بالكامل، مما يستحدث مسألة إنزال العقوبات على بساط البحث.
كما تستمر ادارة ترامب في ارسال الإشارات المتناقضة حول عزمها سحب القوات الأميركية من المنطقة بينما ترسل المزيد من مئات الجنود والمعدات العسكرية للسعودية بهدف تعزيز قدرات الأخيرة ضد ايران، وفي موقف يتحدى أغلبية الكونغرس المطالبة بتجميد الدعم للسعودية بسبب جرائمها في عدوانها على اليمن.