هل أميركا مستعدة لدولة الرفاهة؟
بروجيكت سنديكيت
2019-05-13 07:45
بقلم: خورخي كاستانييدا
مكسيكو سيتي ــ بصفتي أجنبيا يعكف حاليا على تأليف كتاب عن الأميركيين، تشجعني بعض الإشارات التي أراها مع اكتساب الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2020 المزيد من السخونة. على وجه الخصوص، في حين يجري الآن على قدم وساق سباق الترشح عن الحزب الديمقراطي، يدعو العديد من المرشحين إلى انتهاج سياسات جريئة تعالج بعض التحديات الأكثر أهمية التي تواجهها الولايات المتحدة منذ عقود من الزمن.
تقضي مقترحات هؤلاء المرشحين الأكثر بروزا بخلق عناصر دولة الرفاهة الأميركية الحديثة في مجالات مثل الرعاية الصحية، ورعاية الأطفال، والتعليم. ويتبقى لنا أن نرى ما إذا كانت هذه المقترحات لتتمكن من النجاة من سخونة الحملة الانتخابية الرئاسية. ولكن سواء فاز ديمقراطي أو خسر في عام 2020، فقد عادت الديمقراطية الاجتماعية إلى الظهور في السياسة الأميركية للمرة الأولى منذ ثلاثينيات القرن العشرين.
الحق أن هذا التطور ربما يكون شديد الأهمية. فعلى مدار قسم كبير من تاريخها، وبالتأكيد منذ سافر أليكسيس دي توكفيل عبر الجمهورية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كانت الولايات المتحدة دولة للطبقة المتوسطة. أو ربما على نحو أكثر دقة، كانت تنكر حقوق أغلبية السكان ــ بما في ذلك العبيد الأميركيين من أصل أفريقي والأميركيين الأصليين، فضلا عن النساء من ذوات البشرة البيضاء ــ في حين كانت توفر قدرا غير مسبوق من المساواة لبقية مواطنيها.
تضخمت الطبقة المتوسطة في أميركا وازدهرت على نحو مستمر بشكل أو آخر على مدار فترة القرن ونصف القرن التالية، الأمر الذي عمل فعليا على منع نشوء ذلك النوع من دولة الرفاهة الاجتماعية التي بدأت دول غنية أخرى تؤسس لها من أواخر القرن التاسع عشر فصاعدا. صحيح أن الولايات المتحدة قدمت نظام المعاش الفيدرالي للشيخوخة (الضمان الاجتماعي) في ثلاثينيات القرن العشرين، وأنشأت بتمويل حكومي برنامجي ميديكر (للمسنين) وميديكيد (للفقراء) للتأمين الصحي في ستينيات القرن العشرين. ولكن طالما كان الأميركيون من الطبقة المتوسطة يتمتعون بالتشغيل الكامل للعمالة، وأجور مرتفعة نسبيا، ظلت الأفكار الأكثر جرأة، مثل الرعاية الصحية الشاملة الممولة حكوميا والتأمين المناسب ضد البطالة، خارج الأجندة السياسية الرئيسية.
كان هذا صحيحا بشكل خاص خلال فترة العقود الثلاثة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى أواخر السبعينيات. لكن حظوظ الأميركيين الاقتصادية بدأت تضمحل بعد ذلك. لأسباب متنوعة، بما في ذلك سياسات الرئيس رونالد ريجان الاقتصادية، والعولمة، وخسارة القدرة التنافسية الأميركية، بدأت فجوة التفاوت تتسع، وأصاب الركود الأجور والدخول الحقيقية (المعدلة تبعا للتضخم)، وبدأت الطبقة المتوسطة تتقلص.
لا تزال هذه الاتجاهات السلبية قائمة إلى اليوم، وهي تفسر جزئيا فوز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية في عام 2016. علاوة على ذلك، أصبحت الحجة لصالح دولة الرفاهة البسيطة في الولايات المتحدة متزايدة الوضوح بفِعل الصعوبات الاقتصادية الشديدة. ولكن الآن فقط بدأ الساسة الأميركيون المنتمون إلى التيار الرئيسي يناصرون هذا التوجه صراحة وعلنا.
بدرجات متفاوتة، تبنى المتنافسون الرئيسيون على الترشح عن الحزب الديمقراطي في عام 2020 العديد من مبادئ دولة الرفاهة الحديثة، حتى أن ترمب وحزبه الجمهوري هاجموهم لأنهم يريدون جلب الاشتراكية إلى أميركا، واتهموا الديمقراطيين بأنهم يريدون تحويل الولايات المتحدة إلى فنزويلا.
الواقع أن العديد من المرشحين الديمقراطيين دعوا إلى توسع كبير للرعاية الصحية الممولة من قِبَل الحكومة. لكن مقترحاتهم ــ نظام الدافع المنفرد ("الرعاية الطبية للجميع")، أو الخدمات الصحية الوطنية، أو أي شيء أخر ــ لا تعني جميعها نفس الشيء. فلا يتفق العديد من المتنافسين ــ بما في ذلك بيرني ساندرز، وإليزابيث وارِن، وكامالا هاريس، وبيتو أورورك ــ بشكل كامل على تفاصيل مثل هذه المخططات، أو أنهم ببساطة لم يوضحوا هذه التفاصيل. ولكن بعد أن حاول الرئيس السابق باراك أوباما إصلاح كارثة الرعاية الصحية الأميركية بالاستعانة بتدابير جزئية ــ التي يزعم بعض المراقبين أنها كانت أقصى ما يمكن تنفيذه في ذلك الوقت ــ فمن الواضح أن أولئك الذين يتنافسون على ترشيح الحزب الديمقراطي لديهم خطط أكثر طموحا.
من ناحية أخرى، اقترحت وارِن تقديم رعاية الأطفال الشاملة، على أن يتم تمويلها باستخدام إيرادات ضريبة ثروة تفرض على الثروات التي تتجاوز 50 مليون دولار. وربما تبدو هذه الضريبة ثورية، لكنها ليست كذلك. فكما يشير وزير العمل الأميركي السابق روبرت رايش في كثير من الأحيان، فرضت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة ضرائب تصاعدية للغاية على الممتلكات والتي أثرت على أولئك الذين تتمثل أصولهم الوحيدة في مساكنهم.
كما اقترح المرشحون الديمقراطيون التعليم المجاني الشامل في الجامعات العامة، وزيادة معدلات ضريبة الدخل الهامشية إلى مستويات ما قبل ريجان، وفرض ضريبة كربون على مصادر الطاقة غير المتجددة. كل هذه الأفكار مثيرة، ومبدعة، ومعطلة للنظم القائمة ــ وكانت مقصورة على اليسار المتطرف قبل أربع سنوات فقط. لن يخلق تنفيذ كل هذه السياسات دولة الرفاهة الأميركية بين عشية وضحاها، لكن الولايات المتحدة قد تبدو أقرب شبها بعض الشيء بالدول الإسكندنافية.
فضلا عن ذلك، يريد بعض المرشحين الديمقراطيين إصلاح النظام السياسي المختل في الولايات المتحدة لزيادة فرص خلق دولة الرفاهة. وبشكل خاص، اقترحت وارِن مؤخرا إلغاء المجمع الانتخابي، حتى يصبح في الإمكان بدلا من ذلك انتخاب رؤساء الولايات المتحدة عن طريق التصويت الشعبي الوطني. ففي عام 2000، ومرة أخرى في عام 2016، فاز المرشح الرئاسي الديمقراطي بأغلب الأصوات في الإجمال لكنه لم يفز بالرئاسة رغم ذلك.
لن ينجح اقتراح وارِن في الأمد القريب. لكن حقيقة أن المرشح الرئيسي يروج له تشير إلى أن الأميركيين ربما يفكرون بشكل أكثر جدية في الكيفية التي يعمل بها نظامهم السياسي (أو لا يعمل).
هناك العديد من العوائق التي تحول دون تحقيق مقترحات دولة الرفاهة هذه بعد عام 2020، بدءا من احتمال إعادة انتخاب ترمب. علاوة على ذلك، ربما ينحرف المرشح الديمقراطي بعيدا عن الثوابت الجذرية الجوهرية في برنامج الحزب، ويختار برنامجا أكثر اعتدالا على أمل اجتذاب العدد الكافي من الناخبين الوسطيين لإلحاق الهزيمة بترمب. وحتى إذا انتخب ديمقراطي يدعم العديد من إصلاحات دولة الرفاهة هذه رئيسا للولايات المتحدة، فربما يكون غير قادر أو غير راغب في تنفيذها.
مع ذلك، يدافع المرشحون الديمقراطيون البارزون عن سياسات دولة الرفاهة التي كانت لتبدو غير واردة على الإطلاق تقريبا حتى وقت قريب. ومع اكتساب هذه الأفكار المزيد من الثِقَل بين أبناء الطبقة المتوسطة المضغوطة في البلاد، فإنها تعمل على تغيير شروط المناظرة السياسية في الولايات المتحدة. ولهذا السبب وحده، تبدو حملة الانتخابات الرئاسية لعام 2020 بالفعل على بُعد سنوات ضوئية عن الابتذال والذم الفارغ الذي شهدناه في عام 2016.