بريطانيا بين اللا خيار واللا خروج

بروجيكت سنديكيت

2019-03-21 07:06

روبرت سكيدلسكي

لندن ــ قلبت محاولة بريطانيا المتعثرة للخروج من الاتحاد الأوروبي وهمين عاشهما العالم منذ نهاية الحرب الباردة رأسا على عقب. هذان الوهمان هما: السيادة الوطنية والتكامل الاقتصادي، أو نقطتا نهاية التاريخ المتلازمتان، على حد وصف فرانسيس فوكوياما في مقاله الشهير عام 1989.

قانونيا، يتكون العالم من 191 دولة ذات سيادة لها حرية الدخول في معاهدات واتفاقيات واتحادات لترتيب علاقاتها مع بعضها بعضا. وبريطانيا واحدة من تلك الدول. وسيكون فشلها في تحقيق خروج هادف من الاتحاد الأوروبي سابقة في التاريخ الحديث لدولة كبرى ذات سيادة تُجبر على البقاء في اتحاد اختياري بسبب التكلفة الباهظة المترتبة على الخروج، رغم أن القانون يكفل لها حرية القيام بذلك.

هنا يجب أن نفهم الإكراه على أنه سلسلة متصلة من الضغوط، تمتد من استخدام القوة عند أحد طرفيها إلى العقوبات الاقتصادية والثقافية الخفيفة على الطرف الآخر، وهنا تقاس سيادة أي دولة بمدى تأثرها بأشكال الإكراه المختلفة التي يمكن أن تتعرض لها.

وفقا لهذا المعيار، سنجد أن قِلة قليلة للغاية من دول العالم المائة وإحدى وتسعين تتمتع بسيادة حقيقية، بمعنى أن القوة العسكرية وحدها هي القادرة على إجبارها على تغيير سياساتها وأنظمة حكمها. وتضم هذه الفئة بالتأكيد الولايات المتحدة والصين وروسيا، وربما اليابان والهند. وكانت بريطانيا تستكشف حدود سيادتها في ظل ظروف مؤلمة.

لقد ثبت أنه من المستحيل تقريبا تنفيذ نتيجة الاختيار الثنائي البسيط الذي أتيح للناخبين البريطانيين في استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي في يونيو/حزيران من عام 2016. ولا تكمن العقبة الرئيسة في تعقيدات التفاوض بشأن اتفاقيات جديدة، لكن في تقدير هؤلاء المسؤولين عن الحياة السياسية في بريطانيا الذين يرون أن تكاليف أي انسحاب بات ونهائي ستكون ضخمة للغاية.

لقد كرست رئيسة الوزراء تيريزا ماي كل جهودها خلال الثلاثين شهرا الماضية تقريبا لاحترام تصويت الناخبين بالخروج اسما لا فعلا. يعزز هذه الاستراتيجية حقيقة أنه لم تتضح قط بشكل كامل ماهية الكيان الذي ستغادره بريطانيا، إذ يشبه الاتحاد الأوروبي وأنظمته الاقتصادية الفرعية المتداخلة قنديل البحر الهلامي أكثر من كونه اتحادا سياسيا واقتصاديا.

ولا تشكل القدرة على مغادرة الاتحاد الأوروبي الاختبار الحقيقي للسيادة الوطنية عند الطبقة السياسية في بريطانيا، بل القدرة على الخروج بأقل قدر ممكن من التعطيل لسير العمل المعتاد، أي التكامل الاقتصادي البريطاني مع دول الاتحاد الأوروبي. لكن ماذا عن هؤلاء الذين صوتوا واختاروا قطعا باتا للعلاقات البريطانية مع الاتحاد الأوروبي؟

يأخذنا هذا إلى الوهم الثاني وهو: الاعتقاد الأعمى في الأفضلية العظمى للتكامل الاقتصادي عبر الحدود، مع اللازمة المنطقية لهذا الاعتقاد القائلة بأن الحدود بين الدول تعوق التكامل الأمثل بين الأسواق. ووفقا لهذه النظرة، تقتصر وظيفة الدولة القومية (الدولة الأمة) على ضمان امتثال السياسات القومية لمعايير الأسواق، وهي نظرة تعتبر الدول مجرد أفرع للحكومة.

لكن كما أوضح بقوة واستفاضة داني رودريك، أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد، فإن هذه النظرة للدول القومية، التي تعتبرها مجرد أدوات للتكامل العالمي، تتجاهل حقيقة مفادها أن الحكومات المعاصرة مسؤولة بشكل عام أمام شعوبها عن قراراتها. فقد يفيد هذا التكامل الاقتصادي الجميع في الأمد البعيد، لكنه يسبب خللا اقتصاديا وثقافيا كبيرا في الأمد القريب. ولهذا السبب نشأ صراع بين التكامل الاقتصادي والسياسات الديمقراطية.

كان مهندسو الاتحاد الأوروبي ينظرون إلى أعضاء الاتحاد من الدول القومية في المقام الأول على أنها أدوات قانونية للتأسيس لحريات السوق الموحدة الأربع وهي حرية حركة السلع والأموال والخدمات والعمالة. لكن الحكومات في الاتحاد الأوروبي مسؤولة أمام ناخبيها، ولا يمكنها تجاهل تكاليف التكامل الاقتصادي بنفس القدر من الاستخفاف الذي تسنى لحكومات القرن التاسع عشر، التي كانت مهووسة بالجماهير الانتخابية الصغيرة والإمبراطوريات الواسعة.

منذ زمن بعيد، أدرك أنصار التكامل الأوروبي الرصينون مشكلة القصور الديمقراطي في الاتحاد الأوروبي، لكن التحرك لمعالجة هذا الأمر كان محدودا للغاية. فالممارسات السياسية، عكس الاقتصادات، لم تنتقل إلى ما وراء الحدود القومية بشكل مؤثر أو جوهري. لذا كان من المنطقي تماما أن يطالب المقتنعون بفكرة التكامل الأوروبي، مثل وزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس، بإنشاء الولايات المتحدة الأوروبية، فليس هناك، في رأيهم، ما هو أقدر على تحويل السوق الموحدة إلى كيان شرعي ديمقراطيا من برلمان حقيقي يحاسب رئيسا منتخبا.

لكن فكرة الولايات المتحدة الأوروبية تتجاوز أساليب السياسة العملية، فلا يمكن إضفاء الشرعية على ديمقراطية بعينها بمجرد كتابة دستور جديد، إذ يحب أن يكون لدى الناخبين شعور داخلي متأصل بالتملك والتحكم في سياسة بلادهم، ومثل هذا الشعور بالتملك والالتزام ينمو طبيعيا وليس إلزاميا.

لذا برغم كل المعلومات الإضافية التي صارت متاحة لنا الآن عن تكاليف وتعقيدات الخروج البريطاني، فإن الجدال بشأنه لم يراوح مكانه ولم يتقدم خطوة للإمام منذ صيف 2016. في الثالث عشر من يونيو/حزيران 2016، كتب الصحفي البريطاني أمبروس إيفانز-بريتشارد، وهو من مؤيدي الخروج من الاتحاد الأوروبي، مقالا في صحيفة ديلي تلغراف تحدث فيه عن "الاختيار المصيري لبريطانيا: إما استعادة هذه الأمة للحكم الذاتي الكامل، أو مواصلة العيش تحت نظام فوق وطني علوي يحكمه المجلس الأوروبي الذي لا ننتخبه بأي معنى حقيقي".

يوافق رودريك على أن "قوانين الاتحاد الأوروبي المطلوبة لدعم سوق أوروبية موحدة قد امتد نطاقها بشكل كبير ليتجاوز حدود ما يمكن دعمه بالشرعية الديمقراطية"، لكنه يظل متفائلا بإمكانية نشوء نظام حكم أوروبي موحد لدعم السوق الموحدة.

السؤال هو ما إذا كان بوسع المملكة المتحدة الآن اختيار حكم ذاتي حقيقي. إذ يبدو أنها عالقة في شبكة لا مهرب منها. وإذا أصبحت هذه الورطة محسوسة على نطاق أوسع بين جمهور الناخبين في الاتحاد الأوروبي، فإن هذا يعني نهاية الديمقراطية الليبرالية الأوروبية. وما عودة الأشباح ببعيدة، وأعني هنا ارتفاع مد الديمقراطية غير الليبرالية، إن لم يكن ما هو أسوأ.

* روبرت سكيدلسكي، أستاذ فخري لعلوم الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك، وعضو في مجلس اللوردات البريطاني ومؤلف سيرة حياة ثلاثة مجلدات من جون ماينارد كينز، أصبح المتحدث باسم حزب المحافظين لشؤون الخزانة في مجلس اللوردات، ثم أُجبر في النهاية على الخروج من حزب المحافظين لمعارضته تدخل الناتو في كوسوفو عام 1999.
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا